في وقت أرسلت فيه العديد من الدول وفودا رسمية إلى دمشق لعقد اجتماعات مع الإدارة السورية الجديدة، تقف القاهرة كـ"مترقب" للتطورات يعلن دعمه لوحدة سوريا وطلبه بإدارة منتخبة للبلاد، فحتى الآن لم تعلن مصر عن أي تواصل رسمي تم بينها وبين دمشق منذ سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر كانون الأول الجاري، ما يثير العديد من التساؤلات عن الموقف المصري من الإدارة السورية الجديدة.
وخلال الأسبوعين الماضيين، أجرى وزير الخارجية المصري اتصالات مكثفة لمناقشة الأوضاع في سوريا، مع مختلف الأطراف الدولية والإقليمية، خلال هذه الاتصالات دائما ما تؤكد مصر على دعم استقرار سوريا ووحدة وسلامة أراضيها، ورفض المساس بسيادتها أو تقسيمها.
لكن على الجانب الآخر، تهاجم العديد من الوجوه الإعلامية المصرية المعروفة بقربها من الحكومة في مصر الإدارة السورية الجديدة، وقائدها أحمد الشرع، الذي عرف سابقا باسم "أبو محمد الجولاني"، ويتزعم هيئة تحرير الشام المصنفة كتنظيم إرهابي في عدة دول.
ولم تصدر القاهرة تعليقا واضحا بشأن الاتصال بالإدارة السورية الجديدة أو مستقبل التعاون معها، كما أن وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي لم يجب على سؤال لبي بي سي في هذا الشأن خلال لقاء الأسبوع الماضي مع الصحفيين الأجانب بالعاصمة المصرية.
أيضا تواصلت بي بي سي مع السفير تميم خلاف، المتحدث باسم الخارجية المصرية، لكنه لم يستجب لطلب التعليق على النهج الذي ستتبعه مصر بالنسبة للإدارة الجديدة في سوريا.
إلى جانب الاتصالات المستمرة منذ سقوط نظام الأسد، شاركت مصر في 14 ديسمبر كانون الأول الجاري في اجتماعات لجنة الاتصال الوزارية العربية بشأن سوريا التي عقدت بمدينة العقبة الأردنية، وخلال هذه الاجتماعات استعرض الوزير عبد العاطي محددات الموقف المصري من التطورات في سوريا التي تستند إلى ضرورة دعم الدولة السورية واحترام سيادتها ووحدة وسلامة أراضيها.
كما شددت مصر خلال هذه الاجتماعات على أهمية تكاتف الجهود الإقليمية والدولية لاستعادة الاستقرار على كامل الأراضي السورية، وأهمية تدشين عملية سياسية شاملة بملكية سورية تضم كل مكونات المجتمع وأطيافه لتحقيق مصالحة وطنية وضمان نجاح العملية الانتقالية، بحسب بيان للخارجية المصرية.
أيضا تناول البرلمان المصري الأوضاع في سوريا، وخلال كلمة ألقاها رئيس مجلس النواب المصري حنفي جبالي، أكد رفضه للتدخلات الأجنبية الإقليمية أو الدولية في الشأن السوري، قائلا: "سواء عبر فرض مناطق نفوذ على الأراضي السورية، أو التدخل في الشأن السوري الداخلي، أو عبر محاولات تغيير الواقع الجغرافي أو الديموغرافي، أو بإذكاء النعرات المذهبية والعرقية، أو بنشر التوجهات الإقصائية".
وشدد جبالي على موقف مصر من الأزمة التي عاشتها سوريا منذ 13 عامًا، وقال إنَّ العلاقة التاريخية بين مصر وسوريا تجعل من أمن واستقرار سوريا أمرًا حيويًا لمصر، ومرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بأمن مصر القومي والعربي.
في حديث مع بي بي سي، يحلل المساعد السابق لوزير الخارجية المصري حسين هريدي، اجتماعات العقبة التي شاركت فيها مصر، ويقول إنها أكدت على عدة مبادئ تحكم تعامل المجتمع الدولي مع سوريا، أهمها أن الوضع الحالي في سوريا "وضع مؤقت ولا يجب التعامل مع أي اتفاقات أو قرارات تنتج عنه على أنها دائمة، وهذا هو موقف مصر الذي تلتزم به".
