في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
في ظل التحولات الجيوسياسية والاقتصادية المتسارعة، تسعى دول الجنوب العالمي، بقيادة الصين وروسيا، إلى إعادة تشكيل النظام الدولي، بهدف كسر هيمنة الغرب وتحقيق مصالحها المتنامية.
وكرد فعل مباشر على العقوبات والعراقيل التي يفرضها الغرب للحد من صعود الاقتصادات الناشئة، جاء تأسيس منظمة بريكس، التي تضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، كمحاولة لتعزيز التعاون بين الدول النامية، وتلبية تطلعاتها نحو بناء نظام اقتصادي عالمي أكثر عدالة.
وتسعى المجموعة إلى تطوير آليات مالية واقتصادية مستقلة تُسهم في إعادة توازن القوى الاقتصادية على المستوى العالمي.
وتسعى منظمة بريكس، التي تضم نحو 40% من سكان العالم وأكثر من 25% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، لتعزيز التعاون بين الدول النامية التي تزخر بموارد طبيعية هائلة وتتمتع بأسواق ضخمة تمنحها نفوذا اقتصاديا متزايدا.
وفي إطار سعيها لتوفير بدائل للمؤسسات المالية الدولية المهيمنة، أنشأت بريكس "بنك التنمية الجديد" (NDB) الذي يعد أحد أبرز أدوات المواجهة الاقتصادية بين التكتل والغرب.
ويشكل هذا البنك بديلًا للمؤسسات المالية الغربية، إذ يتيح للدول الأعضاء تمويل مشاريعها التنموية وتقليل اعتمادها على الأنظمة المالية التقليدية التي يسيطر عليها الغرب، ويعزز استقلالية اقتصادات دول الجنوب العالمي ويعيد رسم دورها في النظام الدولي.
وبحسب موقعه الرسمي، فقد تأسس البنك عام 2015 كمؤسسة مالية متعددة الأطراف، تهدف إلى تعبئة الموارد لتمويل مشاريع البنية التحتية والتنمية المستدامة في دول بريكس والدول النامية الأخرى.
تحظى بريكس بدعم متزايد من دول الجنوب العالمي التي تسعى إلى تقليص النفوذ الغربي على اقتصاداتها، ويعكس اهتمام دول مثل السعودية والأرجنتين بالانضمام إلى المجموعة رغبة متزايدة في بناء تحالفات اقتصادية بديلة خارج الإطار الغربي.
إلى جانب ذلك، تعمل دول بريكس على تعزيز التعاون في مجالات التكنولوجيا والطاقة، بل تمتد بعض أوجه التعاون إلى المجال العسكري، مما يثير مخاوف الدول الغربية من تنامي نفوذ التكتل على الساحة الدولية.
وتلعب الصين وروسيا دورًا محوريا في تحويل بريكس إلى منصة لمواجهة الهيمنة الغربية، وتسعى بكين عبر "مبادرة الحزام والطريق" إلى تعزيز التعاون الاقتصادي والمالي بين الدول الأعضاء وتقليل الاعتماد على الدولار الأميركي.
في المقابل، تستخدم روسيا المنظمة كأداة لمواجهة العزلة الدولية المفروضة عليها بسبب العقوبات الغربية، إضافة إلى سعيها لإنشاء نظام مالي بديل، وتعزيز التجارة بين الدول الأعضاء باستخدام العملات المحلية، مما يعزز استقلالها الاقتصادي.
وفي هذا الإطار، شهد التبادل التجاري بين الصين وروسيا خلال عام 2024 نموًّا قياسيًّا، مدفوعًا بارتفاع صادرات النفط والغاز والفحم الروسي، مما يعكس تزايد التعاون الاقتصادي بين البلدين، وفقًا لموقع "تي في بريكس".
تأتي هذه الجهود ضمن إستراتيجية أوسع تهدف إلى بناء نظام عالمي متعدد الأقطاب يتحدى الهيمنة الأميركية والأوروبية، من خلال ربط آسيا وأفريقيا وأوروبا بشبكة متكاملة من البنية التحتية والتجارة، تعزز مكانة بريكس كقوة اقتصادية عالمية.
ينظر الغرب إلى بريكس باعتبارها أداة لتعزيز نفوذ الصين وروسيا في دول الجنوب العالمي، بما قد يُضعف التحالفات الغربية التقليدية ويطرح نموذجًا اقتصاديًّا بديلًا، يشكل تحديًا للهيمنة الغربية وقدرتها على استقطاب الدول النامية الباحثة عن شركاء جدد للتعاون والتنمية.
وفي قمة بريكس الأخيرة، دعت الصين وروسيا إلى تعزيز التعاون الاقتصادي وتقليل الاعتماد على الدولار، وهو ما أثار قلقًا كبيرًا في واشنطن، حيث يرى الساسة الأميركيون أن أي محاولة لتقويض هيمنة الدولار تمثل ضربة قوية للاقتصاد الأميركي.
