يصدر في مايو/أيار من كل عام تقرير مؤشر حرية الصحافة العالمي عن مؤسسة "مراسلون بلا حدود".
يُقارن التقرير مؤشرات كل دولة وموقعها من دعم حرية الصحافة، ويعطي المؤشر ترتيباً عالمياً يبدأ من أكثر الدول حرية، حتى أكثرها قمعاً.. فما موقع الدول العربية من حرية الصحافة، وهل تعد من أكثر الدول قمعاً للصحفيين حول العالم؟
رغم أنّ الدول العربية قد لا تكون الأفضل عالمياً، إلاّ أنّ الحريات الصحفية تقدمت هذا العام في كثير منها. كما أشار التقرير إلى العوامل التي ساهمت في تقدم أو تراجع تلك الدول، والتي لم تكن بالضرورة - دائماً - عوامل داخلية.
حاولنا قراءة ملامح مخرجات التصنيف لعام 2025، وسألنا صحفيين عَرباً عمّا تعنيه هذه الأرقام، وكيف تؤثر على عملهم، وما الذي يعنيه أن تكون صحفياً عربياً؟
"أن تكون صحفياً فلسطينياً، يعني أن تعمل في أخطر مكان في العالم"، إذ احتلت الأراضي الفلسطينية المركز 163 من أصل 180. ومع مقتل نحو 200 صحفي في غارات إسرائيلية على قطاع غزة منذ بدء الحرب في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، أصبحت الأراضي الفلسطينية أخطر مكان في العالم بالنسبة للصحفيين، بحسب "مراسلون بلا حدود".
ويشير تقرير "مراسلون بلا حدود" إلى أنه "من المحتمل" أن يكون 42 من الصحفيين الذين قُتلوا في غزة "على الأقل" قُتلوا بسبب عملهم.
وكانت لجنة حماية الصحفيين قد وثّقت أعداد الضحايا من الصحفيين في القطاع، مشيرةً إلى أنّ العدد أكبر بكثير، ومؤكدّةً أنّ كل الصحفيين الذين وثّقت مقتلهم في الحرب "كان هناك دليل موثوق على أنهم كانوا مستهدَفين، إما بطريقة متعمَّدة أو غير متعمَّدة، متعلقة بعملهم".
كما تقول نقابة الصحفيين الفلسطينيين إن 219 صحفياً وعاملاً في قطاع الإعلام قُتلوا في القطاع منذ بداية الحرب في أكتوبر تشرين الأول من عام 2023، جراء ما وصفته بسياسة "الاستهداف الممنهج" التي اتهمت الجيش الإسرائيلي بممارستها ضد الصحفيين الفلسطينيين.
أما في الضفة الغربية، ذكر مؤشر حرية الصحافة في تقريره أنّ "الصحفيين تعرضوا لانتهاكات واسعة من جانب السلطة الفلسطينية وقوات الاحتلال الإسرائيلي، خاصةً مع تكثف الضغوط الإسرائيلية منذ بداية الحرب، وزيادة اعتقالات الصحفيين وعرقلة عملهم"، بحسب التقرير.
وردّت إسرائيل أكثر من مرة على مقتل صحفيين في حرب غزة قائلة إنها تستهدف صحفيين "تابعين لحماس" وإنّ بعضهم "ينتحلون صفة عاملين في الإعلام".
قابلتُ صحفياً فلسطينياً في غزة للمشاركة في هذا التقرير، وسألته إن كان يمكنني مشاركة اسمه، أجابني "مش فارقة كثير.. نحكي أو ما نحكي، مُعرّضين للموت بأي لحظة".
لكنني سأختار الإشارة إليه باسم مستعار، وليكن، "باسل".
يشير باسل إلى أن الصحفي الفلسطيني يعمل أساساً في ظروف صعبة وقاهرة واستثنائية، دون توافر معدات للعمل، ولا إجراءات للسلامة، ويصل بصعوبة بالغة لشبكة الإنترنت، وبطبيعة الحال قد يكون في أماكن مهددة بالقصف. يُضيف: "كما أنه في كثير من الأحيان يتم استهداف الصحفيين بشكل متعمَّد، كما رأينا في استهداف خيم الصحفيين".
