مواجهات عنيـفة بين قوات الأمن الفرنسية ومحتجين ضمن مظاهرات دعت لها حركة "لنغلق كل شيء" احتجاجـا على مقترح الموازنة العامة وسياسة الرئيس ماكرون الاقتصادية#الجزيرة_مباشر #فرنسا pic.twitter.com/DtMvQZvmvb
— الجزيرة مباشر (@ajmubasher) September 10, 2025
باريس- في بلد يختنق تحت وطأة المديونية والاحتجاجات المتكررة وفشل الحكومات المتعاقبة، كان من الواضح أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لن يبحث عن شريك في السلطة، بل عن رجل يُترجم رؤيته حرفيا وبولاء شديد.
وهكذا وقع الاختيار على وزير القوات المسلحة المنتهية ولايته سيباستيان لوكورنو، ليصبح رئيسا جديدا للوزراء ويحلّ مكان فرانسوا بايرو الذي قدم استقالته بعد إسقاط البرلمان لحكومته في لحظة حرجة من عمر الجمهورية الخامسة، وسط احتقان اجتماعي وارتفاع مقلق للدَّين العام.
لكن ما بدا قرارا عقلانيا في نظر الإليزيه ، فجّره الشارع غضبا، أمس الأربعاء، حيث اجتاحت شوارع المدن الفرنسية الاحتجاجات التي حملت شعارات غاضبة ومطالبات صريحة باستقالة الرئيس وإسقاط الصفقة بين ماكرون والولاء الأعمى، في ظل مخاوف من تحول فرنسا إلى جمهورية أمنية بقفازات ناعمة.
ليس صدفة أن يكون لوكورنو صاحب الثقة الكبرى لدى ماكرون في السنوات الأخيرة، إذ تحوَّل من وزير مسؤول عن الجيوش إلى ضامن لاستمرارية مشروعه السياسي.
وفي أول خطاب له كرئيس للحكومة، فضل لوكورنو عدم الإطالة وتحدث أقل من 3 دقائق في باحة ماتينيون خلال انتقال السلطة مع بايرو. وقال "علينا أن نتغير، ونكون أكثر إبداعا وجدية في طريقة عملنا مع المعارضة، علينا إجراء بعض التغييرات، ليس فقط في الشكل والمنهجية، بل أيضا في الجوهر".
وأوضح الجنرال السابق في الجيش الفرنسي فرانسوا شوفانسي أنه "عند النظر إلى سيرة لوكورنو الذاتية، نجد أنه شخص مخلص جدا لرئيس الجمهورية ويتمتع بخبرة واسعة في الوزارات، ولا نسمع له الكثير من التصريحات بشأن سياسات ماكرون أو الأحزاب".
وبما أن رئيس الوزراء في فرنسا مسؤول عن الدفاع الوطني وهو قائد القوات المسلحة، يعتقد شوفانسي في حديثه للجزيرة نت أن الكفاءة السيادية التي اكتسبها لوكورنو بوزارة القوات المسلحة ستفيده بمنصبه الجديد.
بدوره، قال النائب عن حزب " فرنسا الأبية " اليساري جيروم لوغافر، إن رئيس الحكومة الجديد جزء من الدائرة المقربة جدا من الموالين لماكرون، وبالتالي فهو مؤيد غير مشروط لسياساته وتم تعيينه لمواصلة سياسات يعارضها الشعب.
وتابع لوغافر للجزيرة نت "لوكورنو ينتمي لليمين، وهو أمر لا يخفيه، وعلمنا من مصادر أنه تناول العشاء مؤخرا عدة مرات مع رئيسة كتلة الجبهة الوطنية في الجمعية مارين لوبان ورئيس الحزب جوردان بارديلا ، لا نعرف تفاصيل نقاشهم لكن يمكننا تخيل ما دار بينهم".
ويبدو أن هذا الولاء غير المشروط هو ما احتاجه ماكرون في مرحلة يتراجع فيها تأثيره السياسي وشعبيته أمام المعارضة اليمينية واليسارية. وبالتالي، اختار من يُنفّذ دون أن يجادل لتثبيت معادلة السلطة بالقوة الناعمة، أو الصلبة إن لزم الأمر.
ومن وجهة نظر عسكرية، أشاد الجنرال السابق شوفانسي بسمعة الوزير السابق لوكورنو الذي "دفع عجلة إعادة تنظيم القوات المسلحة، وناضل من أجل ميزانيتها"، متسائلا "هل سيكون قادرا على لعب هذا الدور المحفوف بالمخاطر في السياق البرلماني الحالي؟".
وأضاف "لا يزال بإمكاننا التساؤل عن النظام الجمهوري في فرنسا مع وجود ما يكفي من الراديكاليين السياسيين، كما أنه لا يمكننا تجاهل السياقات الجيوسياسية والأمنية التي ستؤدي إلى مناقشات حاسمة بين رئيس الوزراء ورئيس الدولة".
