في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
قبل مارس/آذار 2022 كان سعر الفائدة في أميركا يتراوح ما بين صفر و0.25%، لكن بسبب موجة التضخم التي اجتاحت اقتصادات العالم، إثر ارتفاع أسعار النفط بعد الحرب الروسية على أوكرانيا ، اتجهت السياسة النقدية الأميركية إلى رفع سعر تكلفة الإقراض تدريجيًا، حتى اقترب من 5%.
وأواخر أكتوبر/تشرين الأول 2025، اتخذ بنك الاحتياطي الاتحادي الأميركي قراره الثاني بتخفيض الفائدة 0.25% إلى ما يتراوح بين 3.75% و4%، على أمل أن يتم تخفيض آخر بنهاية عام 2025.
غير أن رئيس المجلس الفدرالي الأميركي جيروم باول صرح لوسائل الإعلام بأن تخفيض سعر الفائدة نهاية العام أمر ليس مجزوما به، معللًا ذلك لارتباط الأمر بأداء التضخم وسوق العمل حتى نهاية العام. ويرى باول أن التضخم لايزال يرتبط بالرسوم الجمركية المرتفعة، وإن كان التضخم بنهاية سبتمبر/ أيلول ارتفع بمعدلات أقل من المتوقع.
وتشير الأرقام المنشورة إلى أن التضخم بنهاية سبتمبر/أيلول بلغ 3% في أميركا، مقارنة بـ2.8% في أغسطس/آب. وكانت التوقعات تشير إلى احتمال بلوغ معدل التضخم 3.1%، ويرى باول أن التضخم في الأجل الطويل يقترب من المستهدف عند 2%، لكن في الأجل القصير لايزال أعلى من المستهدف.
وقد واكب قرار الفدرالي الأميركي الشهر الماضي انتعاش أسواق المال، واتخذت بعض الاقتصادات المرتبطة بالدولار قرارات مشابهة بتخفيض الفائدة.
غير أن أسواق الذهب التي كان مقررًا لها أن ترتفع، على احتمال أن تخرج الأموال من دائرة السندات إلى امتلاك الذهب، شهدت تراجعات ملموسة، لأقل من 4 آلاف دولار للأوقية (الأونصة) بسبب ضبابية استمرار السياسة النقدية الأميركية بخصوص تخفيض الفائدة خلال الفترة القادمة.
وتأتي خطوة الفدرالي الأميركي بخفض سعر الفائدة لتلبي رغبات الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي يعتبر أسعار الفائدة حاليا مرتفعة، ويرغب في خفضها بمعدلات أكبر وأسرع مما يعمل في إطاره الفدرالي، وحسب رؤية ترامب فإن استمرار ارتفاع الفائدة يعيق الاستثمار.
ويأمل ترامب عودة المستثمرين الأميركيين لتوطين المزيد من الصناعات والأنشطة الإنتاجية والخدمية الأخرى، وبخاصة في ظل الصراع مع الصين وغيرها من الدول الصاعدة، وكذلك مع أوروبا.
وبشكل عام، فإن اليمين الأميركي أكثر قناعة بالمدرسة النقدية التي تسمح بالتوسع في الحرية الاقتصادية، وخفض سعر الفائدة، وزيادة الاستثمارات، وخفض الضرائب، وإن كان ذلك يؤدي في النهاية إلى اتساع أزمة المديونية العامة، وجعل الموازنة العامة لأميركا في مأزق، ويتكرر كل عام، مؤديا إلى عمليات إغلاق جزئي للمنشآت الحكومية.
جدير بالذكر أن باول قال إن الإغلاق الحكومي الأخير نتج عنه غياب البيانات الخاصة بالتضخم وسوق العمل، مما جعلهم لأول مرة يتخذون قرار الفائدة في ظل غياب هذه البيانات المهمة.
وإن كان ترامب يستهدف بخفض سعر الفائدة المستثمرين الأميركان، فإنه كذلك يسعى لأن يكون السوق الأميركي يمتلك إحدى الأدوات المهمة لجذب الاستثمارات الأجنبية، وهو انخفاض تكلفة التمويل، مما يؤدي إلى مزيد من الإنتاج، وتوفير فرص العمل المستدامة والمستقرة.
السلطة والثروة هدفان لا يمكن إغفالهما في واقع القوى الكبرى، وبلا شك أن ثمة حالة من الضعف تنتاب الاقتصاد الأميركي، لصالح الدول الصاعدة، على رأسها الصين المنافس الأقوى على ريادة العالم اقتصاديًا.
وفي محاولة لاستدراك مكانة أميركا، التي تربعت على رأس النظام الدولي منفردة على مدار ما يزيد على 3 عقود، يحاول ترامب أن يواجه التغيير المحتمل بأن يجعل أميركا باقية في مكانتها، من خلال إعادة قوتها الاقتصادية بجانب قوتها العسكرية والسياسية على الصعيد العالمي.
وليس بمستبعد أن يسعى ترامب، وهو في الأصل رجل أعمال، إلى أن يحافظ على مصالح النخبة الرأسمالية، والتي قدمت الكثير لمجيئه للسلطة، ولا أحب لرجال الأعمال من أن يحصلوا على تمويل رخيص.
وعلينا أن نعي أن صندوق النقد الدولي -في أحد تقاريره عقب أزمة كورونا- حذر من عدة عوائق أمام النمو الاقتصادي العالمي، من بينها صراع تخفيض سعر الفائدة بغية جذب الاستثمارات الأجنبية.
ولا يخفى على أحد -من خلال تحليل خطاب ترامب المتكرر- أنه يسعى لأن تحتفظ أميركا بكل من السلطة والثروة.
