مع تدهور الوضع في السويداء، وهي المنطقة التي يتركز فيها الدروز بجنوب سوريا، بعد التصعيد بين قوات الحكومة السورية وعشائر بدوية من جهة وعناصر درزية من جهة أخرى، برز اسم سلطان باشا الأطرش على الساحة من جديد، فقد خرج من كتب التاريخ ليذكر الجميع بالدور الذي لعبه في تاريخ سوريا.
وتقول دائرة المعارف البريطانية إن الزعيم الدرزي سلطان الأطرش قاد في عام 1925 ثورةً ضد الحكم الفرنسي، وبعد نجاحها المحلي، انضم إليها قوميون سوريون من خارج الطائفة الدرزية، فانتشرت الثورة في جميع أنحاء المنطقة وصولاً إلى دمشق قبل إخمادها عام 1927، ويعتبر السوريون هذه الثورة أول انتفاضة وطنية في تاريخ البلاد.
وُلد سلطان باشا الأطرش في 5 مارس/ آذار من عام 1891 في بلدة القريّا الواقعة جنوب سوريا، ضمن منطقة جبل الدروز (التي تُعرف اليوم بجبل العرب)، لعائلة عريقة تنتمي إلى الطائفة الدرزية، وكان والده، ذوقان الأطرش، زعيماً محلياً قاد معارك ضد العثمانيين، وأُعدم شنقاً عام 1911. وهكذا، شهدت طفولة سلطان باشا الأطرش أحداثاً سياسية مضطربة، إذ كانت سوريا تحت الحكم العثماني، وشهدت المنطقة توترات قبلية وصراعات بين الزعامات المحلية، ما أسهم في تشكيل وعيه السياسي المبكر.
وقبل اندلاع الحرب العالمية الأولى، انضم إلى الجيش العثماني وحارب في البلقان حتى أنه حصل على لقب "باشا" من السلطات العثمانية تقديراً لخدماته.
وبعد انتهاء خدمته كانت الحرب العالمية الأولى قد وضعت أوزارها، فعاد إلى الشام للتصدي للوجود الفرنسي والبريطاني، حيث بدأ ينشط في الاتصال بالحركات العربية، وكان سلطان الأطرش أول من رفع علم الثورة العربية على أرض الشام قبل دخول جيش الملك فيصل بن الحسين، حيث رفعه على داره في القريّا.
كما كان في طليعة الثوار الذين دخلوا دمشق سنة 1918، وقد رفع العلم العربي في ساحة المرجة فوق دار الحكومة بدمشق الأمر الذي نال على إثره لقب "باشا" في الجيش العربي من الملك فيصل تقديراً لشجاعته، وذلك بحسب موقع سلطان الأطرش دوت أورغ.
وفي مارس/ آذار من عام 1920 أُعلن عن قيام مملكة سوريا الكبرى التي حكمها فيصل بن الحسين، وقد رفضت فرنسا وبريطانيا الاعتراف بالدولة الوليدة وقرّرتا في أبريل/ نيسان من من عام 1920 خلال مؤتمر سان ريمو المنعقد في إيطاليا تقسيم البلاد إلى 4 مناطق تخضع بموجبها سوريا ولبنان للانتداب الفرنسي وشرق الأردن وفلسطين للانتداب البريطاني، وإن كان لبنان ومعه الساحل السوري وكذلك فلسطين لم تدخل عسكرياً تحت حكم المملكة السورية نظراً لوجود جيوش الحلفاء فيها منذ نهاية الحرب العالمية الأولى.
وسرعان ما انتهت المملكة السورية في 24 يوليو/ تموز من عام 1920، ففي ذلك اليوم وقعت معركة ميسلون بين الجيش العربي بقيادة يوسف العظمة، وزير الدفاع، والقوات الفرنسية. وكان سلطان الأطرش قد جهز قوات لنجدة العظمة، لكنه وصل بعد هزيمة الجيش العربي ومقتل العظمة.
وقد حاول الأطرش إقناع الملك فيصل بالتحصّن في جبل العرب لمواصلة المقاومة، لكن فيصل غادر سوريا.
عمل الانتداب الفرنسي على تقسيم سوريا لدويلات على أساس طائفي عام 1921 ، وتوصل الفرنسيون لمعاهدة مع زعماء الدروز قضت بإنشاء وحدة إدارية مستقلة خاصة للجبل، مقابل اعتراف الدروز بالانتداب الفرنسي، وعُيِّن سليم الأطرش حاكماً للجبل بموجب هذا الاتفاق.
