في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
هناك، حيث ألواح الخشب وزوايا ورش النجارة الصغيرة في ضواحي مدينة مروي (شمال السودان )، نشأ الطفل طلحة جبريل في بيئة لم تمنحه الكثير من التقدير الاجتماعي الذي يصبو إليه، فركب أول عربة رحيل في قطار الابتعاث، ولم يحمل معه إلا حنين الهوية وروحا قلقة، ليختار المغرب ويضرب حول نفسه سياجا ممتدا من الاغتراب الاختياري.
وفي المغرب، فتح القدر بوابات ما كان يحلم بها ذلك الغريب، فوجد الكاتب وأستاذ الصحافة الاستقصائية في أرضها تجربة إنسانية ومهنية مثمرة امتدت عقودا، فصار فيها من صناع الكلمة ورجال الرأي، وأصبح رئيس تحرير لـ5 صحف مغربية، وأجرى مقابلات مع 29 رئيس دولة وملكا، وكان له نصيب من الثقة الملكية في المغرب حتى عهد إليه الملك الراحل بمراجعة وطباعة مذكراته "ذاكرة ملك".
وفي مقابلة مع الجزيرة نت، ظل الأكاديمي السوداني يتنقل بين عربات قطار سافر فيه إلى قارات العالم، واحتكّ فيه بنجوم الصحافة العربية، فبيّن حقيقة لقائه الوحيد مع محمد حسنين هيكل في لندن، ووجه نقدا للإعلام العربي، خاصة في ما يتعلق بتغطية العدوان الإسرائيلي على غزة.
ولد طلحة جبريل ونشأ في مدينة مروي، حيث عاش ظروفا متعبة لم تمنحه الكثير من التقدير الاجتماعي، وعُرف وسط مجتمعه بمهنة النجارة، متطلعا إلى مكانة أكبر في بيئة تفرز وتقيم أفرادها بمهنتهم، وكان عليه أن يقطع المسافات فجرا وصولا إلى ورشة العمل.
وعلى هامش هذا الكدح، استطاع أن ينجح في امتحان الثانوية السودانية من المنازل، مؤهلا نفسه لدخول الجامعة. وخلال فترة حكم الرئيس السوداني الراحل جعفر النميري (1930- 2009) واتته فرصة الدراسة بالخارج.
وفتح القدر بابا لم يكن يحلم به طلحة جبريل، حين عُرضت عليه فرصة الابتعاث للدراسة خارج السودان، فاختار المغرب بدافع الرغبة في الوصول إلى أبعد نقطة جغرافية ممكنة، فكان أن اختار هذه البقعة.
في المغرب، بدأت حكاية التحول الكبرى، ولم يكن في نية جبريل أن ينخرط في الصحافة عندما كان يدرس في الجامعة تخصص الفلسفة، لكن الأقدار دفعته إلى هذا المسار، فعمل بداية مترجما في الصحافة، وسرعان ما تحول إلى أحد محرري صحيفة الشرق الأوسط.
وبدأت الأبواب تُفتح أمامه خلال فترة قصيرة، حتى صار مدير مكتب الصحيفة في المغرب عام 1983 بعد عامين فقط من دخوله الميدان الصحفي، وسرعان ما أصبح رئيس تحرير لعدد من الصحف المغربية المرموقة.
ويذكر جبريل أنه تولى منصب رئاسة التحرير في 5 صحف بالمغرب، 3 منها (الصباح، والجمهور، والعاصمة بوست) قام بالإشراف على تأسيسها، وبعضها لا يزال يصدر بعد نحو ربع قرن.
وخلال حديثه مع الجزيرة نت، استفاض أستاذ الإعلام في الحديث عن سجايا أهل المغرب، فعبر سنين من عمره قضاها بينهم فإنه لم يواجه قط موقفا عنصريا أو انتقاصا نتيجة كونه سودانيا غريبا يعيش بينهم ويترأس مؤسساتهم، ويتقدمهم في المجالس أيضا.
فالبيئة المغربية رحبت به واحتضنته، حتى كأن المجتمع تبناه ابنا له، وأصبح له أبناء مغاربة بحكم زواجه من مغربية. ومع ذلك يؤكد أنه ما زال يحمل جواز سفره السوداني وحده، فالجواز بالنسبة له "هوية لا يمكن المساومة عليها، والوطن حتى وإن قسا فإنه لا يُخون". والمغرب "كان بلده الذي يحنو عليه ويمنحه شعور الانتماء والنجاح".
تمثل علاقة طلحة جبريل بالملك الحسن الثاني منعطفا خاصا في مسيرته المهنية وحياة عامة، فالحكاية بدأت بلقاء صحفي في يناير/كانون الثاني 1985، حين نال فرصة إجراء حوار مع الملك بناء على طلب منه شخصيا.
وتطورت العلاقة لاحقا إلى ثقة متبادلة منحته امتيازات مهنية، لا سيما حضوره المتكرر للندوات الصحفية ومنحه فرصة دائمة بإلقاء السؤال الأول الموجّه للملك.
هذه الثقة أخذت بعدا أكثر تقدما عندما كلّفه الملك بمراجعة النسخة العربية لمذكراته "ذاكرة ملك"، كما أنه أشرف بنفسه على طباعة الكتاب خارج المغرب. وهذه المهمة ربطته أكثر بالحلقات العليا في الدولة ودوائرها، لكنه بقي متمسكا بصفته المهنية بوصفه صحفيا مستقلا، حسب تعبيره.