ورغم محاولة الإليزيه تسويق القرار على أنه "حل للاستقرار"، فإن صدى هذه الخطوة كان أقرب لإعلان طوارئ "غير مُعلن"، خاصة وأن لوكورنو لم يُخفِ يوما إيمانه بمركزية الأمن ولا انحيازه المطلق لرؤية ماكرون فيما يُعرف بـ"فرنسا الصلبة".
وفي هذا الإطار، يعتقد النائب الفرنسي لوغافر أنه "كلما ازداد الوضع صعوبة على حكومات ماكرون الفاشلة، زاد ميل أصحاب السلطة للتلويح بالتهديدات الأمنية وتخويف الناس عبر استخدام شبح الحرب والادعاء بأن استقلال وسيادة بلدنا مهددة".
وعند سؤاله عما إذا كانت فرنسا ستتحول إلى دولة طوارئ بالفعل، أوضح السياسي الفرنسي "لا يمكنني تأكيد ذلك لكن للأسف، أظهر هؤلاء الأشخاص استعدادهم للذهاب بعيدا في سعيهم للاستيلاء على السلطة وبعدة طرق، بما فيها العنف ضد السترات الصفراء (حركة احتجاجية) وإقرار إصلاح نظام التقاعد وتمردهم الممنهج على التصويت الديمقراطي".
وبالنظر لتوقيت التعيين والديون الثقيلة، عاد للواجهة الجدل القديم الجديد: لماذا تُمنح وزارة القوات المسلحة زيادات بمليارات اليوروهات في وقت تعاني فيه قطاعات حيوية كالصحة والتعليم من نقص حاد في التمويل؟
وبينما يُطلب من المواطنين شد الأحزمة، يُعتبر الدفاع المجال الوحيد المُحصّن ضد تخفيضات الميزانية في فرنسا، فقد أعلن ماكرون في يوليو/تموز الماضي عزمه زيادة الميزانية العسكرية بمقدار 3.5 مليارات يورو (اليورو=1.17 دولار) لعام 2026، و3 مليارات يورو لعام 2027، وهذا يعني رفع ميزانية الدفاع إلى 64 مليار يورو، مقارنة بـ32 مليار يورو في 2017.
وتعليقا على ذلك، يرى الجنرال شوفانسي أنه أمر طبيعي ولا يؤثر كثيرا لأن "مشروع الميزانية الذي اقترحته وزارة القوات المسلحة طالب بزيادة 3.5 مليارات يورو، وهي زيادة متواضعة مقارنة مع الدَّين العام، خاصة وأن ميزانية الدفاع الحالية تبلغ 50.5 مليار يورو".
وفي البرلمان، حذَّر نواب من أن الحكومة الجديدة قد تستمر في نهج الزيادة وسط وضع اقتصادي هش ولا يتحمل، ما قد يساهم ولو جزئيا في تقاطع الأزمة المالية مع أزمات الشارع.
وأشار النائب لوغافر إلى بعض محطات لوكورنو السابقة في حكومة ماكرون قائلا "عندما كان وزيرا للأقاليم ما وراء البحار ـأي لما تبقى من الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسيةـ قمع بوحشية غضب الشارع في غوادلوب وأرسل قوات مكافحة الإرهاب القمعية لتخويف السكان الذين كانوا يعبرون عن عدم رضاهم بالأوضاع المزرية التي يعيشونها".
وعندما أصبح وزيرا للقوات المسلحة، أعلن أواخر 2023 أنه من الضروري الاعتراف بأن الحرب في أوكرانيا تُمثِّل فرصة ممتازة للصناعة العسكرية، بحسب لوغافر.
ووفق تقديرات وزارة الداخلية، فقد شارك في مظاهرات أمس نحو 175 ألف شخص بكل أنحاء فرنسا، ووقعت مواجهات عنيفة بين شرطة مكافحة الشغب والمتظاهرين، أدت لاعتقال أكثر من 470 شخصا، وتم الإبلاغ عن 260 حريقا على الطرق العامة.
وحول مشاركته في المظاهرات، قال النائب لوغافر "كان الأمر مبهرا بالفعل وكانت شوارع باريس تعج بالناس، خاصة الشباب، الذي يرددون رسالة واضحة "هذه السياسة لم نعد نحتملها ونريد تغييرا جذريا ولا حل اليوم سوى التظاهر".
وفيما يخص هذا التغيير، أكد لوغافر أن حزبه يطالب برحيل ماكرون لأنه "المسؤول الرئيسي عن الوضع الذي نعيشه منذ انتخابه عام 2017، لقد تخطى كل الحدود عبر التدمير والتقشف، كما أن سلطته تزداد عزلة واستبدادية وقمعية للحفاظ على نفسها وتُغذي الانقسامات العنصرية".