آخر الأخبار

سيرة أخرى لابن البيطار بين ضياع الأندلس وسقوط الخلافة

شارك

لم يكن ابن البيطار مجرد عشاب يعلم أسرار النبات الغذائية والدوائية، بل كان طبيبا وصيدليا وعالم نبات فريدا، مثله في ذلك مثل ابن سينا وابن النفيس وابن الرند وغيرهم من علماء المسلمين الموسوعيين الذين جابوا الأرض من شرقها إلى غربها، وكانوا أطباء وصيادلة وفلاسفة وعلماء لغة وفقه.

ترك لنا ضياء الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد الأندلسي المالقي، الشهير بابن البيطار، كتابه الشهير "الجامع لمفردات الأدوية والأغذية" في 4 أجزاء، تتعدى عدد صفحاته الألف صفحة. يعد هذا الكتاب من أنفس الكتب العربية وأشهرها، ذكر فيه أسماء الأدوية والأغذية من نبات وحيوان وجماد، حسب ترتيب حروفها الهجائية، وهو موسوعة في الصيدلة، وكذلك كتابه "المغني في الأدوية المفردة"، وهو مرجع هام في علم الأدوية، ومعجم للأدوية المفردة مرتب حسب أعضاء الجسم، يتضمن وصفا للأدوية المفردة وفوائدها وطرق استخدامها، مع التركيز على الأدوية التي لا يستغني عنها الأطباء وطلاب الطب. يعد الكتابان معا المرجع الأول في علوم النبات والأدوية للنهضة الأوروبية، وقد ترجما إلى معظم لغات العالم، ولا يزال يعتد بهما كمرجع أساسي في علوم الطب والصيدلة.

عاش ابن البيطار في زمن القلاقل والاحتراب الطائفي في الأندلس، فتركها مختارا ليذهب إلى الشرق طلبا للمزيد من العلوم التي نذر لها حياته، ولكن لم يكن حال بلاد الأندلس بأفضل من حال بلاد الشرق، الذي كانت تتناوشه أطماع الصليبيين والتتار، وكانت دولة تتساقط هي الأخرى تحت هجمات الأعداء.

وفي سرد غاية في الدقة لتفاصيل حياته ومشاعره الإنسانية، استطاعت المؤلفة سيمون لافلوريل أن تنسج لنا سيناريو حي لحياة هذا العالم الكبير، من وقائع ومذكرات وأحداث سجلها ابن البيطار في كتبه، واستطاعت أن تصور لنا أحزانه وأشواقه لوطنه، وسرده لمنجزاته العلمية من خلال رسائل طويلة اختص بها حصيفة، وكأنه يبحث عن وطن بديل، وعن عائلة ينتسب إليها. ولعل هذا هو السبب، وذلك الحنين، اللذان زادا ارتباطه بـ "حصيفة" الدمشقية، ناسخة أوراقه، التي عبرت بصدق عن مدى الحرية والتعليم اللذين نالتهما المرأة في الحضارة الإسلامية، إذ كانت حصيفة الناسخة التي يقصدها الكتاب والرحالة لنسخ أوراقهم وخطاباتهم ورسائلهم العلمية.

مصدر الصورة كتاب "الجامع لمفردات الأدوية والأغذية" وصف فيه ابن البيطار أكثر من 1400 عقار نباتي وحيواني ومعدني، منها 300 عقار من صنعه (الجزيرة)

رسائل وذكريات الألم

من خلال تلك الرسائل، يقدم لنا ابن البيطار (1197-1248م) (593هـ) صورة إنسانية متكاملة الجوانب، من ذكريات طفولته وشبابه في الأندلس التي تركها بمحض إرادته وهو في الـ20 من عمره، متجها إلى الشرق للدراسة والاستكشاف، يتخللها عرض مختصر لما أسهم به هو وغيره من العلماء العرب في مختلف مجالات المعرفة، خاصة التي تتعلق بطب الأعشاب، كل ذلك ممتزجا بأحداث وصراعات عايشها ابن البيطار خلال فترة حياته حتى وفاته في دمشق .

إعلان

يرحل ابن البيطار مع الحجاج إلى الشرق، ولم يكن الحج مقصده الأساسي، بل كان البحث والعلم والاستقصاء هو غايته التي جاء من أجلها إلى الشرق. ويذهب إلى دمشق للتزود بالعلم، وفي دمشق يتعرف إلى بطلة هذه الرواية "حصيفة"، التي سترتبط حياة ابن البيطار بها وبوالدها العالم الكفيف. فهي تساعده في إنجاز أعماله، وتقوم بنسخ رسائله، وهي امرأة متزوجة ولها ولد. ورغم أن ابن البيطار غادر دمشق إلى القاهرة لاستكمال ما جاء من أجله لاستكشاف النباتات اللازمة للتداوي، فإنه بقي متعلقا بحصيفة وعائلتها، بل كان متيما بها، ويظهر ذلك في كل رسائله التي يخص فيها حصيفة ببعض الكلمات الخاصة التي لا يخفى سرها عن قارئ الرسائل.

