آخر الأخبار

الأكاديمي العراقي عبد الصاحب مهدي: ترجمة الشعر إبداع يهزم الآلة

شارك

تُعد الترجمة الأدبية، وخاصة ترجمة الشعر، أصعب أنواع الترجمة؛ فترجمة الشعر تتطلب من المترجم أن يدخل إلى مخيلة الشاعر الأصلي ليستقصي أفكاره ويدرك المعنى الدقيق للكلمات وظلالها، لأن الشاعر يختار الكلمات بعناية فائقة لتعبر عن دلالات معينة لا يمكن للذكاء الاصطناعي أن يدركها بسهولة. كما أن الشعر يتجاوز حدود الحَرفية وينطلق إلى آفاق واسعة من الخيال والصور والموسيقى. لذا، فإن الترجمة الشعرية ليست مجرد نقل كلمات، بل هي إعادة إبداع للنص الأصلي مع الحفاظ على روحه وتأثيره.

وفي هذا السياق أجرى موقع "الجزيرة نت" حوارا مع الدكتور عبد الصاحب مهدي علي، تناول فيه الدكتور عمله في ترجمة الشعر، مستعرضًا تجربته في ترجمة قصيدة "بقلبٍ سوف ننسى" للشاعرة الأميركية إميلي ديكنسون.

وأكد الدكتور علي أن اختياره لهذه القصيدة لم يكن اعتباطًا، وإنما لِما تحمله من استكشاف مؤثر للحزن والذاكرة والصراع للتغلب على الألم العاطفي. وأوضح أن القصيدة تمثل حوارًا داخليًا دراميًا بين العقل والقلب، وهو صراع يتعرض له كل البشر، مما يجعلها عميقة رغم قِصرها. وبيّن أن القصيدة تدور حول محاولة الشاعرة إقناع قلبها بنسيان رجل أحبته ومنحها الدفء والأمان، لكنه لم يبادلها الحب.

في حديثه عن أسلوب الترجمة، ركز الدكتور عبد الصاحب مهدي علي على أهمية المزج بين الشكل والمضمون في القصيدة المترجمة، وشرح كيف حاول في ترجمته لقصيدة إميلي ديكنسون أن ينقل النبرة الحوارية والتصميمية الأصلية، ويُظهر محورية النسيان في القصيدة.

كما ذكر أن هذا المنهج الذي يجمع بين الوزن والقافية في الترجمة، أثبت قدرته على إنتاج نصوص بديعة، بحيث يشعر المتلقي العربي أن القصيدة المترجمة هي قصيدة عربية أصيلة.

وأوضح الدكتور أن الترجمة الحرفية تقتل الشعر، وأن المترجم يجب أن يجد ترجمة موازية تعكس الأسلوب الأدبي للغة الهدف. وأكد على أهمية دراسة شخصية الشاعر وفلسفته قبل البدء في الترجمة، كما فعل في ترجمته لقصيدة كريستوفر مارلو "الراعي العاشق لحبيبته". وأشار إلى أن التقنية والذكاء الاصطناعي لا يزالان يواجهان صعوبة في ترجمة الشعر، بسبب الحاجة إلى إدراك المعاني العميقة والظلال اللغوية والخيال الذي يمتلكه المترجم البشري.

إعلان

الأستاذ الدكتور عبد الصاحب مهدي علي، هو أكاديمي وباحث متميز في مجالات اللغة والترجمة والأدب، ومتخصص في قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة الشارقة. له مؤلفات مهمة تُعنى بالترجمة الشعرية والنصوص الأدبية، مثل كتاب "ترجمة شعرية لأشهر القصائد الإنجليزية مع دراسة تحليلية للشعر وترجمته" الصادر عام 2013، والذي يتناول عملية ترجمة الشعر الإنجليزي الكلاسيكي إلى العربية، مع التركيز على خصائص اللغة الشعرية وأدواتها التعبيرية. ويؤمن الدكتور علي بأن ترجمة الشعر إلى شعر موزون ومقفى، رغم تحدياتها، تمثل تجربة مجزية للغاية تمنح المترجم شعوراً بالرضا الذاتي والإنجاز الإبداعي.