عن شعوره حيال عمله في غزة بعد مقتل هذا العدد من الصحفيين، يقول باسل: "الصحفي الفلسطيني سيبقى موجوداً، وأصيلاً، يدافع عن شعبه بنقل الكلمة الفلسطينية وفضح ممارسات الاحتلال الإسرائيلي".
الوضع في موريتانيا بالتأكيد أفضل حالاً، فالتقرير لا يشير إلى أنها البلد العربي الأكثر حرية للصحفيين فقط، بل تفوقت في المؤشر على دول كبرى كالولايات المتحدة، حيث سبقتها بسبعة مراكز.
واحتلّت موريتانيا المركز الخمسين في مؤشر حرية الصحافة العالمي، لتحافظ بذلك على كونها البلد العربي الأكثر حرية للصحفيين.
وأشار التقرير إلى الإصلاحات التشريعية الإعلامية في موريتانيا، التي ألغت تجريم المخالفات الصحفية عام 2011، وعززت التشريعات المتعلقة بالوصول إلى المعلومات وحماية المصادر. وفي عام 2020، شُكّلت أيضاً لجنة لإعداد مقترح لإصلاح الإعلام، وصياغة قانون بشأن وضع الصحفيين المحترفين وشروط الحصول على بطاقة ممارسة المهنة.
كما خضعت الهيئة العليا للصحافة والإعلام، التي يُعيَّن رئيسها بمرسوم رئاسي، لإصلاح في عام 2022 وسّع نطاق سلطتها ليشمل القطاع الرقمي. ويُشترط الآن على أعضائها الحصول على شهادة جامعية في الإعلام، وأن تشمل تمثيلاً للمعارضة.
رئيس تحرير صحيفة تقدمي الموريتانية المستقلة، الصحفي محمدي موسى، يقول في حديثه لبي بي سي إن التشريعات "مثالية" لكنّ تطبيقها هو التحدي.
كما أنّ "غالبية الصحفيين منخرطون أو مقرّبون من السلطات في البلد، ومن النادر وجود صحافة مستقلة، لذا فقد لا تجد ملفات الفساد تغطية كبرى، ولا توجد صحافة استقصائية بمفهومها الواسع"، الأمر الذي قد يساهم في تحسين سمعة موريتانيا خارجياً، بحسب موسى.
ويرى موسى أنّ "قانون حماية الرموز الوطنية"، الذي سُنّ عام 2021 و" يحظر نقد شخصيات البلد العليا"، إلى جانب تولّي الحكومة مهمة استصدار بطاقة الصحفي، خطوات قد تتحول مع الوقت لآلة رقابة.
ورغم أنّ التصنيف يضع موريتانيا في مرتبة متقدّمة، إلاّ أنهّا تراجعت خلال عام واحد نحو 17 مركزاً، ففي العام الماضي كانت تحتل المركز الثالث والثلاثين عالمياً، إذ تراجع البث في القطاع الخاص في السنوات الأخيرة، واختفت العديد من الصحف ووسائل الإعلام المطبوعة، تدريجياً، بسبب نقص الموارد.
مع ذلك، لا يزال الراديو الوسيلة الإعلامية الأكثر شعبية في البلاد، كما تمكنت بعض وسائل الإعلام المملوكة للقطاع الخاص، وخاصة مواقع الأخبار، من تعزيز مكانتها خلال السنوات الخمس عشرة الماضية.
ويشير التقرير إلى أنّ التحدي الاقتصادي هو الأثقل على الصحفيين الموريتانيين، فنظراً لتدني رواتبهم، يتعرض الصحفيون، بحسب التقرير، لضغوط سياسية.
يؤكد موسى أنّ الكثير من المؤسسات لا تدفع مقابلاً للصحفي على عمله، وقد تصل بعض أجور الصحفيين إلى أقل من 200 دولار شهرياً.
ويضيف أنّ سوق الإعلانات موجَّهٌ بغالبيته إلى الإعلام الرسمي المدعوم من الحكومة، لذا "وضعية المؤسسات الخاصة حرجة جداً وتتعرض لمشاكل مالية كبيرة لدفع الرواتب.. خصوصاً إذا لم تكن مهادنة للسلطة".
تقدّمت هذا العام الجزائر 13 مركزاً لتصبح الـ 126 عالمياً، فيما تَقدم كل من المغرب وليبيا تسعة وستة مراكز، على التوالي، ليصبح المغرب في المركز 120 عالمياً وليبيا 139، أما تونس، فتراجعت 11 مركزاً لتصبح في المركز 129.