ورواية "رسائل ابن البيطار- العشاب الأندلسي"، الصادرة حديثا عن المركز القومي للترجمة، ترجمة عادل مهنى، تتتبع تلك الرسائل التي كتبها ابن البيطار للسيدة حصيفة، التي نسخت أطروحته الشهيرة "الجامع لمفردات الأدوية والأغذية"، التي وصف فيها أكثر من 1400 عقار نباتي وحيواني ومعدني، منها 300 عقار من صنع ابن البيطار، مبينا الفوائد الطبية لكل واحد منها، التي كتبها وهو مقيم في مصر ، وقسمها 4 أقسام.

ومن خلال هذه الرسائل، نجد أنفسنا أمام شاهد حقيقي على أحداث واقعية، وواقع سياسي مزر؛ فقد كان ابن البيطار شديد القرب من متخذي القرار في عصره، وكان أحد أطباء سلطان مصر وسوريا الصالح أيوب. وفي رسائله يبدو شديد الانتقاد لهؤلاء الأمراء المسلمين الذين يتقاتلون فيما بينهم، بل تحالف بعضهم مع أعداء الإسلام، رغم أنهم من سلالة العظيم صلاح الدين الأيوبي ، وكانت النتيجة تفكك الخلافة الإسلامية وانهيارها.

ولم يكن ابن البيطار رحيما في رسائله بالفرنجة الذين أتوا من الغرب ليفرضوا سيطرتهم على الشرق تحت ستار الحملة الصليبية، ولا بهؤلاء التتار الذين أتوا من أقصى الشرق ليدمروا بلاد الشام ويحرقوا مكتباتها الغنية بمؤلفات العلماء العرب. ولم يخف انزعاجه من هؤلاء المماليك والخوارزميين الذين لا يعرفون سوى القتال، والمتعطشين دائما لسفك الدماء.

مصدر الصورة ابن البيطار قاده شغفه بالأعشاب ليجوب الشرق بلا أهل ولا صاحبة تؤنسه (مولدة بالذكاء الاصطناعي-الجزيرة)

العاشق الغريب

والمدهش أن ابن البيطار، وهو يصحبنا خلال رحلته للتعشيب، لا يحدثنا فقط عن مختلف النباتات التي قام باكتشافها، أو عن تحليله لآراء سابقيه من العلماء، بل يفاجئنا في سياق ذلك كله بشهادته على الواقع السياسي للبلاد التي زارها في الشرق. يرتحل في كل الأماكن، ويناقش كل الموضوعات، وهو بصدد الحديث عن مكان بعينه، مما يجعل القارئ يقظا وشغوفا بمواصلة قراءة رسائله بلا ملل.

قاده شغفه الشديد بالأعشاب ليجوب الشرق، وفي سبيل ذلك ركب الأخطار، وعاش غريبا بلا أهل ولا صاحبة تؤنس أيامه، وأوقف عمره كله على دراسة الأعشاب والأدوية المستخلصة منها. وفي كل رسالة، يقدم لنا جزءا من عمله واكتشافاته التي فصلها في أطروحته، يدفعه في كل ذلك حبه لناسخة رسائله، حصيفة الدمشقية، حيث كان مترددا في البداية في نقل أحاسيسه ومشاعره تجاهها؛ فهو أستاذها الذي تكن له كل احترام، لمنزلته كعالم متميز، وهي بالنسبة له من استقبلته في منزلها الكبير بدمشق، وساعدته كثيرا في نسخ أطروحته.

إعلان

يكتب لها في واحدة من رسائله:

أتمنى كثيرا أن أسترجع كل ما جعلني سعيدا، وكل ما كان يسعدك أنت كذلك، وعندما تقرئين دفاتري أريد أن تتخيلي أنك تشاركينني هذه اللحظات، وتجلب لك متعة لذيذة ونقية.

سيدتي، من القاهرة أكتب إليك تلك الأسطر، أعترف لك اليوم بأنني أعرف نفسي بالقرب منك، وقبل كل شيء، دون أي جهد في ذلك، وبكلامي أجد نفسي الآن في هذه الغرفة التي كان من عادتنا أن نعمل فيها معا.

