القاهرة – تجدد الجدل في ملف الأوقاف المصرية، بعدما أعلنت الحكومة عزمها على حصر أصول الهيئة، تمهيدًا لطرحها أمام القطاع الخاص، وهي الخطوة التي أثارت تحفظات واسعة لدى خبراء الاقتصاد ورجال القانون وبعض أعضاء البرلمان.
أزمة الأوقاف ليست وليدة اللحظة، بل تعود إلى عقود ماضية، إذ أقر وزير الأوقاف الأسبق، الشيخ محمد متولي الشعراوي، بوجود فساد داخل هيئة الأوقاف في منتصف السبعينيات، خلال استجواب برلماني شهير، واليوم، يتجدد الجدل بعدما أعلن رئيس الوزراء مصطفى مدبولي تكليف مستشاره للشؤون الدينية أسامة الأزهري بإجراء حصر شامل لأصول الهيئة، وحصر الفرص الاستثمارية لطرح هذه الأصول أمام القطاع الخاص، أو إعادة توظيفها لدعم خزينة الدولة.
تتضارب الأرقام بشكل واسع عن قيمة ما تديره هيئة الأوقاف، ويرجع متابعون تضارب الأرقام إلى تباين في التقييم، في ظل ارتفاع معدلات التضخم وتراجع قيمة الجنيه أمام الدولار خلال السنوات القليلة الفائتة بنسب كبيرة.
وتتطلع هيئة الأوقاف للاستثمار في مجالات مثل التشييد والبناء، الإنتاج الحيواني والداجني، التعبئة والتغليف، التعدين، الخدمات المالية والتأمين، الزراعة، الصناعات المختلفة (بلاستيكية، وخشبية، ودوائية، وغذائية)، والفنادق، والكهرباء والطاقة المتجددة، والمطاعم، والمنتجعات والقرى السياحية، والنقل واللوجستيات، بحسب الهيئة العامة للاستثمار والمناطق الحرة.
وأعلنت الهيئة عن استعدادها لتوفير 31 قطعة أرض في 11 محافظة للشراكة مع القطاع الخاص في مشروعات اقتصادية.
ويُسمح للهيئة بتوكيل أشخاص اعتبارية عامة أو خاصة أو غيرها في تحصيل إيراداتها مقابل عمولة،
ورغم وعود سابقة بعمليات حصر شاملة، فقد كشف الرئيس الأسبق للهيئة، صلاح جنيدي، عن أن مشروع الحصر الذي بدأه لم يكتمل بسبب إحالته إلى التقاعد، ما يشير إلى غياب منظومة توثيق مؤسسية مستدامة.
يقول الخبير الاقتصادي أحمد خزيم، إن تفاوت التقديرات الرسمية وغير الرسمية بشأن ثروة الأوقاف يعكس غيابًا واضحًا للشفافية، إذ تذكر الوزارة تريليون جنيه، في حين تتحدث مصادر أخرى عن 3 تريليونات.
ويوضح خزيم في تعليق للجزيرة نت، أن الهيئة تملك نحو نصف مليون فدان من الأراضي، لكن الوزارة تعترف فقط بامتلاك 420 ألف فدان، ما يعني ضياع أو استيلاء على 80 ألف فدان على الأقل، كما تملك الهيئة 120 ألف وحدة سكنية، تتركز معظمها في القاهرة والمحافظات، إلى جانب ممتلكات في الخارج في دول مثل السعودية وتركيا واليونان.
ويحذر خزيم من أن طرح هذه الأصول من دون إطار قانوني واضح قد يفتح الباب لفساد مالي وتجاوزات قانونية، مضيفًا: "الحكومة لا تملك حق التصرف في هذه الأموال، بل تقتصر مهمتها على إدارتها طبقًا لشروط الواقفين".
ودعا إلى إنشاء صندوق وقفي مستقل يخضع لرقابة البرلمان، ويُدار بمعايير مالية وإدارية دقيقة، بدلًا من الاعتماد على رجال الدين الذين لا يمتلكون، بحسب رأيه، الكفاءة اللازمة لإدارة محفظة تقدر بتريليونات الجنيهات.
من جانبه، أيّد أستاذ الاقتصاد السياسي، عبد النبي عبد المطلب، فكرة تطوير إدارة الأوقاف وتنميتها، لكنه حذر من أن ذلك قد يتحول إلى غطاء لخصخصة الأوقاف أو بيعها لتعويض عجز الدولة في الإيرادات.
واقترح في تعليق للجزيرة نت، تطبيق ما يُعرف بـ"نظام التبديل" الذي يسمح ببيع أصل وقفي منخفض القيمة وشراء آخر بشرط الحفاظ على وجه الإنفاق المحدد من قبل الواقف.
وحذر عبد المطلب من أن بيع أو تأجير الأصول مباشرة، قد يشكل خرقًا لقانون الوقف، ويعرّض الدولة لدعاوى قضائية من الورثة أو من لهم حقوق قانونية أو شرعية فيها، كما أبدى تخوفه من تحويل الأوقاف إلى أصول نقدية بدلاً من أعيان ثابتة، ما يعرّضها لمخاطر التآكل بفعل التضخم أو تقلبات السوق.
جاءت تحذيرات أخرى من عضو الجمعية التأسيسية لدستور 2012، المستشار محمد ناجي دربالة الذي حذر من أن خطة الدولة لتعديل قانون المالك والمستأجر قد تكون مرتبطة بمخطط تفريغ وسط القاهرة من سكانه، وتحويلها إلى واجهة سياحية، خصوصًا أن العديد من العقارات هناك خاضعة للأوقاف أو لنظام الإيجارات القديمة.
