تجد الولايات المتحدة نفسها مجددًا أمام أزمة سياسية واقتصادية عميقة بعد أن دخلت الحكومة الفيدرالية في حالة إغلاق هي الأولى منذ سبع سنوات تقريباً، لتفتح الباب أمام موجة جديدة من الشلل المؤسسي وعدم اليقين بشأن ملامح الولاية الثانية للرئيس دونالد ترامب.
جاء الإغلاق بعد فشل الجمهوريين والديمقراطيين في التوصل إلى صيغة توافقية لتمويل الحكومة، الأمر الذي يهدد استقرار مئات الآلاف من الوظائف ويضع الاقتصاد الأميركي في مواجهة كلفة باهظة.
الإغلاق الحكومي الأميركي ليس حدثًا جديدًا في التاريخ السياسي للبلاد، فقد شهدت واشنطن 14 تجربة مماثلة منذ عام 1980، كان أطولها في شتاء 2018-2019 حين توقفت مؤسسات الدولة جزئيًا على مدى خمسة أسابيع بسبب الخلافات حول تمويل الجدار الحدودي. لكن المرة الحالية تحمل خصوصية أكبر، إذ تتداخل مع ملفات داخلية شائكة مثل نظام الرعاية الصحية وبرامج الدعم الاجتماعي، ما يزيد حدة الاستقطاب السياسي بين الحزبين الكبيرين.
ولا يقتصر أثر الإغلاق على توقف الخدمات العامة أو تعطيل الموظفين فحسب، بل يمتد ليشمل تعطيل صدور البيانات الاقتصادية الحساسة، مثل تقرير الوظائف الشهري ومؤشرات التضخم، ما قد يربك حسابات المستثمرين ويضع الاحتياطي الفيدرالي أمام تحديات إضافية في إدارة سياسته النقدية. وبذلك يتحول الإغلاق من أزمة تمويلية مؤقتة إلى تهديد أوسع قد ينعكس على ثقة الأسواق الأميركية والعالمية في آن واحد.
أثناء الإغلاق، توقف الحكومة الفيدرالية جميع الوظائف "غير الأساسية"، في حين يُطلب من الموظفين الذين يُعتبر عملهم "أساسياً"، مثل أفراد الخدمة العسكرية وضباط إنفاذ القانون الفيدراليين، التوجه إلى العمل، غالبًا بدون أجر، وفق صحيفة "فايننشال تايمز".
وكان الجمهوريون قد حثوا الديمقراطيين على التوقيع على قرار مستمر، أو إجراء مؤقت، من شأنه أن يبقي تمويل الحكومة عند المستويات الحالية حتى 21 نوفمبر. وزعم الزعماء الديمقراطيون أن أي اتفاق تمويل يتضمن تمديد إعانات الرعاية الصحية المقرر أن تنتهي في نهاية العام.
وفي النهاية، صوت جميع أعضاء مجلس الشيوخ الديمقراطيين، باستثناء ثلاثة، ضد قرار الجمهوريين المستمر، مما يعني أن الإجراء لم يصل إلى الحد الأدنى المطلوب (60 صوتًا) لتمريره في المجلس الأعلى للكونغرس، وكان من شأنه أن يضمن الإغلاق تقريبًا.
وبعد وقت قصير من التصويت، أرسل راسل فوغت، مدير مكتب الإدارة والميزانية في البيت الأبيض، مذكرة إلى رؤساء الإدارات والوكالات الحكومية، يأمرهم فيها "بتنفيذ خططهم للإغلاق المنظم".
ويشير تقرير لصحيفة "نيويورك تايمز" إلى أنه سبق للمستثمرين أن تخلصوا من تهديدات الأضرار الناجمة عن الإغلاقات، لكن تسريحات الموظفين الفيدرالية، وتوقف البيانات الاقتصادية، وغيرها قد تجعل هذه المرة مختلفة. ورصد التقرير أبرز التأثيرات المحتملة، على النحو التالي:
وكان الرئيس الأميركي دونالد ترامب، قد حذر الديمقراطيين، الثلاثاء، من التصويت ضد مشروع قانون سد الفجوة، مهددا بطرد "الكثير" من موظفي الحكومة إذا استمر الإغلاق، على النقيض من القاعدة المتبعة بتسريح العاملين في القطاع العام مؤقتا.
وأشار ترامب يوم الثلاثاء إلى أن إدارته قد تتخذ إجراءات كبرى أثناء الإغلاق، بما في ذلك خفض المزايا الحكومية "لأعداد كبيرة من الناس".
بينما أصر الزعماء الديمقراطيون في الكونغرس على أن أي اتفاق تمويل يجب أن يعكس تخفيضات بقيمة تريليون دولار في برنامج التأمين الصحي للأميركيين ذوي الدخل المنخفض، والتي كانت جزءًا من مشروع قانون الإنفاق الرئيسي لترامب الذي تم تمريره هذا الصيف.