وأشار تقرير مؤشر حرية الصحافة إلى أنّ وصول الرئيس التونسي قيس سعيّد إلى السلطة عام 2021، أثار مخاوف من تراجع كبير في حرية الصحافة، كما هيمن على المشهد الإعلامي خطاب موحَّد مؤيد للرئيس، رغم معارضة بعض وسائل الإعلام.
كما فُرض في البلاد "المرسوم 54" الذي أثار الجدل، حيث ينص على السجن خمس سنوات وفرض غرامة مالية بحق كل من يُدان بنشر "شائعات أو معلومات مضللة"، كما تتضاعف العقوبة إذا كان الأمر يتعلق بنشر إساءات ضد موظف عمومي.
وفي عام 2024 وبدايات 2025، أشار تقرير "مراسلون بلا حدود" إلى أن رئيس الجمهورية ذهب إلى حد استدعاء وسائل الإعلام الرسمية وحثها على الانضمام إلى ما سمّاها "معركة التحرير الوطني" بهدف "الحفاظ على الدولة ومؤسساتها"، وذلك "بتطبيق القانون على الجميع".
ورغم تحسن دول شمال أفريقيا الأخرى، أشار التقرير إلى أنّ الصحفيين المستقلين في الجزائر والمغرب ما زالوا يتعرضون لضغوط مستمرة. وفي ليبيا، قد يجد الصحفيون أنفسهم "مجبرين على خدمة أحد طرفي النزاع"، ما يُضرّ باستقلاليتهم.
رغم تمتع الأردن باستقرار سياسي جيد، عكس الدول المحيطة، تراجعت المملكة 15 مركزاً خلال عام واحد فقط، لتحل في المرتبة 147، لتصبح بذلك أقلّ بـ 11 مركزاً فقط من الصومال التي تعد واحدة "من أخطر الدول في أفريقيا للصحفيين"، والتي تقدمت تسعة مراكز لتحل في المركز 136.
وأشار التقرير إلى أن السلطات الأردنية عزّزت رقابتها خلال العقد الأخير، خاصة شبكة الإنترنت، حيث حجبت مئات المواقع.
وخلال مايو/أيار، قررت هيئة الإعلام في الأردن حجب مجموعة من المواقع الإلكترونية التي وصفتها بأنها "تبث السموم الإعلامية وتهاجم الأردن ورموزه الوطنية".
وألغت الهيئة ترخيص الموقع الإلكتروني "عمان نت" التابع لإذاعة راديو البلد، استناداً إلى ما وصفته بـ"مخالفة جوهرية" تتعلق بشرط الملكية الأردنية الكاملة للمواقع الإخبارية، رغم عمل الموقع وحصوله على التراخيص منذ 25 عاماً، قبل أن تتراجع وتعطيه فرصة لتصويب أوضاعه.
وأشار الخبير في تشريعات الإعلام والجرائم الإلكترونية الدكتور أشرف الراعي في حديثه لبي بي سي إلى أنّ هناك أكثر من 30 قانوناً يتعلق بشكل مباشر أو غير مباشر في العمل الصحافي والإعلامي، ما يشكل "ضوابط قانونية في العمل الصحافي".
وأكد الراعي على أهمية أن تتماشى التشريعات مع متطلبات البيئة الرقمية الحديثة، "بما يضمن حماية حرية التعبير دون المساس بالأمن المجتمعي أو النسيج الوطني، فالتحدي اليوم لم يعد في النصوص فقط، بل في التطبيق وانتقائية الملاحقة وفي بعض الأحيان غياب المعايير الموحدة في التعامل مع القضايا الإعلامية".
وعلّقت منظمة "مراسلون بلا حدود"، على قانون الجرائم الإلكترونية الأردني، قائلة إنه يتيح للسلطات تشديد الرقابة على وسائل الإعلام عبر الإنترنت، ما يدفع الصحفيين إلى "هاوية الرقابة الذاتية".
وبهذا التراجع يصير الأردن أقرب إلى اليمن الذي يحتل المركز 154 منذ العام الماضي، حيث يطغى الاستقطاب على المشهد الإعلامي هناك، إذ ليس أمام وسائل الإعلام سوى التوافق مع السلطة الحاكمة - الحكومة أو الحوثيين - حسب منطقة السيطرة، كما يشير تقرير مؤشر حرية الصحافة.