ومن جانبه، عارض سلطان الأطرش بشدة فكرة إنشاء دولة درزية مستقلة، رافضاً مخططات الفرنسيين لتقسيم سوريا إلى دويلات طائفية، وقد قال في هذا الإطار: "قطّعت سوريا إرباً إرباً، وحكمت حكماً استعمارياً محضاً جعل السوريين يترحمون على زمن الأتراك"، وذلك بحسب حسن أمين البعيني في كتابه "سلطان باشا الأطرش والثورة السورية الكبرى".
وفي عام 1922، تصاعدت التوترات مع الفرنسيين بعد اعتقالهم للمقاوم اللبناني أدهم خنجر، الذي أراد أن يحتمي بدار سلطان الأطرش، فقاد سلطان معركة تل الحديد ضد القوات الفرنسية، محققاً انتصاراً وآسراً جنوداً فرنسيين، وقد وافق الفرنسيون على إطلاق سراح خنجر مقابل الأسرى، لكنهم أعدموه لاحقاً ودمروا منزل سلطان في القريا.
ورداً على ذلك، قاد الأطرش حرب عصابات ضد الفرنسيين، فكانت هذه انتفاضته الأولى التي دامت 9 أشهر خلال عام 1922 وذلك رفضاً للاستعمار وتكريساً لتقاليد العرب في حماية الضيف، فحكم عليه الفرنسيون بالإعدام، فلجأ إلى الأردن. ولما عجز الفرنسيون عن القبض عليه، أصدروا عفواً عنه وعن جماعته، فعاد إلى السويداء في 5 أبريل/ نيسان من عام 1923 حيث استُقبِلَ استقبالاً شعبياً كبيراً، وذلك بحسب مقال حفيدته ريم منصور المنشور في موقع مؤسسة الدراسات العلمية.
ولكن لم تهدأ الأوضاع بعد عودته، فبعد وفاة سليم الأطرش مسموماً في دمشق عام 1924، خالف الفرنسيون اتفاقهم السابق بتعيين درزي حاكماً للجبل، وعيّنوا الكابتن كاربييه حاكماً للجبل، الذي مارس سياسة قمعية ضد الأهالي. وفي كتاب "مذكرات الكابتن كاربييه في جبل العرب" يصف كاربييه سلطان باشا بأنه الرجل الوحيد القادر إما على تهدئة جبل العرب أو إشعاله، مشيراً إلى أن الفرنسيين اعتبروا جبل الدروز المكان الوحيد في سوريا الذي قد يفتح لهم أزمة حقيقية
اندلعت الثورة السورية الكبرى في 21 يوليو/ تموز من عام 1925، بقيادة سلطان باشا الأطرش، كرد فعل على سياسات الانتداب الفرنسي القمعية، بما في ذلك تعيين الكابتن كاربييه حاكماً على جبل العرب.
وكان الدروز قد قدموا وثيقة في 6 يونيو/ حزيران من عام 1925 يطالبون فيها بتعيين حاكم درزي، لكن المفوض الفرنسي ساراي طرد الوفد، مما أشعل الثورة.
وفي 23 يوليو/ تموز من عام 1925 انتصر الثوار بقيادة سلطان باشا على الفرنسيين في معركة الكفر. وحول هذه المعركة، قال فلاديمير لوتسكي في كتابه "الحرب الوطنية التحررية في سوريا 1925-1927": "في معركة الكفر قاد سلطان باشا الأطرش هجوماً خاطفاً ضد الحملة الفرنسية بقيادة الكابتن نورمان، ورغم التفوق العددي الفرنسي، نجح الأطرش وثواره، وعددهم لا يتجاوز 200، في إلحاق هزيمة ساحقة بالفرنسيين، وقُتل نورمان وعدد كبير من جنوده، وعندها أدرك الفرنسيون أن مقاومة الثوار في جبل العرب لا يُستهان بها".
وبعد هذا النصر، تصاعد الزخم الشعبي بالتعاطف مع الثورة، وكانت معركة المزرعة في 2 أغسطس/ آب من عام 1925 حيث واجه حوالي 500 ثائر بزعامة الأطرش حملة فرنسية ضخمة قوامها 3.500 جندي، ورغم الفارق الكبير في العدد والعتاد، تمكن الثوار من تحقيق انتصار كبير وصل صداه إلى البرلمان الفرنسي.