وأشار دربالة إلى أن هيئة الأوقاف بدأت فعلا في استبدال أصولها في وسط القاهرة بأصول في العاصمة الإدارية الجديدة، معتبرًا في حديثه للجزيرة نت، أن هذا "الاستبدال" قد يكون مجرد غطاء لنزع العقارات من مواقعها التاريخية.
وتساءل عن نوايا الدولة في استثمار أصول الوقف في البورصة، على غرار تجربة أموال التأمينات الاجتماعية التي تكبدت خسائر فادحة من دون محاسبة، وفق تعبيره.
بدورها أعربت عضو مجلس النواب عن الحزب الديمقراطي الاجتماعي، سناء السعيد، عن دهشتها من أن ملفًا بهذا الحجم لم يُناقش داخل البرلمان، مؤكدة أن "القرار تم اتخاذه أحاديا دون حوار مجتمعي أو نقاش نيابي".
وشددت على أن الأوقاف مال خاص لا يجوز التصرف فيه دون الرجوع إلى شروط الواقفين.
وأشارت السعيد إلى وجود ما يزيد عن 40 ألف مخالفة متعلقة بأملاك الوقف، مطالبة في حديث للجزيرة نت بإعادة حصرها واسترداد المغتصب منها قبل التفكير في إشراك القطاع الخاص.
واقترحت النائبة إنشاء صناديق وقفية تديرها كفاءات اقتصادية متخصصة لضمان الاستخدام الأمثل لعوائد الأوقاف، مع الحفاظ على المقاصد الشرعية للواقف، وربط العوائد بمشروعات تنموية تخدم المجتمع في التعليم والصحة ومكافحة الفقر.
وأكد مساعد وزير الخارجية الأسبق، السفير السابق محمد مرسي، أن "الأوقاف ملكية فردية لا حكومية"، مشيرًا إلى أن الواقفين أوقفوا ممتلكاتهم لأوجه البر، ولا يحق لأي حكومة تغيير هذه المقاصد.
وقال مرسي، إن الحصر قد يكون مفيدًا إذا أُنجز بهدف إصلاح الإدارة واسترداد التعديات، لكنه حذّر من أن أي خطوة نحو التأجير أو البيع يجب أن تكون مؤقتة وواضحة ومحددة بفترات لا تتجاوز 20 إلى 25 سنة، وبشروط صارمة تضمن استمرارية غرض الوقف.
وطالب السفير مرسي بأن يتولى إدارة هذه الثروة خبراء اقتصاديون متخصصون، بينما تظل الرئاسة الدينية رمزية أو إشرافية فقط.
وختم مرسي حديثه للجزيرة نت، محذرًا: "بيع ممتلكات الأوقاف خطر يفوق بيع ممتلكات الدولة نفسها. فهذه ليست ملكًا عامًا، بل تبرعات خاصة حُبست لأعمال الخير، ولا يجوز التفريط فيها تحت أي ظرف سياسي أو اقتصادي".
قال وكيل وزارة الأوقاف الأسبق، الشيخ سلامة عبد القوي، إن الشريعة الإسلامية تنظر إلى الوقف باعتباره عملًا جليلًا لا يجوز التعدي عليه، وتمنح شروط الواقف مكانة توازي النصوص الشرعية نفسها.
وأوضح عبد القوي في حديثه للجزيرة نت، أن قاعدة "شرط الواقف كنص الشارع" تعني أن أي شرط يضعه المتبرع في وقفه –سواء أكان شرطًا لتزويج اليتيمات أو دعم طلاب العلم أو الحج أو غيره– يجب احترامه والتقيد به، مشددًا على أن التصرف في أموال الأوقاف بما يخالف هذه الشروط يُعد خيانة دينية وشرعية صريحة.
وأضاف أن الشريعة تُحمّل الجهات المتولية مسؤولية الوقف –كوزارة الأوقاف أو الأزهر الشريف– واجب تنفيذ هذه الشروط دون تحريف أو تحايل، معتبرًا أن الوزير، أو من ينوبه، لا يُعد مالكًا للأوقاف بل ناظرًا عليها، ومهمته أقرب إلى مهمة "الخادم الإداري"، الذي لا يحق له البيع أو الاستبدال أو إعادة التخصيص إلا بشروط دقيقة، وبعد مراجعة مصالح الواقف والموقوف لهم.
وتابع عبد القوي: "الفكرة التي يروجها بعضهم أن الأوقاف غير محصورة أو مجهولة هي مغالطة. الأوقاف المصرية موثقة بحجج شرعية ومستندات رسمية منذ عقود طويلة، لكن هناك تغييب متعمد لتلك المعلومات عن الرأي العام بهدف التلاعب".
وشدد الشيخ سلامة عبد القوي على أن الأوقاف مسؤولية دينية ومجتمعية وأمانة ثقيلة، لا يجوز الاستهتار بها أو إدارتها وفقًا لمصالح سياسية أو اقتصادية آنية.
بدوره استدرك رئيس الوزراء مصطفى مدبولي على تصريحاته التي أثارت الجدل بالقول ـفي مؤتمر صحفي أعقب لقاءه وزير الأوقاف بأيام ـ إن الحكومة لن تبيع أصول هيئة الأوقاف، بل ستعمل على زيادة عوائدها من خلال شراكات إستراتيجية مع القطاع الخاص، مشيرا إلى أن الهدف هو تحقيق أقصى استفادة من هذه الأصول لدعم الاقتصاد والتنمية، مع الحفاظ على ملكية الدولة الكاملة لها.
وأضاف مدبولي، أن هذا جزء من خطة أوسع للاستفادة من أصول الدولة غير المستغلة، مؤكداً أن كل الإجراءات تتم قانونيا وبشفافية، مع مراعاة البعد الاجتماعي والشرعي للأوقاف.