وتخشى واشنطن أن يؤدي تعزيز التجارة بين أعضاء بريكس باستخدام العملات المحلية إلى تقليص دور الدولار كعملة احتياطية عالمية، مما يهدد مكانته في الأسواق المالية الدولية.
ورغم تباين مواقف الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي تجاه بريكس، فإن الجانبين يتفقان على اعتبارها تهديدًا اقتصاديا وإستراتيجيا.
إضافة إلى ذلك، تعكس الخلافات الأيديولوجية والسياسية بين الغرب وبريكس اختلافًا في الرؤى حول حقوق الإنسان والحوكمة والديمقراطية، وذلك مما يزيد من التوترات بين الطرفين ويعزز النظرة الغربية إلى بريكس ككتلة تسعى لإعادة تشكيل النظام العالمي وفق أسس مغايرة للنموذج الغربي التقليدي.
تتصاعد المناقشات داخل بريكس حول إنشاء عملة موحدة بديلة للدولار، وهي خطوة جذرية قد تهدد النظام الاقتصادي العالمي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة.
وتثير هذه التحركات قلق الغرب بشأن التداعيات المحتملة على الأسواق المالية العالمية، حيث يمكن أن تؤدي إلى إضعاف دور الدولار كعملة احتياطية عالمية. ووفقًا لمقال في موقع "إنفيستنغ نيوز نيتوورك"، فإن "إنشاء عملة احتياطية جديدة لدول بريكس قد يؤدي إلى انخفاض الطلب على الدولار، وذلك ينعكس على الاقتصادات العالمية بشكل مباشر".
أما الاتحاد الأوروبي، فينظر إلى بريكس باعتبارها منافسًا اقتصاديا قويا، خصوصًا مع النمو السريع للصين والهند، وتأثير المجموعة المتزايد على الأسواق العالمية والموارد الطبيعية والمؤسسات المالية الدولية.
وتتبع دول الاتحاد الأوروبي نهجًا مزدوجًا؛ فمن جهة تحرص على الحفاظ على علاقاتها الاقتصادية مع دول بريكس، لا سيما مع الهند والبرازيل، ومن جهة أخرى تعزز تحالفها مع الولايات المتحدة لمواجهة السياسات الصينية والروسية.
ورغم المنافسة الاقتصادية، لا تزال هناك مجالات للتعاون بين الاتحاد الأوروبي وبريكس، خاصة في القضايا العالمية مثل التغير المناخي، ومكافحة الأوبئة، وأمن سلاسل التوريد، ومكافحة الإرهاب.
ويعكس هذا التقاطع في المصالح درجة من التداخل بين الطرفين، رغم الخلافات الجوهرية حول النظام الاقتصادي العالمي.
وفي المقابل، يرى مقال مشترك للكاتبين نارايانابا جاناردان وحسين حقاني في موقع "ذا هيل" أن "توسع بريكس لا يعني بالضرورة معاداة الغرب، بل يعكس تحولًا نحو نموذج اقتصادي أكثر استقلالية، مع التركيز على التنمية والتعاون الاقتصادي"، وذلك يشير إلى أن المجموعة لا تهدف فقط إلى المواجهة، بل تسعى إلى تأسيس نموذج عالمي جديد للتعاون.
تعكس هذه التطورات قلق الغرب المتزايد من تأثير بريكس على النظام الاقتصادي العالمي، لا سيما في ما يتعلق بمكانة الدولار والعلاقات الاقتصادية التقليدية.
ومع استمرار توسع بريكس وسعيها إلى إنشاء مؤسسات مالية بديلة، يصبح مستقبل الهيمنة الغربية على الاقتصاد العالمي موضع تساؤل، حيث يتجه العالم نحو نظام أكثر تعددية في القوى الاقتصادية والمالية.
في الولايات المتحدة، يُنظر إلى بريكس على أنها تهديد إستراتيجي واقتصادي، وقد عبّر الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن هذه المخاوف واصفًا بريكس بأنها تهديد للأمن القومي، محذرًا من أن أي محاولة لتقويض الدولار ستشكل ضربة قاسية للاقتصاد الأميركي.
وهدد ترامب بفرض تعريفات جمركية بنسبة 100% على واردات دول بريكس إذا مضت في إنشاء عملة موحدة بديلة للدولار. وفي مقابلة مع "سي إن بي سي" في مارس/آذار 2024، شدد ترامب على أن الحفاظ على الدولار كعملة احتياطية عالمية أمر غير قابل للتفاوض، محذرًا من أن التخلي عن الدولار سيكون ضربة قاسية للاقتصاد الأميركي.
كما تعهد بعدم السماح لأي دولة بالاستغناء عن الدولار، مؤكدًا أنه "سيظل العملة الاحتياطية العالمية".
وفي مواجهة تنامي نفوذ بريكس، عززت الولايات المتحدة تحالفاتها الاقتصادية والأمنية، مثل مجموعة السبع (G7) التي تسعى لمواجهة صعود الاقتصادات الناشئة، وتحالف أوكوس (AUKUS) في منطقة المحيطين الهندي والهادي بهدف الحد من نفوذ الصين.
كذلك كثفت جهودها لاحتواء التوسع الاقتصادي والسياسي للصين وروسيا داخل بريكس. ووفقًا لمقال في موقع "يوراسيا ريفيو"، فإن المخاوف الأمنية من تنامي نفوذ بريكس قد تدفع الولايات المتحدة إلى تعميق التعاون الأمني مع حلفائها وتوسيع نطاق تحالفاتها الإستراتيجية، لمواجهة التحولات المتسارعة في النظام العالمي.
لا بد من الإشارة إلى أن التحديات التي تواجهها بريكس لا تقتصر على الخارجية منها، فهي تواجه تحديات داخلية مهمة أيضًا، ويمكن لهذه التحديات أن تعرقل قدرتها على تحقيق أهدافها، لا سيما في ما يتعلق بإنشاء نظام مالي بديل.
كذلك فإن بريكس تعاني من تباينات جوهرية في المصالح الاقتصادية والسياسية لدولها الأعضاء، مما يجعل التنسيق داخل المجموعة تحديًا كبيرًا.
فبينما تسعى الصين وروسيا إلى مواجهة الهيمنة الغربية بشكل مباشر، تحافظ الهند على علاقات وثيقة مع الولايات المتحدة تجعلها في موقف متناقض مع شريكيها الرئيسيين داخل التكتل، وتحدّ من قدرتها على تبنّي مواقف موحدة معهما.
وتؤثر النزاعات الحدودية، مثل التوترات بين الصين والهند في جبال الهيمالايا، على فاعلية التعاون داخل بريكس، فرغم الجهود الدبلوماسية تظل هذه الخلافات عقبة أمام تحقيق تكامل سياسي واقتصادي حقيقي.
بالإضافة إلى ذلك، يظهر التفاوت الكبير بين اقتصادات الدول الأعضاء كعامل آخر يحدّ من فاعلية بريكس، فبينما تُعد الصين والهند قوتين اقتصاديتين صاعدتين تواجه جنوب أفريقيا والبرازيل تحديات داخلية كالبطالة والتضخم تعيق مساهمتهما الفعالة في تحقيق الأهداف المشتركة.
وعلى صعيد التحديات الخارجية، فإن بريكس تواجه ضغوطًا متزايدة من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وتهديدا بفرض العقوبات، في ما يعد تحديا كبيرا على الصعيد العملي، لكنه يمكن أن يأتي بنتائج عكسية من خلال دفع دول بريكس إلى تعزيز تعاونها وتطوير بدائل اقتصادية جديدة.
كذلك تستغل الدول الغربية قضايا مثل حقوق الإنسان والديمقراطية لتقويض نفوذ بريكس عالميا.
تُعد الصين القوة المهيمنة فعليًّا على بريكس، فوفقًا للمحلل الاقتصادي بول مكنمارا فإن الصين تمثل وحدها 73% من إجمالي اقتصاد المجموعة، مما يعكس الفجوة في التأثير في مشاريع المنظمة وقراراتها خصوصًا مع انشغال روسيا بحربها في أوكرانيا.
وتسعى الصين إلى تعزيز قوة بريكس من خلال توسيع عضويتها، حيث دعمت انضمام السعودية والإمارات وإيران، في خطوة تهدف إلى تحويل المجموعة إلى تحالف اقتصادي وسياسي أكثر تأثيرًا عالميا.
ووفقًا لمقال في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، فإنه "من السهل التقليل من شأن بريكس، لكن القمة الأخيرة التي استضافها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تعكس مشكلة أعمق"، في إشارة إلى قدرة المجموعة على التأثير في النظام المالي العالمي.
في نهاية المطاف، يُعد الصراع بين بريكس والغرب انعكاسًا للتحولات العميقة في النظام العالمي، حيث تقف المنظمة أمام معركة طويلة الأمد مع الولايات المتحدة وحلفائها الذين يسعون للحفاظ على هيمنتهم الاقتصادية والمالية.
ويكمن التحدي الأكبر أمام بريكس في مدى قدرتها على تجاوز خلافاتها الداخلية، وتعزيز التعاون الجماعي لمواجهة التحديات التي يفرضها النظام العالمي القائم.