الرباط– في قلب معادلة جيوسياسية شديدة الحساسية، يجد المغرب نفسه أمام اختبار دقيق يفرض عليه إدارة توازن إستراتيجي بين قوتين عالميتين تتنازعان النفوذ الاقتصادي والتكنولوجي، الولايات المتحدة الأميركية وجمهورية الصين الشعبية.
موقعه الجغرافي بين أوروبا وأفريقيا والمحيط الأطلسي لا يمنحه فقط قيمة جغرافية، بل يضعه أيضا في مرمى التنافس المتصاعد بين قطبين يسعيان كل منهما لمد نفوذه في القارة السمراء.
ويعيش المغرب على إيقاع تصاعد التنافس الاقتصادي بين واشنطن وبكين، وهو تصاعد اكتسب زخما متجددا مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وفرضه المزيد من الرسوم الجمركية ضمن ما يُعرف بسياسة "التحرر الاقتصادي الأميركي".
وتبرز الأرقام الرسمية مدى تشابك المصالح التجارية المغربية مع كلتا القوتين: فقد بلغت المبادلات التجارية بين المغرب والولايات المتحدة أكثر من 72 مليار درهم (7.2 مليارات دولار) في عام 2024، وفق تقرير صادر عن المندوب التجاري الأميركي.
أما الاستثمارات الأجنبية المباشرة في المملكة خلال العام نفسه، فقد وصلت إلى 16.4 مليار درهم (1.6 مليار دولار)، جاءت الولايات المتحدة فيها في المرتبة الثانية بعد أوروبا، متقدمة على الصين، بحسب تقرير الاستثمار العالمي لعام 2025.
وفي المقابل، يشير تقرير الجمعية الأفريقية للتعاون الصيني للتنمية إلى أن المبادلات التجارية بين الرباط وبكين بلغت 90 مليار درهم (9 مليارات دولار) عام 2024، كما بيّن تقرير صادر عن مركز التمويل الأخضر والتنمية في الصين أن استثمارات بكين في أفريقيا وصلت إلى 48 مليار دولار عام 2023، مع حضور قوي في المغرب وكينيا ونيجيريا.
الأكثر لفتا، أن نسبة استثمارات الصين في المغرب سجلت في عام 2024 قفزة هائلة بلغت 724%، مما يعكس اهتماما صينيا متزايدا بتعزيز العلاقة مع الرباط.
تُجمع القراءة الإستراتيجية على أن الرباط لا تنظر إلى الولايات المتحدة والصين بمنظار الاصطفاف، بل من زاوية براغماتية تحكمها مصالح وطنية ومقاربات تنموية. ويرى الخبير الإستراتيجي هشام معتضد أن الصين تسعى لتعزيز نفوذها من خلال مشروع " الحزام والطريق "، الذي يعتبر المغرب فيه منصة لوجيستية وتجارية متقدمة، بينما تعتمد واشنطن على أدوات أكثر حذرا كالدبلوماسية الاقتصادية، ودعم ريادة الأعمال، وتمويل برامج تنموية محلية.
ويضيف معتضد، في تصريح للجزيرة نت، أن السباق بين القوتين في أفريقيا يعيد رسم خريطة التوازنات الدولية، إذ تنظر الولايات المتحدة إلى المغرب كحليف إستراتيجي وركيزة استقرار إقليمي، لارتباطه بالفضاء الأطلسي والمتوسطي، فيما تراهن الصين على استثمارات طويلة الأجل لترسيخ حضورها.
في المقابل، يؤكد المحلل السياسي خالد شيات أن التوازن المغربي يجب أن يُقرأ خارج مفاهيم الحرب الباردة واصطفافها القطبي، قائلا: "تشابك المصالح الاقتصادية والمالية بين القوى الكبرى يتجاوز الخطابات الإستراتيجية، فحتى الدول التي قد تبدو مناصرة لأحد الطرفين، كأوروبا أو أميركا اللاتينية أو دول البريكس، تربطها مصالح متداخلة مع الجانبين".
ويختم شيات بالقول إن المغرب ليس مطالبا بإظهار ولاء مطلق لأي طرف، بل بإدارة ذكية ومتزنة لعلاقاته، تحفظ استقلال قراره وتعظم مكاسبه التنموية.
واعتمادا على دبلوماسيته الهادئة، يواصل المغرب نسج شبكة شراكات متعددة مع قوى كبرى وصاعدة على حد سواء. ويقول أستاذ العلاقات الدولية والقانون الدولي، جمال آيت لعضام، إن المملكة تنظر بعين براغماتية إلى علاقاتها مع واشنطن وبكين، معتبرة الأولى شريكا تقليديا في مجالات الأمن والدفاع والتكنولوجيا، والثانية شريكا اقتصاديا واعدا في مجالات البنية التحتية والصناعة والطاقات المتجددة.