أما لبنان، فقد تقدّم ثمانية مراكز ليحتل المركز 132، لكنّ البلاد شهدت تشديد القيود المفروضة على الصحفيين منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول بعد امتداد حرب غزة إلى الأراضي اللبنانية، بحسب "مراسلون بلا حدود"، التي أشارت في ذات السياق، إلى قَتل الجيش الإسرائيلي صحفيين في غارات شنها على منطقة حدودية مع جنوب لبنان، بعد استهدافهم عمداً.
وأشار التقرير كذلك إلى تهجير العديد من الصحفيين قسراً طوال فترة الحرب. لكنّ التقرير تفاءل "بالسياق الجديد" الذي قد يَعِد باستقرار "يمهد الطريق لتعافي الصحافة"، وذلك بعد التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار ووصول حكومة جديدة إلى السلطة في أعقاب سنوات من الأزمات السياسية والاقتصادية.
سجلت البحرين أعلى تحسن في الحريات الصحفية بين دول الخليج، خلال هذا العام، بارتفاعها 16 مركزاً في عام واحد لتحتل 157، فيما قفز العراق 14 مركزاً كذلك ليحل في المركز 155.
و في 8 مايو/أيار وافق مجلس النواب البحريني على مشروع قانون تنظيم الصحافة والطباعة والنشر، الأمر الذي اعتبرته جمعية الصحفيين البحرينية "خطوة مفصلية في تاريخ الصحافة الوطنية، وتحولاً تشريعياً طال انتظاره، يؤسس لبيئة قانونية أكثر عدالة".
أما في العراق، فقد عزا التصنيف التهديدات المستمرة التي يواجهها الصحفيون العراقيون إلى عدم الاستقرار السياسي والضغوط، و"ضعف الدولة التي تفشل في أداء واجبها في حمايتهم"، بحسب "مراسلون بلا حدود".
وتحسنت مراكز معظم الدول، فقد صعدت قطر 5 مراكز لتصبح في المركز 79 عالمياً، والأولى خليجياً، وتقدمت السعودية 4 مراكز لتصبح في المركز 162، وتقدمت كل من عُمان والكويت 3 مراكز، لتصبحا في المركزين 134 و128، فيما انخفضت مراكز باقي الدول بشكل متوسط.
وأشار التصنيف إلى أنّ الإعلام المستقل غائب في بعض دول الخليج، وما زال هناك اعتقال للصحفيين، كما أنّ وسائل الإعلام تحت رقابة حكومية صارمة، ولا تزال تغطية القضايا السياسية الداخلية تُشكّل تحدياً حقيقياً للصحفيين.
ووصفت "مراسلون بلا حدود" مصر بـ" أكبر السجون في العالم بالنسبة للصحفيين، حيث أضحت البلاد بعيدة كل البعد عن آمال الحرية التي حملتها ثورة 2011".
وذكرت المؤسسة في التقرير أنّ هناك 20 صحفياً معتقلاً في مصر، أبرزهم المدوّن البريطاني من أصل مصري علاء عبد الفتاح، الذي يخوض هو ووالدته إضراباً عن الطعام بسبب استمرار اعتقاله.
وكانت السلطات المصرية قد حكمت عليه بالسجن 5 سنوات بتهمة "نشر معلومات كاذبة"، ووفقاً لأسرته ومحاميه، تحتسب السلطات المصرية سنوات الحكم منذ صدوره، بينما تطالب العائلة باحتساب سنتين من الحبس الاحتياطي ضمن المدة.
أما في سوريا، فلا تزال حرية الصحفيين "المكتسبة حديثاً" بعد سقوط حكم الأسد، هشّة، بحسب التقرير، بسبب استمرار عدم الاستقرار السياسي وتزايد الضغوط الاقتصادية.
وما بين المركز الخمسين، وثالث أسوء دولة في الحريات الصحفية حول العالم، يظل السؤال الحقيقي: ما مدى انعكاس هذه الأرقام - السلبية منها والإيجابية - على الممارسات اليومية للصحفيين، وهل تتحسّن الحريات الصحفية بالفعل بشكل ملموس في الميدان؟