غزة- على الأطراف الغربية من قطاع غزة ، حيث يلتقي الغبار برائحة البارود، وتنصب الخيام البيضاء كأنها محاولة يائسة لتغطية الجرح. لكن بين طيات هذه الخيام يتدفق سيلٌ من التضامن الإنساني يُذكِّر بأن ما تبقى من غزة ليس مجرد بقايا حجارة، بل إنها قلوب تعرف كيف تحيا رغم كل شيء.
في مخيمات الشاطئ و البريج و النصيرات ، وفي حي الرمال و ميناء غزة ، وفي مدينتي دير البلح و مواصي خان يونس، يعيش الناس على الكفاف منتظرين معجزة إنسانية.
وتشير أحدث بيانات الأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول 2025 إلى أن أكثر من مليون نازح يتكدَّسون حاليا في منطقة المواصي والمحافظة الوسطى وحدهما، ضمن ما يزيد على 1.9 مليون نازح في عموم القطاع المنكوب.
وفي هذه المساحات المكتظة، يصبح كل خيط من القماش وكل وعاء طعام مساحة للتضامن والكرامة، وتتحول الخيمة إلى بيت لروح غزة أكثر مما هي مأوى للجسد.
قبل أن تشرق الشمس، يصطف النساء والأطفال في طابور طويل أمام قِدر طعام يغلي على نار الحطب. وفي إحدى هذه المبادرات، وزعت أكثر من 200 وجبة ساخنة من الأرز والخضار على الأسر النازحة في مخيم النصيرات، بدعم من متبرعين أردنيين. وتقول أم عطا العصار، للجزيرة نت "هذه الوجبة هي الفرق بين يوم يمر بسلام وآخر نتضور فيه من الجوع".
ولم يكن الأمر مجرد توزيع طعام، ففي مركز الدكتور حيدر عبد الشافي للثقافة والتنمية، تعاون المتطوعون مع "مؤسسة الأمانة النرويجية" لتقديم أكثر من 1250 وجبة غذائية في مخيمات الأصدقاء والأمل وعسقلان.
وبينما ينشغل الشباب بملء الصحون، يتبادل النازحون أخبار الغائبين، ويجدون في تلك اللحظة القصيرة مساحة للاطمئنان على بعضهم.
وقد امتدت هذه المبادرات إلى دير البلح، حيث يقود الشاب علاء المصري فريقا صغيرا يطهو الطعام يوميا على موقد متنقل ويوزعه على أكثر من 150 أسرة، ويقول للجزيرة نت "وجبة نطبخها تبقي الأمل حيا في قلوبنا قبل أن تملأ البطون".
وليس الطعام هنا مجرد لقمة، إنه فعل مقاوم، ووسيلة لحماية الكرامة من الانكسار، ورسالة بأن غزة ما الت قادرة على الحياة رغم أنف الحصار .
وغير بعيد من مواقد الطعام، ينحني معلم متطوع فوق سبورة صغيرة مثبتة على عمود الخيمة في مخيم البريج، فيكتب الحروف للأطفال بيد ترتجف من البرد.
وبعد أن دُمرت عشرات المدارس وتحول بعضها إلى ركام، ولدت "خيام التعليم" بديلا يرمم ما تهدم من أحلام، ويقول المعلم حسام بركات للجزيرة نت "لا أملك كتبا كثيرة، لكني أحاول أن أبقي ضوء العقل مشتعلا".
وفي خيمة أقيمت قرب دير البلح، افتتحت مدرسة ماجدة عوض لتعليم الأطفال القراءة والحساب، وتقول المؤسسة "أردت أن أذكرهم أنهم ما زالوا أطفالا يستحقون التعلم". وبينما يردد الصغار الحروف، يعلو صوت القصف الإسرائيلي، فيتوقفون لحظة ثم يواصلون الدرس معلنين تحديهم وصمودهم.
وظهرت مبادرات أخرى مشابهة في النصيرات والمواصي، إذ أقيمت صفوف بدائية بألواح خشبية ودروس جماعية، مع دعم نفسي يُخفف من آثار الخوف والصدمات، وتقول الطفلة ميار خضر للجزيرة نت "كنت أخشى كيف أكتب اسمي، لكن هنا وجدت من يعيد لي الأمل".