وكان الحزب قد سعى أيضًا إلى تمديد دعم التأمين الصحي لما بعد هذا العام، وعرقلة قدرة الرئيس على الحد من التمويل الذي خصصه الكونغرس بالفعل.
يوضح خبير أسواق المال، محمد سعيد، أن الإغلاق الحكومي الأميركي يمثل "صدمة اقتصادية حقيقية تضرب في مفاصل الاقتصاد، وليست مجرد خبر سياسي عابر"، مشيراً إلى أن جذور الأزمة تبدأ عندما فشل الكونغرس في إقرار ميزانية لتمويل أجهزة الدولة، لتبدأ كرة الثلج في التدحرج.
ويشير سعيد إلى أن التأثير الأول والمباشر يقع على الموظفين الفيدراليين، حيث يتم إرسال ما بين 750 ألف إلى 900 ألف موظف في إجازة إجبارية بدون مرتب، في حين يواصل الموظفون الأساسيون مثل مراقبي الحركة الجوية أو أفراد الأمن عملهم، ولكن دون الحصول على رواتبهم في وقتها. ويضيف أن التأثير يمتد أيضاً إلى آلاف الموظفين في شركات القطاع الخاص المتعاقدة مع الحكومة، والذين قد لا يستعيدون دخولهم حتى بعد انتهاء الأزمة، على عكس الموظفين الفيدراليين الذين يحصلون على رواتبهم المتأخرة لاحقاً.
ويتابع قائلاً إن توقف دخول هؤلاء الموظفين يؤدي إلى تراجع إنفاقهم، وهو ما يضرب الاقتصادات المحلية في المناطق التي تعتمد عليهم، فضلاً عن تجميد المدفوعات والمشروعات الخاصة بالشركات المتعاقدة مع الحكومة، مما يخلق حالة من الشلل الاقتصادي. كما تتعطل خدمات حكومية أساسية مثل إصدار التراخيص وتصاريح الاستيراد والتفتيش على سلامة الغذاء والبيئة، بالإضافة إلى إغلاق المتنزهات الوطنية والمتاحف، وهو ما يضر بقطاع السياحة مباشرة.
ويؤكد سعيد أن الأزمة تتعمق مع تعطّل إصدار بيانات اقتصادية حيوية مثل تقارير الوظائف و التضخم الشهرية، والتي يعتمد عليها المستثمرون والبنك الفيدرالي لاتخاذ قراراتهم. وغياب هذه البيانات يخلق حالة من الضبابية وعدم اليقين في الأسواق، ويرفع مستويات التقلبات. وإذا طال الإغلاق، فقد يمتد تأثيره إلى برامج دعم أساسية مثل المساعدات الغذائية التي تعتمد عليها ملايين الأسر الأميركية.
ويشير إلى أن ثمة بيانات تشير إلى أن كل يوم إغلاق يكلف الاقتصاد نحو 400 مليون دولار، فيما يخفض كل أسبوع حوالي 0.1 إلى 0.2 نقطة مئوية من نمو الناتج المحلي الإجمالي. ويضيف أن الإغلاق الأطول في التاريخ، الذي استمر 35 يوماً بين 2018 و2019، كلّف الاقتصاد نحو 11 مليار دولار، منها 3 مليارات خسائر دائمة لا يمكن تعويضها.
ويختم خبير أسواق المال محمد سعيد بالقول إن "الوضع الحالي في عام 2025 يجعل الاقتصاد الأميركي أكثر هشاشة في مواجهة صدمة بهذا الحجم، خصوصاً مع التباطؤ الحاصل بالفعل في سوق العمل وهو ما يضعف الثقه في الاقتصاد ككل ويرسل رساله سلبيه للمستثمرين والأسواق بشان قدره النظام السياسي على اداره نفسه بكفاءه.
وبحسب تقرير لشبكة "سي إن بي سي" الأميركية، فإنه خلال الإغلاق الحكومي الكامل الأخير في العام 2013، تم تسريح حوالي 850 ألف موظف فيدرالي، مما يعني أنهم كانوا مطالبين بأخذ إجازة غير مدفوعة الأجر، وفقاً للجنة الميزانية الفيدرالية المسؤولة.
وقدر مكتب الميزانية بالكونغرس يوم الثلاثاء أن الإغلاق الحالي من شأنه أن يؤدي إلى تسريح نحو 750 ألف موظف.
وقال مكتب الميزانية في الكونغرس للسيناتور جوني إيرنست، الجمهورية من ولاية أيوا، ردا على طلبها للحصول على معلومات حول تأثير الإغلاق الحكومي: "إن التكلفة اليومية الإجمالية لتعويضاتهم ستبلغ حوالي 400 مليون دولار".