وأكد هريدي أن تعامل بعض القوى الكبرى وبعض الدول مع الإدارة الجديدة في سوريا وبناء علاقات معها كما لو كانت إدارة دائمة، لن يفرض على مصر أي ضغوط أو أمرا واقعا، لأن "رؤية مصر هي الأصوب"، حسب تعبيره.
وقال هريدي، الذي عمل في أروقة الدبلوماسية المصرية حتى عام 2009 إن "هذه جماعة إرهابية وهذا زعيم إرهابي، ولا نستطيع أن نتعامل معه، والتعامل معه يعني قبول مصر لمبدأ التعامل مع إرهابيين يفرضهم الغرب كرؤساء أو زعماء سياسيين حسب مصالحه"، مضيفا "بشكل شخصي، لا أتصور أن أي مسؤول مصري سيصافحه - الشرع- أو يستقبله حتى إذا تم انتخابه رئيسا لسوريا".
وألغت الولايات المتحدة الأمريكية مكافأة بنحو 10 ملايين دولار أمريكي لكل من يدلي بمعلومات عن الجولاني، عقب لقاء مساعدة وزير الخارجية الأمريكية باربرا ليف معه على رأس وفد دبلوماسي زار دمشق الأسبوع الماضي والتقى الشرع في قصر الحكم.
وأكدت ليف في تصريح لها أن القرار تم اتخاذه في سياق سياسي جديد يعكس تغير الأولويات الأميركية في سوريا.
لكن هريدي استبعد في الوقت نفسه أن تقاطع مصر سوريا كدولة، وقال إن "مصر تعترف بالدول لا بالأنظمة والرؤساء، ومن الممكن أن تظل السفارات بين البلدين على مستوى القائم بالأعمال لتسيير مصالح الناس فقط".
بعد أيام من تولي أحمد الشرع قيادة الحكم في سوريا انتشرت له على مواقع التواصل الاجتماعي بمصر صورة تجمعه مع المصري محمود فتحي، -المطلوب أمنيا في مصر، وياسين أقطاي مستشار الرئيس التركي رجب طيب أروغان.
هذه الصورة أثارت جدلا كبيرا خاصة وأن فتحي، الذي حصل على الجنسية التركية لاحقا حسب تقارير عدة، مدرج على قائمة الكيانات الإرهابية التي أصدرتها مصر مؤخرا، ومدان في عدة قضايا تتعلق بأنشطة إرهابية، ومحكوم عليه بالإعدام غيابيا في قضية مقتل النائب العام المصري هشام بركات، وبحسب القائمة فإن نشاطه "الإرهابي" ضد مصر مازال مستمراً من الخارج حتى العام الحالي 2024.
الصورة اُعتبرت "عدائية" لدى الكثير من مؤيدي النظام في مصر، حيث قال البرلماني والكاتب الصحفي المصري مصطفى بكري إن "النظام الجديد في سوريا أظهر لغة عدائية ضد مصر باستقباله فتحي أحد قتلة النائب العام المصري السابق هشام بركات"، مضيفا "هذا الاستقبال أثار قلق كل المصريين".
كما أشار بكري إلى هناك أمر مقلق آخر متعلق بالإدارة السورية الجديدة، وهو "الأعداد الكبيرة من المصريين الموجودين ضمن عناصر هيئة تحرير الشام، وكان لهم دورهم بالتأكيد مع التنظيمات الإرهابية، ومصر وضعت أسماء الكثيرين منهم على قوائم ترقب الوصول".
ولا يوجد إحصاء عن عدد المصريين الذين انخرطوا في القتال في سوريا، لكن خلال الأعوام ظهر العديد من الأشخاص المطلوبين أمنيا لدى الحكومة المصرية، أو التابعين لجماعات تصنفها مصر إرهابية، خلال معارك جبهة النصرة في سوريا قبل سنوات، والتي انبثقت عنها لاحقا هيئة تحرير الشام.