كما ألّف الدكتور "موسوعة مصطلحات الترجمة" عام 2007، وهو دليل شامل لمجالات الترجمة التحريرية والفورية والتخصصات ذات الصلة، مثل الترجمة الآلية والذكاء الاصطناعي.

ومن مؤلفاته أيضاً "الترجمة من العربية إلى الإنجليزية.. مبادئها ومناهجها" (2007)، و"تدريب المترجمين التحريريين ومترجمي المؤتمرات" (1990) الذي يعكس خبرته الطويلة في تدريس وممارسة الترجمة. بالإضافة إلى ذلك، ساهم بعدة مقالات بحثية في دوريات علمية مرموقة تتناول موضوعات مثل مفهوم الشعر ولغته، وترجمة الاستعارة، والتحولات النحوية في الترجمة، ودراسات مقارنة بين اللغتين العربية والإنجليزية. فإلى الحوار:


*

ترجمت لنا قصائد عديدة، من بينها قصيدة إميلي ديكنسون بعنوان "بقلب سوف ننسى". في الحقيقة، اختيارك لهذه القصيدة رغم صغر حجمها لم يكن اعتباطا وإنما لما تحمله من استكشاف مؤثر للحزن والذاكرة والصراع للتغلب على الألم العاطفي، فكيف ترجمت لنا هذه القصيدة ونقلت لنا معانيها العميقة المرتبطة بالصراع الداخلي للنسيان واستمرارية الذاكرة والألم الداخلي؟

نعم، هذه القصيدة لشاعرة أميركية رقيقة إميلي ديكنسون (1830 – 1886م)، وهي قصيدة قصيرة كما ذكرت ولكنها عميقة. اخترتها لأكثر من سبب: أولاً، لأنها تمثل حواراً داخلياً درامياً بين العقل والقلب، وهذه مسألة يتعرض لها كل بني البشر، فليس هناك من لا يشعر بصراع بين عقله وقلبه فيما يتعلق بالمشاعر وفي أشياء أخرى كثيرة، فهذه القصيدة -رغم صغرها- تعالج هذه النقطة معالجة كبيرة. واخترتها أيضاً لأن هذه الشاعرة الأميركية المشهورة كتبت أكثر من 1400 قصيدة، وتفيدنا قصيدتها فائدة كبيرة كما سأوضح من خلال ترجمتي لها.

القصيدة تدور حول امرأة -وهي الشاعرة ذاتها- تحاول أن تُقنع قلبها بنسيان الرجل الذي أحبته، لكن ذلك الرجل كان هو مَن منحها الدفء والأمان لأنها أحبته، وكانت تستمد هذه المشاعر من تلك العاطفة التي ربطتها به، لكنه لم يبادلها الحب. فلذلك، تُعد هذه القصيدة محاولة لتُقنع قلبها بأن ينسى ذلك الرجل.

الحوار الدائر بينها وبين قلبها وعقلها، كان لأن القلب هو موطن العاطفة والمشاعر، والعقل هو مركز التفكير عند الإنسان. فهذا الصراع يدور في داخلها وهي تحاول أن تجد حلاً لهذه المسألة. ولكن الملفت في هذه القصيدة القصيرة أنها تتكون من مقطعين: الأول تبدو فيه هذه المرأة قوية وذات إرادة وتريد أن تنسى، وهذا ما لا نراه في المقطع الثاني كما سأشرح. في المقطع الأول تقول:

Heart, we will forget him!

You and I, tonight!

You may forget the warmth he gave

I will forget the light

نلاحظ هنا أنها تخاطب القلب وكأنه إنسان وتخاطبه بنبرة الأمر، ثم تؤكد هذه النبرة في البيت الثاني. وفي المقطع الثاني تبدو أكثر ضعفاً أمام هذا الرجل:

When you have done, pray tell me

That I my thoughts may dim

Haste! lest while you’re lagging

I may remember him!

الآن العقل يقول للقلب: عندما تنتهي من مهمتك، المهمة هي أن ينسى، أن ينسى الدفء، فأخبرني بسرعة. لماذا؟ لأنه إذا تباطأ القلب في النسيان، فقد يكون أمام الشاعرة الوقت الكافي لأن تراجع موقفها، ربما تعود إلى حبه مرة ثانية. فنلاحظ في المقطع الأول كانت صاحبة إرادة وتريد أن تنسى، والآن هي تستعطف القلب "Pray tell me" يعني أتوسل إليك عندما تنتهي من مهمة النسيان أخبرني لكي أتمكن من النسيان.