وفي كتابه "الثورة السورية الوطنية: مذكرات الدكتور عبد الرحمن شهبندر" يقول في أعقاب معركة المزرعة في صيف عام 1925، اجتمعت مع القائد العام سلطان باشا الأطرش وعدد من الزعماء الوطنيين في جبل العرب، لبحث توسيع نطاق المقاومة وتحويلها إلى ثورة وطنية شاملة ضد الاستعمار الفرنسي".
"وفي اجتماعنا التاريخي بعد انتصار المزرعة، تقرّر أن تُعلن الثورة في كل أنحاء سوريا. كانت القيادة العامة للثورة في يد المجاهد سلطان باشا الأطرش، وأنيط بي الشأن السياسي والدبلوماسي، وشُكلت لجان للإعلام والدعاية وتنظيم التحركات في الداخل والخارج، واتخذنا القرار بالإجماع، ولم يكن أحدنا يطلب مجداً شخصياً، بل كنا ننشد الخلاص لسوريا من الاحتلال، ولو كلفنا ذلك حياتنا".
"ورفع سلطان باشا صوته قائلاً: لن أقبل أن تبقى الثورة حكراً على الجبل، سوريا واحدة وثورتها واحدة، إن لم يتحرك إخواننا في دمشق وحلب، فنحن من سيسير إليهم، فكان ذلك الإعلان لحظة فاصل بين مقاومة محلية وثورة وطنية".
وفي هذا الاجتماع صدر نداء رسمي إلى الشعب السوري، يدعو فيه السوريين في كل المدن للالتحاق بالثورة، والتأكيد على أن ما بدأه أبناء جبل العرب يجب أن يعمّ كامل البلاد.
وقد شكل هذا الحدث لحظة مفصلية في تاريخ سوريا الحديث، حيث تحوّل الحراك من ثورة محلية في جبل العرب إلى ثورة وطنية جامعة ضد الاستعمار، بقيادة سلطان باشا الأطرش.
وأظهر سلطان باشا قدرة عالية على الحشد والتنظيم العسكري، حيث شكّل كتائب مقاتلة اعتمدت على حرب العصابات، واستفاد من تضاريس الجبل في التصدي لحملات الفرنسيين، وكان لشخصيته الكاريزمية دور كبير في جذب المتطوعين من مختلف المناطق السورية، ما جعل الثورة تمثّل وحدة وطنية نادرة بين الطوائف والمذاهب والمناطق.
لكن أدى ضعف تسليح الثوار في النهاية إلى هزيمتهم، وأصدر الفرنسيون حكم إعدام بحق سلطان، مما اضطره للجوء إلى شرق الأردن وشمال الجزيرة العربية عام 1927.
وفي كتاب "أحداث الثورة السورية الكبرى كما سردها قائدها العام سلطان باشا الأطرش 1925-1927"، وهو الكتاب الذي راجعه وصححه منصور سلطان الأطرش، يوثق سلطان باشا الأطرش التحديات اللوجستية والإنسانية التي واجهتها الثورة، مشيراً إلى شح الموارد والأسلحة مقارنة بالقوات الفرنسية. ويروي كيف اعتمد الثوار على العزيمة والتضحيات، مستغلين معرفتهم بالتضاريس الجبلية لشن هجمات خاطفة، مثل معركة المسيفرة في سبتمبر/ أيلول من عام 1925، التي ألحقت خسائر فادحة بالاحتلال.
وفي عام 1929 نظم سلطان الأطرش مؤتمر الصحراء لمناقشة القضية السورية، مواصلاً التنسيق مع الوطنيين.
وقد عاد سلطان إلى سوريا في عام 1937 بعد العفو الفرنسي الذي أعقب توقيع معاهدة 1936 التي نصت على استقلال سوريا،، واستُقبل استقبال الأبطال في دمشق، حيث اصطف آلاف المواطنين لتحيته.
لم يتوقف نضال سلطان الأطرش عند الثورة السورية الكبرى، ففي عام 1945، قاد مع الأمير حسن الأطرش عمليات لطرد الفرنسيين من جبل العرب، مما جعل السويداء من أوائل المناطق المحررة، وردت فرنسا بقصف دموي استهدف دمشق والسويداء، لكن ذلك عجل بانسحابها.
وبعد الاستقلال في عام 1946، اعتبر السوريون سلطان باشا الأطرش أحد رموز النضال الوطني، لكنه لم يطمح لأي منصب حكومي أو حزبي، وفضّل الحياة الريفية البسيطة في مسقط رأسه، حيث بقي على اتصال دائم بالشأن العام من خلال زياراته إلى دمشق ولقاءاته مع المسؤولين والفعاليات الوطنية.