وأضاف بكري أن مصر لها "مواقفها الثابتة" التي تنطلق من قرارات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية فيما يتعلق بالإرهاب، وتابع "القاهرة منذ البداية أكدت وتؤكد أنها مع الدولة السورية والشعب السوري، وبالتأكيد فالقاهرة لديها المعلومات الكافية التي تجعلها تتخذ القرار المناسب في اللحظة المناسبة".
على الجانب الآخر، يؤكد محللون سوريون حرص الإدارة السياسية الجديدة في سوريا على التواصل مع كافة البلدان، ومن بينها مصر، كما يرون أن الموقف المصري "المتأني" من الإدارة الجديدة في سوريا، يعكس رغبة في التعامل مع حكومة معترف بها دوليا.
ويقول الكاتب والمحلل السياسي السوري حسام طالب إن "أي إدارة في سوريا لا يمكن أن تتجاهل القاهرة بثقلها ودورها الإقليمي والتاريخي، ولكن حسب ما فهمناه من البيانات المصرية فالقاهرة تتأنى في كيفية التعاطي مع الموقف وتتخذ موقفا يتسم بالحياد الإيجابي، لأن مصر ترغب في التعامل مع حكومة معترف بها دوليا وأمميا وعربيا وتمثل كل الشعب السوري وليست حكومة وقتية فرضتها الظروف".
وعن استقبال الشرع لمحمود فتحي قال حسام طالب "في تصوري أن الشرع لم يكن يعلم طبيعة هذا الشخص ولا أنه مطلوب في قضايا إرهابية بمصر، لأن الشرع حريص في تصريحاته على عدم إثارة أي توترات مع أي دولة فما بالنا إذا كانت مصر".
وحول وضع المصريين المصنفين كـ"إرهابيين" في هيئة تحرير الشام، يرى طالب أن هذا الملف "يحتاج إلى تواصل بين الحكومة المصرية والإدارة السورية"، مؤكدا "هذه الأمور ستحل، ومن مصلحة الشرع حلها".
كما لفت طالب إلى أن الإدارة السورية الجديدة لم تقم بأي تواصل مع أي دولة، موضحا "الشرع فقط استقبل وفودا طلبت زيارته".
وخلال الأسبوعيين الماضيين، زار سوريا وفود أممية وأخرى من عدة دول أبرزها الولايات المتحدة، وتركيا، والأردن، وقطر، والسعودية.
ويرى طالب، أن المواقف العربية والدولية ستصبح "أكثر تساهلا" في التعامل مع الإدارة الجديدة في سوريا في حال إزالة اسم هيئة تحرير الشام من تصنيف الجماعات الإرهابية في أمريكا وعلى المستوى الدولي.
وخلال عدة مقابلات مع وسائل إعلام أجنبية بعد سيطرته على الحكم في سوريا، دعا الشرع إلى إزالة هيئة تحرير الشام من قوائم الكيانات الإرهابية وإلغاء العقوبات المفروضة على سوريا، مؤكدا أن الهيئة لم ترتكب جرائم تستدعي وضعها على قوائم الإرهاب.
وأشارت تقارير إعلامية أمريكية إلى أن الإدارة الأمريكية ستنظر في رفع هيئة تحرير الشام من قوائم الإرهاب، إذا أظهرت أنها ستحكم سوريا بطريقة "شاملة ومسؤولة"، بحسب تقرير لصحيفة واشنطن بوست.
أحد أبرز الفصائل السورية التي أبدت قلقا من سيطرة الشرع وهيئة تحرير الشام على الحكم في سوريا، هم الأكراد، الذين يتخوفون من التقارب بين تركيا وهيئة تحرير الشام.
في حديث مع بي بي سي، تتفق ليلى موسى ممثل مجلس سوريا الديمقراطية -الجناح السياسي لقوات سوريا الديمقراطية في الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا - مع الموقف المصري في التأني في التعامل مع الإدارة الجديدة في سوريا.
وتقول "مصر تنتظر حتى ترى ما سيتمخض عنه المشهد في سوريا وما إذا كانت الإدارة الجديدة في سوريا ستلتزم بتصريحاتها الإيجابية نحو الالتزام بدولة القانون والدستور وستقود البلاد لحكومة تمثل الجميع أم أنها فقط تكسب الوقت حتى تسيطر على المشهد وتبدأ في ممارسات الإقصاء".