يعتبر "طاجين اللحم بالبرقوق" من الأطباق الرئيسية القليلة في المطبخ العربي التي لا تمتزج فيها قطع اللحم بالخضروات أو بالبقول - كما هو حال معظم الوصفات المألوفة - بل تطبخ مع الفاكهة.
نكهة الطبق فريدةٌ، بين الحموضة والحلاوة.
ويعد الطاجين (وهو نوع من اليخنات) حجر الزاوية في المطبخ المحلي لكل من الجزائر والمغرب، وتسود منافسة بين البلدين الجارين بخصوص وصفة هذا الطاجين تحديدا، اللحم بالبرقوق؛ فلماذا هذا الطاجين تحديدا؟ وكيف يقدم على المائدتين؟
استخدم الأمازيغ الأواني الطينية التي تعرف بـ"الطاجين" في الطبخ.
صار الاسم الذي كان مرتبطا بالطناجر الفخارية العميقة يشير - في الجزائر والمغرب - إلى اليخنة المطهوّة على نار هادئة لعدة ساعات، والتي توفر نكهة أعمق وتُنتج لحما طريا للغاية. بينما يشير الطاجين في تونس إلى معجنات تُحضَّر بالبيض والبطاطا.
ويضمن الشكل المخروطي المميز لوعاء الطاجين بقاء البخار في الداخل، ما يجعل اللحم أكثر طراوة.
يعدُ طاجين اللحم بالبرقوق من الوجبات التقليدية في كل من المغرب والجزائر، وعادة ما يرافق الشعبين ليس فقط خلال شهر رمضان، بل يكون حاضرا في الأعراس وعنوانَ المناسبات الخاصة المختلفة والأعياد.
لدى كل من البلدين مطبخ من أقدم مطابخ المنطقة؛ هناك تداخل كبير بينهما بحكم الموقع الجغرافي والموروث الثقافي المشترك، ولكن حافظ كلٌ منهما على طابعه الخاص.
تحدثت إلى طاهيين معروفين في كل من الجزائر والمغرب عن أسرار إعداده، ويبدو أن الطبق عزيز على شعب كلّ من البلدين، لذا أصرّ كل منهما نسب الطبق إلى تراث بلده.
قبل طاجين البرقوق، كان هناك جدل حول أصل الكسكس - وهو طبقٌ شمال أفريقي شهير وقديمٌ جدًا - وحول موسيقى الراي، والزليج (فن الفسيفساء)، وكذلك الألبسة التقليدية وصولا لأصل طاجين اللحم بالبرقوق، وفق ما رصدناه على مواقع التواصل الاجتماعي من كلا الجانبين؛ فالخلافات بين الجاريَن ليست سياسية فقط، بل ثقافيّة أحيانا.
أبدأ من المغرب، مع الطاهي المحترف، الشيف سيمو، الذي وصف طاجين اللحم بالبرقوق بأنه "طاجين استثنائي"، قائلا إنه "أحد الأطباق الرئيسية في قائمتنا، ولا يجب تفويته".
يملك الطاهي سيمو مدونة طبخ وسلسة مطاعم في المغرب يقدم فيها أطباقا محلية ويعيد ابتكار بعضها.
يعتبر سيمو نفسه "سفيرا للثقافة المغربية"، وعند سؤاله عن نصيحته لإعداد طاجين اللحم بالبرقوق، أوصى بنقع قطع لحم الغنم الطرية أولا في التوابل فترة من الوقت "كي تستقر التتبيلة".
تشكيلة التوابل هذه تتكوّن من الزنجبيل والكركم والقرفة وكل من الفلفل الأسود والأبيض وملعقة صغيرة من عطرية المروزية. يخلط كل ما سبق مع الزعفران، الذي يُطحن ويضاف له الماء.
تمثل فاكهةُ البرقوق العنصر الأساسي في هذا الطاجين ويطلق عليها في بعض البلدان العربية اسم الخوخ أو البخاري أو غوجا وكذلك العوينة.