ومع انهيار المؤسسات الصحية وصعوبة الوصول إلى المشافي، خرجت مبادرات صغيرة من رحم الحاجة. ففي دير البلح، أسست الطبيبة لبنى العزايزة خيمة طبية تحت شعار "أنتم أهلنا" تجري بها فحوصا صغيرة للجروح وتقدم جرعات أدوية محدودة، وتقول "إذا لم أجد الدواء، أمنح كلمة طيبة، وأشجع كل مريض أن يبتسم، فالابتسامة دواء".
وفي المواصي أيضا، حيث تدربت نساء ضمن مشروع "مسعف في كل بيت" وتقول أم سامي الغول للجزيرة نت "تعلمت كيف أوقف النزيف بضغط بسيط وكيف أسعف الطفل المحتضر بصبر وبساطة، ولم أكن أعلم أنني سأكون ممرضة يوما".
وعلى هامش هذه الجهود، ظهرت مبادرات أصغر لكنها لا تقل أثرا، فثمة متطوعون يوزعون وجبات على 100 نازح في مخيمات الوسطى بجهود فردية أعلنوا عنها عبر مواقع التواصل، ويتبرع آخرون بملابس وأغطية، وتقول الشابة نجلاء للجزيرة نت "كل قطعة قماش قد تعني دفئا لطفل، وكل ابتسامة نرسمها اليوم قد تبقى في ذاكرته أطول من صوت القصف".
وفي ميناء غزة، ينظم صيادون نازحون حملة لصيد السمك جماعيا لتوزيعه على الأسر، رغم شح القوارب وقيود الاحتلال.
وعن ذلك يقول رئيس غرفة تجارة وصناعة غزة، عائد أبو رمضان، للجزيرة نت "هذه الأفعال الصغيرة، على بساطتها، لكنها تشحن طاقة المجتمع وتعيد صياغة يومياته، لتصبح الخيمة أكثر من مجرد مأوى، تصبح نقطة التقاء لكرامة الناس وإصرارهم".
وبين قدور الطعام وسبورة التعليم وملابس المتطوعين، يكتشف الزائر أن هذه المبادرات ليست جزرا معزولة، فالأم التي تقف في طابور الوجبات قد تحمل طفلها إلى درس مسائي في خيمة أخرى، والطفل الذي يتعلم القراءة اليوم هو نفسه الذي يشارك غدا في حملة توزيع أغطية على جيرانه.
وهكذا يتحول التكافل إلى شبكة متداخلة، تسند فيها كل مبادرة الأخرى، فيغدو الثبات منظومة متكاملة: غذاء يحفظ الجسد، وتعليم يحفظ العقل، وأُلفة تحفظ الروح.
وعبر هذا التداخل، تتحول الخيام إلى مختبر اجتماعي يثبت أن التضامن ليس طارئا بل فطرة متجذرة في نسيج الغزيين.
رغم هذه اللوحة المضيئة، تواجه المبادرات صعوبات جمَّة: نقص الموارد، القصف المستمر، تنقل العائلات المتكرر. ومع ذلك يُصِّر القائمون عليها على المضي قدما.
ويقول المعلم معين الزاملي في مخيم المواصي "لعلنا لا نملك المال أو الأمان، لكننا نملك قلوبا تعرف كيف تحب، وهذا يكفينا لنواصل".
ويشير تقرير برنامج الغذاء العالمي لسبتمبر/أيلول 2025 إلى أن 9 من كل 10 عائلات في غزة تعاني انعداما حادا في الأمن الغذائي ، ومع ذلك يواصل الأهالي إنشاء مطابخ ميدانية ودروس دعم نفسي.
إنها مقاومة بصيغة أخرى، مقاومة لا ترفع شعارات ولا تحمل سلاحا، لكنها تحافظ على ما هو أثمن: إنسانية الإنسان، هكذا يؤكد الزاملي للجزيرة نت.
ويقول "حتى في ظل عتمة النزوح، يظل التكافل الاجتماعي في خيام غزة صرخة أمل" ويضيف "الجوع يمكن كسره، والحصار لا يحاصر الروح".