ويشير آيت لعضام إلى أن المغرب يسعى لتكريس استقلال قراره السياسي عبر توسيع شراكاته مع قوى مثل الهند وروسيا وتركيا، وتعزيز حضوره في المنظمات الدولية، إلى جانب إطلاق مبادرات أفريقية مرجعية، كخط أنابيب الغاز مع نيجيريا، ومشروع الميناء الأطلسي.
من جهته، يوضح المحلل الاقتصادي أمين سامي أن المغرب يجيد التفاعل مع رأس المال الأميركي القصير والمتوسط الأجل -خصوصا في قطاع التكنولوجيا والخدمات- بالتوازي مع استيعاب الاستثمارات الصينية ذات الطابع طويل الأمد، كما في مشروع "طنجة-تيك" الصناعي.
ويضيف أن الرباط تدرك الطابع الجيوسياسي لمبادرة الحزام والطريق، وبالتالي تتعامل مع الصين بحذر لتفادي التبعية، بينما توظف موقعها الجغرافي والأمني في علاقاتها مع واشنطن لانتزاع امتيازات اقتصادية واضحة، مثل التمويلات التفضيلية والاعتراف بدورها اللوجيستي.
وفي سياق التنافس على النفوذ البحري وسلاسل الإمداد، وقّع المغرب والولايات المتحدة في 17 يونيو/حزيران 2025 اتفاقا جديدا ضمن مبادرة أمن الحاويات لتعزيز أمن الشحن البحري وفقا لمصالح الجمارك الأميركية. في الوقت ذاته، أشادت الصين، خلال منتدى التعاون الصيني-العربي، بقدرات ميناء طنجة المتوسط على دعم التدفقات التجارية الصينية نحو أوروبا.
هذا الميناء -الذي تحوّل إلى عقدة لوجيستية عالمية- سجل في 2024 تداولا قياسيا بلغ 10.24 ملايين حاوية نمطية، بزيادة 18.8% عن 2023، بحسب تقارير رسمية. ويرى أمين سامي أن هذه الإنجازات ليست وليدة الصدفة، بل تعكس تدابير إستراتيجية تبناها المغرب، من بينها تحسين مناخ الأعمال، وتبسيط الإجراءات الجمركية، والترويج للعلامة الترابية "صُنع في المغرب"، وإطلاق ميثاق استثمار جديد.
من جهته، يعتبر معتضد أن الرهان المغربي لا يقتصر على التجارة واللوجيستيات، بل يشمل أيضا الطاقة النظيفة كرافعة مستقبلية، مما يمنح المملكة أوراق تفاوض جديدة مع شركاء دوليين ملتزمين بالمعايير البيئية.
وضمن رؤيته المستقبلية، يسعى المغرب إلى تعزيز سيادته الرقمية والتكنولوجية كجزء من إستراتيجيته في تحقيق التوازن مع القوى الكبرى. فقد شدد وزير الصناعة المغربي على ضرورة بناء قطاع تكنولوجي وطني مستقل يضمن أمن البيانات ويحمي الخصوصية.
ويرى خالد شيات أن هذا المسار محفوف بتحديات معقدة، أهمها كلفة الاستقلال الرقمي، وممانعة القوى الكبرى لتوسع تقني مستقل للدول الصاعدة. وأضاف أن المغرب لا يزال في بداية طريق البحث العلمي وتطوير مؤسسات التكوين، وسط تحديات هجرة العقول التي تهدد استدامة الكفاءات.
لكن آيت لعضام يشير إلى أن المغرب يعمل على تنويع مزودي التكنولوجيا لتفادي التبعية الرقمية، وأطلق إستراتيجية وطنية للتحول الرقمي تشمل توطين مراكز البيانات، وحماية المعطيات الشخصية، وتأمين المعلومات الحكومية. كما تسعى المملكة لإنشاء مدارس ومعاهد متخصصة في الذكاء الاصطناعي، والبيانات الضخمة، والأمن السيبراني، بالتوازي مع دعم الشركات الناشئة وشراكات تعليمية دولية.
وفي زمن يتسم بتقلب التحالفات وتصاعد الاستقطاب الجيوسياسي، يمارس المغرب ما يشبه "الرقص على حبل مشدود"، مستندا إلى براغماتية دبلوماسية وقدرة على تنويع الشراكات دون الانزلاق إلى فلك أي قوة.
وبينما تسعى الصين وأميركا إلى بسط نفوذهما عبر الاستثمارات واللوجيستيات والتكنولوجيا، يبقى التحدي المغربي الأكبر هو الحفاظ على استقلال القرار ومرونة الحركة، في عالم لا يعترف إلا بالمصالح.