وتشير تقديرات الوكالة إلى أن عدد الموظفين المفصولين عن العمل قد يختلف من يوم لآخر "لأن بعض الوكالات قد تفصل المزيد من الموظفين عن العمل كلما طال أمد الإغلاق، وقد تستدعي وكالات أخرى بعض الموظفين المفصولين عن العمل في البداية".
لكن مكتب إدارة الميزانية التابع لترامب هدد بجعل بعض هذه التخفيضات في الوظائف دائمة، من خلال تحذير الوكالات الفيدرالية في مذكرة حديثة من الاستعداد لعمليات فصل جماعي في حالة الإغلاق.
يقول جو يرق، رئيس قسم الأسواق العالمية في شركة Cedra Markets إن الإغلاق الحكومي في الولايات المتحدة يهدد بشكل مباشر نحو 750 ألف وظيفة، إذ إن عدداً كبيراً من الموظفين سيُجبرون على البقاء في منازلهم، فيما سيعمل آخرون من دون أجور إلى حين عودتهم إلى وظائفهم. هذا الواقع يضع ضغطاً كبيراً على سوق العمل الأميركي".
ويضيف: "من المتوقع أن يؤدي الإغلاق إلى تآكل الناتج القومي الأميركي بنسبة تتراوح بين 0.1 بالمئة و0.2 بالمئة أسبوعياً، وهو أثر غير مسبوق مقارنة بالإغلاقات السابقة، خصوصاً مع تصاعد التوتر السياسي بين الديمقراطيين والجمهوريين في ظل إدارة الرئيس دونالد ترامب".
ويتابع يرق قائلاً: "الإغلاق الحكومي في عامي 2018 و2019 كلف الاقتصاد الأميركي نحو 11 مليار دولار منها 3 مليارات دولار خسائر غير قابلة للتعويض"، كما شهد الناتج القومي في الربع الأول من تلك الفترة تراجعاً يقارب 8 مليارات دولار لذلك، أي إغلاق مطوّل هذه المرة سيترك تداعيات اقتصادية ومالية أعمق، ويرفع معدلات البطالة بشكل ملحوظ."
ويوضح أن استمرار الأزمة سيضغط أكثر على الاحتياطي الفيدرالي الأميركي الذي يعتمد بشكل أساسي على بيانات سوق العمل لتحديد سياسته النقدية. ومع غياب هذه البيانات الدقيقة بسبب الإغلاق، يصبح الفيدرالي في وضع أقرب إلى (التحرك الأعمى)، ما يزيد من حالة عدم اليقين في الاقتصاد والأسواق."
ويختم يرق بالقول: "كلما طال أمد الإغلاق، كلما زادت التأثيرات السلبية على الاقتصاد الأميركي، الذي لم يمر بفترة انتعاش قوية في الآونة الأخيرة، مما يجعل هذه الأزمة أكثر خطورة على النمو والتوظيف والسياسات النقدية في الولايات المتحدة".
ووفق تقرير لـ "بيزنس إنسايدر"، فإنه بناءً على خطة الطوارئ لوزارة العمل، إذا استمر الإغلاق الحكومي يوم الجمعة، فلن يُنشر تقرير التوظيف الشهري، المعروف باسم تقرير الوظائف، كما هو مخطط له.
إذا استمر هذا الوضع حتى منتصف أكتوبر، فقد يؤثر على تعديل تكلفة المعيشة السنوي لاستحقاقات الضمان الاجتماعي، نظراً لعدم إصدار بيانات التضخم في الموعد المحدد.
صرحت وزارة العمل بأن مكتب إحصاءات العمل سيُعلق جميع عملياته، ولن تُنشر المنشورات المخطط لها، وسيتوقف جمع البيانات، ولن يُحدّث موقعه الإلكتروني خلال فترة انقطاع التمويل. إذا استمر هذا الوضع لفترة، فقد تتأخر إصدارات البيانات المخطط لها، مما قد يؤثر على جودة البيانات لاحقاً.
أفاد مكتب إحصاءات العمل بأنه في فترة إغلاق الحكومة عام 2013، تأخر تقرير الوظائف لشهر سبتمبر حوالي أسبوعين، ثم تأخر تقرير أكتوبر الذي تلاه أسبوعاً "لإتاحة وقت كافٍ لجمع البيانات" بعد الإغلاق. في أطول إغلاق حكومي أميركي، والذي حدث في أواخر عام 2018 وأوائل عام 2019 خلال الولاية الأولى للرئيس دونالد ترامب، تم تمويل مكتب إحصاءات العمل، وبالتالي لم يتأثر جمع البيانات، وتم إصدار التقارير كما هو مخطط لها.
يساعد تقرير الوظائف الباحثين عن عمل على فهم الطلب على العمالة بشكل أفضل، وعدد المتنافسين على فرص العمل، وطبيعة الدخل. كان نمو الوظائف في التقريرين السابقين أقل من التوقعات، ورغم انخفاض معدل البطالة، إلا أنه ارتفع.