حصيفة، لقد اضطررت هنا أن أقطع مسار حديثي عن الأسباب التي دفعتني إلى القيام بكتابة أطروحتي، أريد أن أقدم إليك جزءا من وجودي، سأحكي لك عن تلك السنوات الأولى التي -للأسف- لم نستطع أن نعيشها معا، طفولة الأندلس البعيدة عن مدينتك على الشاطئ الآخر من المتوسط الذي يوحدنا

ومن أجل هذه السيدة، رأى أن يشركها في أطروحته، وخلدها على سائر الزمان، في أطروحته الشهيرة "الجامع لمفردات الأدوية والأغذية"، التي تعد مصدرا أساسيا لكل طلاب العلم في الصيدلة والنبات والعلوم، ومن يقرأ الرسالة لا بد أن يرى أن حصيفة جزء منها، فهي التي نسختها، وحفظتها للإنسانية في الشرق والغرب.

ومن أجلها كتب ابن البيطار 40 رسالة، تحمل في ظاهرها كل ما يتعلق بحياته وعائلته وأساتذته من العلماء، وأصدقائه في الأندلس، وكذلك الأحداث التي وقعت في تلك الفترة التاريخية المهمة (في القرنين الـ12 والـ13 الميلاديين).

هذه الرسائل كتبها ابن البيطار في تغريبته الطويلة بالقاهرة، ولم تعلم بها حصيفة إلا بعد وصوله إلى دمشق، حيث قدم لها دفترا يحتوي على 40 رسالة، وطلب منها قراءتها فور الانتهاء من نسخ ومراجعة آخر الفقرات من كتابه الخالد "الجامع لمفردات الأدوية والأغذية".

مصدر الصورة ابن البيطار تعلم من جده الكثير فكان يصحبه في نزهات ليعلمه أسماء النباتات المختلفة ويقطفها له ليُعرّفه عليها بشكل عملي (مولدة بالذكاء الاصطناعي-الجزيرة)

بيت العلم الأندلسي

ولد ابن البيطار بمالقا في أواخر القرن السادس الهجري، في عائلة من الأطباء والأطباء البيطريين، وتتلمذ منذ صغره على أيدي علماء نبات معروفين في عصره. وترك ابن البيطار الأندلس حوالي عام (1220م-617هـ) دون أي أمل في العودة، ليستقر في الشرق لإتمام أطروحته. فقام في البداية بزيارة طويلة للمغرب، وبعد ذلك وصل إلى آسيا الصغرى، ربما بسبب جنوح سفينته. وفي كتاب "الرحلة"، يقول الرحالة الشهير ابن جبير إنه عاصر والد ابن البيطار، وكان عالما وطبيبا، ومن أشهر الأطباء البيطريين في عصره.

وفي رسالته إلى حصيفة، يقول: ولدت في قرية صغيرة على شاطئ البحر في (إقليم) من مالقا، كان ذلك عام 593هـ (الموافق 1197م). جئت من الأندلس، بلد طفولتي، منذ 30 عاما تقريبا، مثل الكثيرين، من أجل الدراسة وتغيير الأفق، وكذلك من أجل الذهاب إلى الحج. وأتطلع أن أعود إلى بلدي وإلى عائلتي يوما ما، ربما قريبا.

كان جدي يتحدث اليونانية واللاتينية بطلاقة، ويجيد لغات أخرى. في نزهته اليومية، علمني بصبر أسماء نباتات كثيرة، كان يقطفها ويعلمني كيف أتعرف عليها. وأذكر من علمائنا الزراعيين ابن العوام الأندلسي الشهير، الذي كان معاصرا لأبي وجدي. وتلاحظين في كتبي مقتطفات عن أساتذتنا الزراعيين الأكثر شهرة، أمثال ابن سينا والرازي وأبي حنيفة الدينوري، حيث وضعوا قانونا أو معاهدة للطب الخاص الذي تحتاجه الحيوانات المريضة.

ويحدثها عن ولعه الكبير بالخيول، ويقول: "عشت بجانب الحيوانات، خاصة البغال الأندلسية الجميلة والسمينة، المفعمة بالحيوية، رشيقة القوام. وكان أبي بيطريا لا يجد وقتا، لشدة عنايته بالخيول. ويذكر أسماء الشعراء الذين تغنوا بالخيول، وكانت بغالنا وخيولنا مشهورة بأنواعها الأصيلة، وأسعارها المرتفعة".