ويعتبر سيمو أن البرقوق هو ما يمنح الطاجين اللون الجميل والكثافة، شارحا أنه يجب "كرملة" البرقوق المجفف في مقلاة منفصله، بتذويب السكر في قليل من الماء حتى يغلي بعد سلق حبات البرقوق مع عود من القرفة وقليل من ماء الزهر لتصير طرية، وتصفيتها ووضع قطرات من الزيت عليها لتكتسب اللمعان.
وفي الدقائق الأخيرة تضاف الزبدة والعسل.
تطهى بعد ذلك قطع اللحم المتبل مع زيت وسمن وبصل، وتُضاف لها أعواد قرفة وحبات مستكة حتى مرحلة النضج.
يكشف لنا سيمو أن أساس نجاح الطبخة يعتمد على تسويتها على نار منخفضة هادئة لنحو ساعتين دون فتح الغطاء، إلا بالنصف ساعة الأخيرة حتى ينضج اللحم بشكل مثالي و"يتعسّل" البصل.
وأضاف "بعدها نزيل أعواد القرفة ونرصّع بخليط البرقوق واللوز المقلي والسمسم المحمص، ويقدم الطاجين بأناقة مع الخبز المغربي".
تناسب إضافة اللوز المحمص لطاجين اللحم بالبرقوق الذوق المغربي؛ فكما يقول سيمو لبي بي سي: "في طاجين اللحم بالبرقوق المغربي، اللوز المقلي يضفي قرمشة وهو مكون أصيل بهذا الطاجين، بينما الزبيب والسمسم خيارات حسب الذوق وللتزيين".
ويمكن إضافة المشمش المجفف أيضا للخليط، لكن بعد تحضيره بذات طريقة البرقوق.
يسمّى طبق طاجين اللحم بالبرقوق في الجزائر "طاجين لحلو" (الطاجين الحلو). لكن هل يختلف مذاقه - مثل اسمه - إذا قُدم بأسلوب جزائري؟
تشاركنا الشيف الجزائريّة المتمرسة، شهرزاد، وصفتها الخاصة لإعداد الطبق.
تقول لبي بي سي "تشتهر الجزائر بطاجين لحلو. هو جزء من التجمعات العائلية خاصة بأول أيام رمضان. البرقوق هو ما يتألق في هذا الطاجين الذي له مكانته وأثره الخاص على مائدة أمتنا".
"هو طبق عطري، مبهج، ملون ومشبع، ويسلط الضوء على إتقان النكهات المعقدة. أنا مغرمة به لأنه يحفز الحواس ويوفر رحلة للتعرف على الجوانب المجتمعية والاحتفالية للطعام في بلادي".
لتحضيره، تختار شهرزاد لحمُ الضأن من منطقة الفخذ أو الكتف، أما توابل الوصفة الجزائرية فهي خفيفة، مثل القرفة المطحونة والملح والفلفل مع شعيرات الزعفران المنقوعة بماء ساخن.
ولتعزيز نكهة البرقوق، تضيف شهرزاد الفانيليا إلى جانب المكونات المشتركة مع الوصفة المغربيّة.
وبحسب شهرزاد "تميل كل منطقة لوضع لمساتها الإبداعية، لكن المكونات الأساسية غالبا ما تظل كما هي".
في الفيديو المنشور على صفحتها، وضعت شهرزاد اللحم وسط طبق التقديم وأضافت مرق البصل المصفى، ونثرت اللوز الذهبي المقرمش على الوجه بعد قليه، ووضعت جزءا منه داخل حبات البرقوق وجعلت الفاكهة الحلوة بصلصتها المسكرة تغمر اللحم.
وأبدعت في التزيين حتى أخذ الطبق شكلا فنيا.
أشارت إلى أن إضافة الزبيب أو السمسم أو الفواكه المجففة الأخرى مثل التمر يعطي نتائج شهية.
سر الطبخة بالنسبة لشهرزاد يكمن في انتقاء قطعة لحم طرية وطهوها حتى الذوبان، واستخدام المرق الناتج في طهي البرقوق مع السكر.
قد لا يستسيغ بعض سكان المنطقة العربية اجتماع اللحم والفواكه في طبق رئيسيّ واحد، لكن الشيف سيمو يرى أن "الشيء الممتع والتحدي الحقيقي في الطبخ هو جمع مكونات ونكهات لا تتجانس - نظريا وظاهريا. الوصفة التي قد تبدو غريبة على الورق، قد يكون مذاقُها مذهلا عند تجربتها".