استمرار السياسة النقدية في تخفيض سعر الفائدة سيكون بلا شك له فوائد عدة على الاقتصاد الأميركي، إذا ما تم استخدام التمويل المتاح بشكل جيد، بحيث يتم توجيه التمويل للاستثمارات الإنتاجية والخدمية، وبخاصة التي تعتبر بديلًا لما يتم استيراده من الخارج.
وإذا تم ذلك فسوف يقوي موقف ترامب، وبخاصة في ظل تبنيه سياسة رفع الرسوم الجمركية ، حيث ستتمتع المنتجات التي يتم إنتاجها داخليًا بنوع من الحماية، وتوفير ميزة سعرية أفضل من المنتجات المستوردة.
ومن شأن هذا -في الأجلين المتوسط والطويل- أن يؤدي إلى تخفيض معدلات التضخم، وإتاحة المزيد من فرص العمل. ولكن هذا السيناريو يتوقف على إمكانية تطوير الجهاز الإنتاجي في أميركا، وقابليته للمرونة اللازمة لذلك.
أما السيناريو السيئ فهو أن يتم استخدام القروض في الاستهلاك، والحصول على المزيد من السلع الترفيهية، أو خروج ما تم الحصول عليه من أموال في مضاربات بأسواق المال المحلية أو في دول أخرى، أو في مجال المضاربات بشكل عام.
يأتي قرار الفدرالي الأميركي هذه المرة بتخفيض سعر الفائدة، وسط أجواء مضطربة على الصعيد العالمي، وثمة حالة من عدم اليقين فيما يتعلق بالاتفاقيات التجارية لترامب مع عدة دول، وبخاصة إمكانية إنهاء الصراع الاقتصادي مع الصين.
وتشهد العلاقات الأميركية الصينية حالة من الشد والجذب، ويتم الحديث عن الوصول إلى هدنة أو اتفاق مبدئي، ثم تصعيد من جانب ترامب بمزيد من الرسوم الجمركية ومنع تصدير سلع تكنولوجية للصين، لترد الأخيرة بمنع تصدير المعادن النادرة ، وفرض قيود على استيراد السلع الزراعية الأميركية، وهلم جرا.
وبالتحليل التقليدي لخفض سعر الفائدة في أميركا أن يتم تحويل وجهة المضاربين والمستثمرين من التعامل بالسندات الأميركية، أو إيداع الأموال بالبنوك، إلى أسواق المال، أو المضاربة على النفط والذهب، والعملات المشفرة. ولكن هذه المرة وجدنا أن أسعار النفط شبه مستقرة، وأسعار الذهب تراجعت، وكذلك العملات المشفرة، ولم يتحسن سوى أداء أسواق المال العالمية.
ويرجع ذلك لحالة عدم اليقين التي ارتفعت معدلاتها، فيما يخص أداء الاقتصاد العالمي. فحالة عدم الاستقرار هي المهيمنة الآن على متخذ القرار بشأن الاقتصاد العالمي، سواء بالنسبة للدول أو الصناديق السيادية أو الشركات الكبرى.
وإذا ما استمرت السياسة النقدية الأميركية في تبني تخفيض سعر الفائدة، ليعود ما بين صفر و0.25%، فسيكون نتيجة ذلك انخفاض تكلفة الديون بالسوق العالمية، في الوقت الذي يعاني فيه العالم من أزمة مديونية، على صعيد الدول النامية والمتقدمة على السواء.
وهو الأمر الذي يحتاج المزيد من الضوابط لأسواق الدين، وبخاصة في حالة الدول التي تفتقد إلى الرقابة والمحاسبة.
ومن المرجح أن يؤدي انخفاض تكلفة التمويل في أميركا -نحو معدلات ما بين صفر و0.25%- إلى تكرار أزمة الأسواق المالية في الدول الصاعدة، كما حدث عقب الأزمة المالية العالمية عام 2008، إذ تبنى الرئيس باراك أوباما سياسة التيسير النقدي، والتي أتاحت المزيد من الأموال للمقترضين، ودفعهم هذا إلى مغادرة السوق الأميركية، والتوجه لأسواق المال بالدول النامية، سعيا وراء معدل ربح يصل إلى 15% سنويًا.
وفي العادة -مع تراجع الفائدة الأميركية- يقترض المستثمرون من البنوك الأميركية بفائدة منخفضة، ويستثمرونها بأوراق دين في الدول النامية بفائدة أعلى بنفس الآجال أو آجال متقاربة، وبذلك يجنون أرباحا تتمثل في فرق الفائدة.
غير أن بعض الدول الصاعدة تنبهت لهذا السلوك، ومارست ما يعرف بـ"تعقيم الأسواق" من خلال فرض ضرائب عالية على الأموال "الساخنة" التي تهرب في الأجل القصير من الأسواق بعد جني الأرباح.
لا يزال العالم يتحسب اقتصاديًا لما تتخذه واشنطن من قرارات تعنى بالجوانب المالية والنقدية، ولكن علينا أن نعي أن ثمة قوة أخرى تنافس أميركا بشكل كبير، وهي الصين. وقد برز ذلك في غير موضوع، والتي كان آخرها قيام بكين بتصنيع الألماس والذهب، وهو ما أثر بشكل كبير على أسواق هاتين السلعتين. بل يمكن القول إن هذا التوجه قد يهدد عرض الماس والذهب في السوق الدولية، ويقوي من مكانة الصين عالميًا على الصعيد الاقتصادي.
وفي جعبة الصين في مجال التكنولوجيا ما سيمكنها من منافسة أميركا بشكل كبير خلال المرحلة المقبلة، سواء على صعيد السلع أو السلاح أو الدواء أو الطاقة النظيفة، وهي السلع الإستراتيجية التي ستحكم مسارات العالم اقتصاديًا الفترة القادمة.
المصدر:
الجزيرة