مصدر الصورة بعد فترة قصيرة من وصوله إلى القاهرة أصبح ابن البيطار كبير مسؤولي الأعشاب في المستشفيات (مولدة بالذكاء الاصطناعي-الجزيرة)

كبير الصيادلة

وما زال الطبيب الصيدلي الشاب ابن البيطار في طريق رحلته، حتى وصل إلى سوريا، وقضى بها فترة لم تكن بالقصيرة ولا بالطويلة، تقصى فيها كثيرا من النباتات، ثم سلك طريقه إلى القاهرة، وكانت تحت حكم الملك الكامل، أحد أحفاد صلاح الدين الأيوبي، وقد عرف الكامل باستنارته وثقافته واهتمامه بالعلماء وحمايته لهم.

إعلان

وبعد فترة قصيرة من وصوله إلى القاهرة، أصبح ابن البيطار كبير مسؤولي الأعشاب في المستشفيات، ومن مقر إقامته بالقاهرة استطاع أن يخالط مشاهير الأطباء والجراحين في ذلك الوقت، وعلى رأسهم ابن النفيس، طبيب التشريح. وقام ابن البيطار بوضع تقسيم دقيق للأدوية من ثلاثة مصادر: النباتي والحيواني والمعدني، كما قام بتسجيل أماكن الإنتاج أو الحصاد، وحدد أسماء المواد البسيطة حسب لغة كل بلد أقام فيه.

ومنذ أن وطئت قدما ابن البيطار مدينة القاهرة ، خطف انتباهه اختلافها عن غيرها من المدن التي مر بها، وفي أول رسالة له إلى حصيفة من القاهرة، حدثها عن وجبة الكشري، الأكلة الشعبية الأولى للفقراء في مصر، ويسرد لها حكايته وأولى خطواته مع التعشيب، وولعه بالنباتات الغريبة منها والفريدة، منذ أن كان مع جده في مالقا، مرتع الطفولة الأول ومعترك الألعاب التي لا تنسى، وكيف كانوا صغارا يتبارزون بسيوف من خشب قطعوها من غصون الأشجار. ويحدثها عن الحياة اليومية داخل البيوت الأندلسية، وكيف كانت أمه تنسق الورود في باحة البيت الأندلسي الكبير.

ولا يفوت ابن البيطار أن يكتب لحصيفة عن الاستخدام السليم للأطعمة الضرورية للحفاظ على الصحة الجيدة لها ولأسرتها، وينبهها إلى أهمية زراعة نبات الهندباء والزعتر، لما فيهما من خواص غذائية ودوائية واضحة.

وعن الهال والتوابل الأخرى، يسجل ابن البيطار في رسالته:

سيدتي، يجب أن أخبرك من جديد أنني ولدت بين هذه الروائح، كان مهدي لا يغادر المطبخ الذي تديره أمي. نشأت مع رائحة الكراوية والكمون الأسود والخردل والكزبرة واليانسون والمستكة والخولنجان والنعناع والشمر والكافور وكراوي الزعتر والفوذنج والمسك والسنبل الأسود والفلفل

وكتب ابن البيطار كتابه المهم "الجامع لمفردات الأدوية والأغذية"، وكذلك كتابه "المغني في الأدوية المفردة" في القاهرة، وأهداهما إلى الصالح أيوب ابن الملك الكامل وولي عهده (وهو سلطان مصر وسوريا).

وبعد عودته إلى دمشق، شرح أسباب دراسته في مقدمة مطولة من كتابه المهم، وبين الهدف الذي دفعه لكتابة أطروحاته، والطرق التي يسعى إلى تطبيقها في كتابة أعماله المختلفة.

مصدر الصورة ابن أبي أصيبعة، أحد أطباء العيون الماهرين، كان تلميذا لابن البيطار ورافقه في جميع رحلاته (مولدة بالذكاء الاصطناعي-الجزيرة)

الرحالة

يقول ابن البيطار في رسالة إلى حصيفة: أترك دمشق وبلدك سويا لألحق بأقاليم الشرق، بمفردي أو مع رفقائي من العلماء. تمتد هذه البلاد من الواحات العربية الساخنة إلى المناطق الأكثر برودة في جبال الأناضول العالية. كنت أتطلع إلى أن أجوبها متتبعا خطى أساتذتي. تعرفين أبا العباس، أفضل عالم نبات أندلسي، وهو أحد الرحالة الأذكياء الذين تتبعت خطاهم. كنت أغيب أياما طويلة، سواء عندما كنت مقيما في القاهرة، أو عندما كنت على شواطئ آسيا الصغرى في ديار بكر ، وقد اجتاحتنا عاصفة رهيبة في البداية، مما جعلنا نتأقلم هناك.