ويضيف: "يعتقد كثيرٌ من الناس أن الطعم الناتج عن لقاء الفاكهة واللحم غير جذاب، لأنهم غير معتادين عليه، لكن هذا اللقاء موجود في الوصفات التقليدية المغربية".
الشيف سيمو يسمي هذا الطبق "عسل الموائد الرمضانية وطبقٌ احتفالي من الدرجة الأولى"، أما الشيف الجزائريّة، شهرزاد، فتقول "قد يبدو الجمع بين اللحوم والفواكه غريبا في البداية للبعض، إلا أنه فلسفة طهي في الجزائر ويمكن تأليفُ كتابٍ كامل عنها وعن فواكه مثل التفاح والكمثرى دخلت أطباقنا الرئيسية مما يُخلق تباينًا وتناغما رائعين في الطبق نفسه".
ويستعرض سيمو تشكيلة أطباق مغربية يقول إنها ستجعل الأشخاص "يفكرون بشكل مختلف".
فيشير إلى "البسطية"، فطيرة الدجاج باللوز المتبلة بالثوم والبصل والزعفران أو الكركم والزنجبيل، التي تلف داخل عجينة رقيقة ومقرمشة مرشوشة بالقرفة والسكر؛ وكذلك طبق "المروزية"، الذي يحضره عادة في عيد الأضحى، بطهي لحم الضأن بتوابل رأس الحانوت مع القرفة والزعفران، ويزين بالبرقوق أو الزبيب مع العسل واللوز؛ وطبق "كسكس التفايا"، الذي يغطى بطبقة من البصل المكرمل المطهو مع الزبيب والقرفة والعسل؛ و"طاجين الدجاج بالمشمش أو التين".
"كل واحدة من تلك الوصفات تجعلُ من الطعام المغربي مغامرة"، كما يقول الشيف سيمو.
عند البحث في كتابات عدد من المختصين في الطعام، نجد إحدى النظريات تتحدث عن أن مزج اللحوم والفواكه - سواء الطازجة أو المجففة - في الأطباق الرئيسية ظهر في الشرق، لدى الإمبراطورية الفارسية تحديدا.
وبحسب هذه النظريّة، كان الإيرانيون رواد هذا اللون من الطبخ؛ إذ انتشرت فكرة الاسترخاء أثناء إعداد الطعام، ولذلك ظهرت اليخنات المطهوة ببطء لأنها شهية ومريحة.
وحتى اليوم، تستخدم العديد من الفواكهة في الطبخ لإضافة حلاوة طبيعية، كما تضاف للمشاوي، ولتحضير الصلصات أو للتزيين عند التقديم.
ومهما كان نوع اللحم المستخدم، يعثر الطهاة على فاكهةً تُناسبه، مثل التفاح أو الرمان الذي يلعب دورا مهما في الأطباق الإيرانية.
وبحسب ما ورد في كتاب "500 عام من المطبخ العثماني"، الصادر عام 2005، فقد تأثر المطبخ العثماني بالمطبخ الفارسي. وجاء فيه أنه كسرا للرتابة، طوّر طهاة قصر الحاكم العثماني أنواع طعام واستلهموا مأكولات من مناطق مجاورة لتقديمها للسلطان والعائلة وموظفي القصر والحاشية.
وهناك من يقول إن عادات الأكل في القصر العثماني شقت طريقها نسبيا عبر الإمبراطوريّة العثمانية إلى العالم العربي والإسلامي، فانتقلت تقنيات الطبخ الفارسية وإدخال المكسرات (الصنوبر واللوز والجوز والفستق) والفواكه المجففة (المشمش والتمر والتين والزبيب) إلى وجبات رئيسية.
ونجد في العراق على سبيل المثال طبق "الطرشانة"، المكون من المشمش المجفف الذي يستعمل لعمل الحساء، ثم يضاف له قطع لحم وجوز واللوز والبهارات وكذلك "الكبة الموصلية" التي يتم حشوها بالمشمش والفستق واللوز.