وفي عام 1948، دعا سلطان إلى تشكيل جيش عربي موحد لتحرير فلسطين فتطوع المئات من الدروز ولقي 80 منهم حتفهم في الحرب.
ولم يخفِ سلطان باشا مواقفه المعارضة للانقلابات العسكرية التي شهدتها سوريا، بدءاً من انقلاب حسني الزعيم عام 1949، وتعرض خلال حكم أديب الشيشكلي في الخمسينيات من القرن العشرين لمضايقات بسبب معارضته للديكتاتورية، مما دفعه للجوء إلى الأردن عام 1954.
وعاد إلى سوريا بعد سقوط الشيشكلي، مواصلاً دعمه للوحدة العربية حيث بارك الوحدة بين سوريا ومصر، ووقف ضد الانفصال عام 1961، وقد رفض سلطان عروض السلطة، مؤمنًا بمبدأ "الدين لله والوطن للجميع"، مما جعله رمزاً للزهد في السلطة.
توفي سلطان باشا الأطرش في 26 مارس/آذار من عام 1982 عن عمر ناهز 91 عاماً، وعمّ الحزن مختلف أنحاء سوريا، وشارك في جنازته الآلاف من المواطنين، بينهم وفود رسمية وشعبية من جميع المحافظات، في مشهد أجمع المراقبون على أنه جسّد وحدة الشعب السوري حول رموزه التاريخية.
وقد ألقى الرئيس السوري آنذاك حافظ الأسد نظرة الوداع على جثمان سلطان باشا الأطرش في بلدة القريا مع رجال الدولة السورية.
وأصدر حافظ الأسد رسالة حداد شخصية تنعي القائد العام للثورة السورية الكبرى، وأطلق اسمه على ساحة في السويداء، كما أصدر الأسد أمراً بإنشاء صرح يخلد شهداء الثورة السورية الكبرى ويضم رفات قائدها العام في بلدة القريا مقابل دار سلطان باشا الأطرش.
ويوم تشييعه، منحه رئيس لبنان آنذاك الياس سركيس وسام الأرز اللبناني، ودشن الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات نصباً تذكارياً في مدينة رام الله تحية وفاء إلى شهداء الحامية الدرزية التي أرسلها سلطان باشا الأطرش للدفاع عن فلسطين، الذين سقطوا قرب نابلس.
وهكذا، بقي سلطان باشا حياً في الذاكرة الوطنية السورية، إذ أُطلق اسمه على شوارع ومدارس وساحات في مختلف أنحاء البلاد، وأُقيم له تمثال في مدخل بلدة القريّا.
ولا يقتصر إرث سلطان باشا الأطرش على كونه قائاً عسكرياً، بل هو رمز سياسي وثقافي ووطني جسّد تطلعات الشعب السوري في الحرية والاستقلال.
وقد كرّس حياته من أجل الدفاع عن استقلال سوريا ووحدة أراضيها، ورفض الاستعمار بكل أشكاله، فكان صوته صادقاً ومواقفه ثابتة، لا تتغير حسب المصالح أو التحالفات، وهو ما جعل ذكراه محفوظة في ضمير الأجيال السورية والعربية.
وبعد وفاته، بدأ الجيل الجديد من السوريين يتعرف على سلطان باشا الأطرش من خلال الكتب المدرسية والمناهج الوطنية، حيث حرصت وزارة التربية والتعليم على إدراج سيرته في مناهج التاريخ، وتقديمه كأحد أبرز قادة النضال ضد الاستعمار.
ويُعد سلطان باشا مثالاً على التوازن بين الخصوصية الثقافية والانتماء الوطني، إذ لم ينكر هويته الدرزية، بل عبّر عنها بفخر، لكنه في الوقت نفسه قاوم أي محاولة لفصل الجبل عن سوريا، معتبراً أن استقلال سوريا لا يكتمل إلا بوحدتها الكاملة.
وبهذا، فإن سلطان باشا الأطرش لم يكن مجرد قائد ثوري، بل كان مشروعًا وطنياً متكاملاً، يربط بين الماضي القَبَلي والحاضر الوطني، وبين الدين والوطن، وبين الكفاح العسكري والبُعد الأخلاقي، وهو ما جعل ذكراه عصية على النسيان رغم تغيّر الأنظمة والسياسات.