بعد ذلك بكثير، ذهبت قرب غزة أو الموصل أو أنطاكية. وفي هذه الأماكن، حيث كان يقيم سلطان مصر الملك الكامل وابنه السيد الصالح أيوب، كان يتعين علينا مرافقتهم، كما تفعل جيوشهم والمماليك الأوفياء.

ويضيف ابن البيطار في رسالته إلى ناسخة أوراقه حصيفة: أسهب لك في الحديث عن أوقات الحرب والدمار والحزن، وعن الخوف المستمر الذي مررنا به، وتتراكم سحب الخصومات الثقيلة التي لا قيمة لها بين الأمراء، والتي لا تبالي بالانشقاقات غير المسؤولة من سلاطينكم. ونحن أيضا عانينا منها في بلادنا لسنوات عديدة. نزاعهم الخطير يخدم شهوات هؤلاء الغرباء، حملة الصلبان، المتربصين لكم بالمرصاد على طول شواطئكم، حتى القدس ، قدسنا، وتتزايد أعدادهم يوما بعد يوم.

هؤلاء المسيحيون الذين أتوا من بلاد الغرب، يلعبون بمهارة بالنزاعات الداخلية، ويحيكون لكم المؤامرات داخل القصر، مع أن أمراءكم جميعا من سلالة هذا العظيم صلاح الدين، وكما تعرفين، فهم إخوة يبغض بعضهم بعضا.

وكان ابن أبي أصيبعة، أحد أطباء العيون الماهرين، تلميذا لابن البيطار، وكان من أوفى أصدقائه، ملتحقا معه للعمل في المستشفيات في دمشق والقاهرة، مرافقا له في كل من مصر وسوريا، وزميلا في العمل البحثي. وكتب ابن أبي أصيبعة عن صديقه ورفيقه ابن البيطار في أطروحته المشهورة "عيون الأنباء في طبقات الأطباء"، وهي مذكرات موجزة خاصة بالحياة اليومية والعملية لهذا العالم الأندلسي، الذي رافق ابن البيطار في جميع رحلاته.

إعلان

ويسجل ابن أبي أصيبعة طرق البحث التي اتبعها ابن البيطار: "أثناء تجوالنا، كان يذكر لي طوعا مقاطع من أطروحة العالم اليوناني ديسقوريدوس وجالينوس، وعندما كان يريد، في كل مرة، أن يصف لي الخصائص المميزة لدواء ما ودوره الخاص، كان يبدأ بما ذكره ديسقوريدوس، ويقارنه بما ذكره جالينوس، ثم أخيرا ملاحظات العلماء المعاصرين، موضحا النقاط التي يظهر فيها التناقض بينهم، وتلك التي تحتوي على أخطاء، وأخيرا تلك التي تحوم حولها الشكوك".

النهايات

وفي آخر رسائله يقول لحصيفة: "سأقوم بإغلاق تلك الدفاتر التي أرسلها لك، لقد حان الوقت أخيرا لكي أترك القاهرة، فهل سأندم على ذلك؟ لا أعلم، ولكني أعلم أنني في أول فرصة سوف ألحق بك. سأترك خلفي أصدقائي من العلماء الشغوفين المشهورين: ابن النفيس، وابن أبي أصيبعة، وابن عربي صديقي في المنفى. كم أحببت أن أكون معهم، مثلما تقاسمنا العمل معا، فهل سأشعر بالحزن والندم لمفارقتهم؟

سيدتي حصيفة، لقد كرست وقتك في نسخ وتصحيح "الجامع"، وأكدت لي أكثر من مرة أنك ستعرفين كيف تحمين هذه المخطوطة، ربما لأسباب لا أعلمها، وربما تجعلك غير قادرة على ذلك، أو شاءت الأقدار أن تبتعدي عنها.

الآن يجب أن أقنع نفسي بأن هذا السبب كاف تماما لكي أقرر الرحيل إليك، لكي أزيل شكوكي وأستسلم لك أخيرا.

توفي ابن البيطار في دمشق عام 1248م، بينما كان المصريون يستعدون، تحت حكم سلطان جديد، لمواجهة لويس التاسع في حملة صليبية مأساوية. وقعت مصر بعدها تحت حكم المماليك الذين كانوا عبيدا وأصبحوا محاربين يتصارعون على حكم بلد كبير، وأضحت مصر دولة ضعيفة مثل العراق ، وكانت تحتاج لسنوات حتى تتجهز لمواجهة التتار الذين كانوا يجتاحون الشرق بلا رحمة.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار