في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
أثرت الحرب في سوريا على السكان وخصائصهم وحركتهم، لا سيّما في المناطق التي كانت خاضعة لسيطرة المعارضة شمالي سوريا، هذه المناطق التي شهدت موجات كبيرة من الهجرة والنزوح الداخلي منها وإليها، مما أعاد تشكيل ملامحها السكانية.
وتُعتبر مدينة عفرين شمال حلب، نموذجا بارزا لهذه التحولات والآثار العميقة على السكان، والتي يتوق ألا تزول سريعا حتى بعد سقوط النظام السوري وانتهاء الحرب.
يذكر مروان بركات في كتابه "عفرين عبر العصور" أن مدينة عفرين تأسست على يد الفرنسيين حـين بنـوا الـسراي الحكومي ومخفر الدرك عام 1925، ووفقا للدكتور محمد عبدو علي في كتابه "جبال الكرد" فإن عفرين بقيت بلدة صغيرة حتى ستينيات القرن الماضي، وبعد هذا التاريخ شهدت توسعا عمرانيا كبيرا بسبب هجرة السكان إليها من القرى المحيطة.
ووفقا لبيانات المكتب المركزي للإحصاء، فقد بلغ عدد سكان المدينة 19 ألفا و914 نسمة عام 1981، و28 ألفا و698 نسمة عام 1994، وارتفع إلى 36 ألفا و562 نسمة عام 2004، ووصل إلى 41 ألفا و794 نسمة وفق توقعات المركزي للإحصاء لعام 2009.
أما عرقيًا، فيوضّح لقمان سليمان -وهو أحد نشطاء وجهاء المدينة- أن عفرين كانت ذات غالبية كردية مع وجود عدة عشائر وعائلات عربية، أبرزها: البوبنا والعميرات والبوبطوش.
مع اندلاع الثورة السورية عام 2011، شهدت عفرين تحولات سكانية ملحوظة، بدأت هذه التحولات بعد دخول الثورة مرحلة العمل العسكري واشتداد المعارك بين النظام والمعارضة.
ورغم أن عفرين لم تكن إحدى الساحات الرئيسة للحرب، فإن الاستقرار النسبي الذي شهدته المدينة -وفقا للناشط لقمان سليمان- أدى إلى نزوح عشرات آلاف السوريين إليها، لا سيّما من مدينة حلب، في المقابل هاجر الآلاف من أبنائها إلى تركيا وأوروبا، لا سيّما فئة الشباب هربا من التجنيد الإجباري الذي فرضته وحدات حماية الشعب الكردية.
ورغم ما شهدته هذه الفترة من تغيرات سكانية هامة، فإن قلة البيانات المنشورة عن النزوح والهجرة في المدينة خلالها يحد من القدرة على دراستها بشكل موسع. استمرّت هذه المرحلة من منتصف 2012، وحتى مطلع 2018 وقت انطلاق معركة غصن الزيتون.
بعد سيطرة قوات الجيش الوطني على مدينة عفرين في مارس/آذار 2018 شهدت المدينة تحولات سكانية كبيرة، كان النزوح الداخلي العامل الأبرز وراء هذه التحولات.
فإضافة إلى حالات النزوح الفردية، شهدت المدينة وصول موجتين رئيستين من النازحين؛ الموجة الأولى جاءت في عام 2018 إثر سيطرة النظام على مناطق من الغوطة الشرقية وريف حمص الشمالي ودرعا وتهجير عشرات الآلاف من أبنائها إلى الشمال السوري.
أما الموجة الثانية فكانت خلال عامي 2019 و2020 بعد سيطرة النظام على مناطق من ريف حماة الشمالي وريف إدلب الجنوبي وتهجير أبنائها.
أدت أعداد النازحين إلى تضخم سكاني غير مسبوق في عفرين، ووفقًا للإحصائيات الصادرة عن منصة تبادل البيانات الإنسانية "إتش دي إكس" (HDX)، التابعة لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية "أوتشا" (OCHA)، بلغ عدد سكان المدينة في يوليو/تموز 2023 ما مجموعه 215 ألفا و581 نسمة.
وبالمقارنة بعدد السكان في المدينة عام 2009 يلاحظ أن نسبة الزيادة السكانية خلال 13 عاما فقط تجاوزت 400%، وهذه الزيادة غير الطبيعية تعكس عمق التحوّلات السكانية والتغيير الديموغرافي في المدينة.
ووفقا للإحصائيات الصادرة عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية "أوتشا"، بلغ عدد السكان النازحين في عفرين 180 ألفا و161 نسمة أي ما نسبته 84% من إجمالي السكان، بينما بلغ عدد المقيمين الأصليين 35 ألفا و420 أي ما نسبته 16% من سكانها فقط.
يعود هذا التغيّر الكبير إلى عاملين اثنين هما:
وقد انعكس هذا التغيير في أعداد السكان على التركيبة العرقية، حيث أصبح النازحون العرب يمثلون غالبية السكان في المدينة.
ينحدر النازحون من مختلف المحافظات السورية باستثناء السويداء، ووفقا لمعلومات متقاطعة من المكاتب الإغاثية الخاصة بالهيئات والروابط الممثلة للنازحين، فقد بلغ مجموع العائلات النازحة في المدينة 33 ألفا و878 عائلة تتوزع بحسب منطقة النزوح، كما يظهر المخطط التالي:
شهدت مدينة عفرين بعد 2018 تغيرات عميقة على صعيد نسيجها الاجتماعي والعلاقات بين مكوناته، وهذا ما يوضّحه مدير المكتب القانوني في المجلس المحلي لمدينة عفرين محمد حاج عبدو، الذي تحدث عن أنّ تكدّس أعداد كبيرة من السكان من محافظات متعددة وثقافات وعادات مختلفة أدى إلى توترات اجتماعية ومشاكل متكررة اتخذت في كثير منها طابعا مناطقيا.
وفي ظل ضعف الأجهزة الأمنية والقضائية، بحسب عبدو، تنامت العصبيات المناطقية والعشائرية بشكل ملحوظ حتى أصبحت حالة موازية للأجهزة الأمنية والقضائية يعتمد عليها الأفراد في حماية أنفسهم وحل ما ينشأ بينهم من خلافات.
ويضيف عبدو أن الاكتظاظ السكاني الذي ترافق مع محدودية الموارد والمساكن دفع بعض النازحين، لاسيما المرتبطين بمجموعات عسكرية غير منضبطة إلى التعدي على ممتلكات السكان الأصليين، مما تسبب في شرخ اجتماعي عزّزته التصرفات الفردية لبعض النازحين الذين لم يتحلّوا بالاحترام الكافي لثقافة وعادات المجتمع العفريني.
وختم عبدو أن المجلس المحلي وباقي الأجهزة المسؤولة عن المدينة عملوا جاهدين على معالجة هذه المشاكل وحققوا تقدما مقبولا، ولكن التحديات كبيرة وتحتاج المزيد من الوقت والعمل والموارد.
وفي سياق الآثار الاجتماعية، يقول الباحث في مركز عمران مجيب خطاب إنّ البنية التحتية للخدمات، خاصة الصحية والتعليمية، والتي كانت ضعيفة بالأصل قبل 2018، لم تستطع تلبية احتياجات الأعداد الكبيرة من السكان، ويضيف خطاب أنّ التطور المحدود الذي شهدته البنية التحتية لقطاعي التعليم والصحة في المدينة بعد 2018، غير كاف لسدّ الفجوة الحاصلة، مما ينعكس سلبا على الخصائص التعليمية والثقافية والصحية للسكان، خاصة الفئات الأكثر فقرا من غير القادرين على تحمل الأعباء المالية للطبابة والتعليم الخاص.
ارتبط النزوح بالخسائر الاقتصادية، لا سيّما النازحين من العاملين في النشاط الزراعي الذين اضطروا لترك أراضيهم ومنازلهم والانتقال لمناطق جديدة لا يملكون فيها شيئا، وفي هذا السياق يوضّح الباحث مجيب خطاب أنّ النازحين وجدوا أنفسهم مضطرين للعيش في مناطق محدودة الموارد تعتمد في اقتصادها على الزراعة وبعض النشاطات الخدمية والتجارية والصناعية المحدودة، وهذه الأنشطة غير قادرة على توفير فرص العمل لهذه الأعداد الكبيرة من السكان.
ويرى خطاب ضرورة تطوير النشاط الصناعي القادر على استيعاب أعداد أكبر من اليد العاملة، ويتساءل خطاب عن السبب وراء عدم إنشاء مدينة صناعية في عفرين على غرار المدن الصناعية التي أنشئت شمال حلب في الباب والراعي وغيرها.
من جهة أخرى يرى الصحفي حمزة عباس، النازح من دمشق إلى عفرين، أن المدينة شهدت بعد 2018 تحسنا في بعض الأنشطة الاقتصادية، خاصة بعد عام 2020، حيث ارتفع عدد الشركات التجارية وتم إنشاء عدة منشآت للصناعات الغذائية والبلاستيكية وغيرها، بالإضافة إلى تطور ملحوظ في نوعية وأعداد المنشآت الخدمية مثل المطاعم.
لكن، وفقا للخبير الاقتصادي الدكتور أسامة القاضي، فإن هذا التحسن محدود وغير قادر على استيعاب حجم القوة العاملة في المدينة، وأضاف القاضي أن السبب وراء استمرار ارتفاع معدلات الفقر والبطالة والإعالة وتدني مستوى الدخل والمعيشة، يعود بالدرجة الأولى إلى غياب التنمية الاقتصادية المتكاملة التي تتطلب تعزيز الأمن والحكم الرشيد وسيادة القانون، ودون ذلك لا يمكن لاقتصاد عفرين أو غيرها من المناطق السورية أن ينهض.
رغم مرور قرابة شهر ونصف على سقوط النظام السوري، فإن نسبة النازحين العائدين من عفرين إلى مناطقهم الأصلية قليلة جدا ولا تتجاوز 10% بحسب تقديرات المكتب الإغاثي في المجلس المحلي لمدينة عفرين.
ويقول مدير المكتب حسين محمد السلمو إن المدينة شهدت أيضا عودة محدودة لعدد من سكانها الأصليين الذين كانوا في مدينة حلب وتل رفعت، إلا أن غالبية هؤلاء عادوا مرة أخرى إلى تلك المناطق بسبب وجود عائلات نازحة في منازلهم يصعب إخراجهم منها.
من جهة أخرى، يقول مدير منظمة إمداد الإنسانية في عفرين محمد زينية إن معظم النازحين لم يعودوا إلى مناطقهم الأصلية نتيجة تدمير منازل قِسم منهم، فضلًا عن تدني الخدمات الأساسية في مدنهم كالتعليم والصحة والكهرباء، مما جعل العودة غير ممكنة.
وأضاف زينية أن تحسن الأوضاع الأمنية والتعليميّة في تلك المناطق قد يشجع العديد من النازحين على العودة مع تحسن الظروف، وفي هذا السياق، تحدّث عدنان الدخيل، أحد نشطاء محافظة دير الزور، عن وجود سبب آخر خاص يعيق عودة أهالي مناطق شرق الفرات، وهو استمرار سيطرة قوات سورية الديمقراطية (قسد) على أجزاء واسعة من دير الزور والرقة والحسكة.
أما سعيد عزيز، النازح من حماة إلى عفرين، فأكّد أن ارتباطه بعفرين سيظل قائما حتى إذا عاد إلى مسقط رأسه، فلطالما عمل في تجارة زيت الزيتون داخل المدينة، ما جعله يكوّن شبكة من الشركاء والعملاء في عفرين وريفها، مما سيُبقي له في المدينة ارتباطًا اقتصاديا واجتماعيا وعاطفيا.
وفي النهاية، فإن تلك التحولات التي شهدتها عفرين تعكس صورة عن الآثار المؤلمة التي خلفتها الحرب على المجتمع السوري ككل، هذه الآثار وبالرغم من مرور أكثر من 5 أسابيع على سقوط النظام، لا تزال مستمرة بسبب عمق التحولات التي أحدثها حجم الحرب وطول أمدها.
ورغم سقوط النظام في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، لا تزال عودة النازحين إلى مناطقهم محدودة، ويرجع هذا إلى عدة عوامل، أبرزها تضرر المنازل، وضعف أو انعدام الخدمات في بعض المناطق، إضافة إلى الرغبة في عدم انقطاع أبنائهم عن الدراسة في منتصف العام الدراسي، وصعوبة التنقل في فصل الشتاء البارد.
ومن المتوقع مع اقتراب فصل الصيف وانتهاء العام الدراسي أن تشهد حركة العودة زيادة ملحوظة، وهو ما سيُقابَل بعودة عدد من سكان عفرين إلى المدينة من حلب وتل رفعت وغيرها، خاصة بعد أن تكون العائلات المقيمة في منازلهم قد غادرتها وعادت، لتبدأ نهاية النزوح السوري الذي يبدو أن آثاره وحكاياته ستستمر في سوريا و في الذاكرة الجمعية للشعب السوري طويلا.