من المحطات اللافتة في مسيرة طلحة جبريل، ذلك اللقاء الذي جمعه مع الصحفي المصري محمد حسنين هيكل في لندن، والذي راجت حوله إشاعات عدة بأنه لم يتعد دقيقة واحدة، وأن الهدف منه كان مناقشة بعض النقاط المتعلقة بسيرة ملك المغرب الراحل.
لكن طلحة جبريل نفسه ينفي هذه الإشاعات في حديثه للجزيرة نت، ويقول إن اللقاء دام أكثر من نصف ساعة، وتناقش مع هيكل تفاصيل وردت في مذكرات الملك الحسن الثاني التي أشرف جبريل على تحريرها بالعربية.
وبيّن جبريل أن محمد حسنين هيكل كعادته في تقصي الحقائق والوقائع كان يتساءل عن جوانب مما ورد في كتاب "ذاكرة ملك"، وهو ما انعكس لاحقا في مقالات هيكل عن المغرب.
ومع ذلك، أشار الصحفي السوداني إلى أنه لاحظ على هيكل أنه يتمتع بقدرة فائقة على تذكر الوقائع، ويلح كثيرا في طرح الأسئلة التي يريد أجوبة عنها، ويجيد الإصغاء جدا لدرجة أنه لم يدون حرفا طوال لقائه مع جبريل.
محطة مهمة توقف عندها طلحة جبريل تتعلق بدور الإعلام العربي في تغطية الحرب على غزة، فقد استطاع هذه المرة أن يتخذ مسارا مختلفا، وللمرة الأولى تمكن من أن يفرض حقيقة مغايرة للسردية الإسرائيلية الطاغية في الإعلام الدولي على مدى عقود، حسب ما قاله.
وذهب إلى أن طبيعة التغطية الميدانية أو التضحيات الجسام التي قدمها الصحفيون العرب في الميدان تمثل علامات فارقة أبرزت حجم الاهتمام والالتزام بالقضية الفلسطينية.
ويعود أستاذ الإعلام إلى المغرب ليضرب مثلا بما شهده من تعبئة شعبية وإعلامية استثنائية، مثل المسيرات الحاشدة وقصص التضامن، التي غذّاها الإعلام بجرعات حقيقية مكثفة جعلت تفاعل الناس أكبر وأكثر صدقا.
ورغم هيمنة أجندات القوى الكبرى عالميا، فإن جبريل يعتقد أن السردية الفلسطينية وجدت لنفسها مكانا وحضورا قويين في إعلام المنطقة بفضل هذا العمل الميداني، وعدد الشهداء من الصحفيين الذين ارتقوا أثناء ممارسة عملهم الصحفي في الميدان.
ورغم نظرة الإجلال التي يحملها جبريل لدور الإعلام العربي في مناصرة القضية الفلسطينية ومواجهة العدوان الإسرائيلي على غزة، فإنه في الوقت نفسه ينظر بواقعية ناقدة إلى حال الإعلام العربي اليوم، ويرى أنه بات في معظمه يسعى وراء تشوهات المجتمع وأخبار الإثارة والغريب من القصص، متأثرا بسطوة الشبكات الاجتماعية التي أفرزت مفهوم "المواطن الصحفي"، على حساب الصحافة المهنية القائمة على البحث والتحقق.
وبوصفه أستاذا جامعيا في الأجناس الصحفية، فإنه يؤكد أن الصحافة الاستقصائية عادت بقوة في الغرب بعد تراجع مؤقت، إذ ظهرت الحاجة مجددا إلى المهنية والبحث عن الحقيقة، عكس ما حدث عند بروز شبكات التواصل التي بدت كأنها ستنهي دور الصحافة التقليدية.
ويضرب جبريل مثالا على ذلك بالحالة السودانية، إذ ينتقد جبريل انصراف الإعلام العربي عن تغطية الأزمات بعمق، ويأسف لضياع الصوت الحر الميداني لصالح التغطيات السطحية أو الآراء الجاهزة.
وينادي طلحة جبريل بضرورة أن تظل الصحافة باحثة عن الحقيقة، وأن الصحفي لا يملك الحقيقة لكنه يقترب منها كلما التزم بالقيم والأخلاق، ولو خسر مناصب أو امتيازات نتيجة ذلك، مبينا أن الكتابة الميدانية هي التعبير الأصدق عن الحقائق، "فالصحفي يجب أن يكون هناك ليكتب عن هناك".
إن مسيرة طلحة جبريل ليست فريدة في تفاصيلها، لكنها تتشابك مع العديد من القصص المهنية وتتشابه معها، وتلخص رحلة صعود الإنسان من هامش الحياة إلى قلب صناعة القرار الصحفي العربي، وتمثل مسيرة قلم ظل وفيا للأمانة وهوية وطنه، رافضا أن تكون النجاحات المهنية سببا في التخلي عن جذوره، أو التنازل عن قيم الصحافة الأخلاقية التي جعلت منه شاهدا حيّا على عصر التحولات والاختبارات الكبرى في المهنة وفي قضايا الأمة.