إعلان

الآن نأتي على شرح القصيدة. ونعود إلى كلمة "light" في المقطع الأول تقول للقلب:

You may forget the warmth he gave

I will forget the light

كلمة "light" في اللغة الإنجليزية لها معنيان أساسيان في اللغة العربية: الضوء والنور. والمترجم في هذه الحالة عليه أن يصل إلى نتيجة تجعلهُ يختار إحدى هاتين الكلمتين بشكلٍ منطقي ليستعملها كمرادف للكلمة الإنجليزية "light". نحن نعلم أنّ النور يقترن بالبصيرة والمعرفة والتنوير، والضوء بالبصر، لذا كنا نقول: "نور الله عليك" أو "أستنير بآرائك". كما نجدُ في القرآن الكريم ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ ۗ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [سورة النور: آية 35] من هنا نفهم أنَّ الزيت يضيء، أما النور فهو يتعلق بالوجدان ويتعلق بالتفكير ويتعلق بالتنوير. لذا ينبغي أن نستخدم كلمة النور ولا نستخدم كلمة الضوء.

ولذلك عندما ترجمت هذه القصيدة، قلت طبعاً هي قصيدة حوارية، فعليّ أن أعطي نفس الصبغة إلى الترجمة، فقلت:

أجل يا قلب ننساه!

كلانا ــ هذه الليلة!

ستنسى دفأه أنت،

وأنسى نوره كله

كما نلاحظ في المقطع الأول جاءت كلمة "forget" ثلاث مرات، وهذا يدل على أن النسيان إحدى النقاط الأساسية في هذه القصيدة، فهو شيء محوري، ونسيان ماذا؟ نسيان ذلك الرجل. ولاحظ أيضاً لو تنظر إلى هذه القصيدة مكتوبةً، تجد أنها ذكرت الكلمة عدة مرات، وهذا يؤكد التشديد على رغبتها في نسيانه. وهنا علينا أن نعكس هذا في الترجمة، ولذلك في الترجمة أوليتُ أن أؤكد مسألة النسيان كما أرادت الشاعرة، وأؤكد على النبرة التصميمية التي استخدمتها هذه الشاعرة في القصيدة.

أنا أحسست أننا أمام مشهد درامي لفتاة تجلس وحدها في الليل، وتسائل نفسها حول مسألة نسيان هذا الرجل، وتحاول لكنها تعجز عن نسيانه، ولذلك نراها تستعجل القلب في أن ينسى كي تسهل المهمة على العقل في النسيان، وهذا دليل على أنها لا تريد أن تنسى في الواقع.

القصيدة جميلة من هذا المنطلق، وهي في نفس الوقت من القصائد التي كتبت بقافية فيها (xa xb) بمعنى أن السطر الثاني والرابع لهما نفس القافية، أما الأول والثالث فالقافية حرة. وأنا في ترجماتي كلها أحاول أن أستخدم نفس نمط القافية كما سنراها في القصائد القادمة، أي أنه لو كانت القافية (AABB) فأنا أستخدمها، وإذا كانت (ABBA) فأستخدم نفس القافية أيضاً إضافة إلى الوزن.

عند الترجمة، أولي اهتمامًا خاصًا بالوزن والقافية لإيماني بوجود علاقة عضوية بين الشكل والمضمون. هذه السمة جوهرية في الشعر بشكل عام، وتبرز في القصيدة الجيدة المؤثرة، حيث تُسهم في توليد قوة التأثير في نفس المتلقي، سواء أكان متحدثًا باللغة الأصلية أو اللغة المترجم إليها.

ولتحقيق هذا التأثير المماثل، أرى أن الترجمة الناجحة، كما يؤكد العديد من المنظرين، هي تلك التي تستطيع إحداث الأثر ذاته في نفس القارئ المترجم إليه، بما يعادل التأثير الذي تحدثه القصيدة الأصلية في قارئها. لذلك، أتبنى منهج ترجمة هذا النوع من القصائد وغيرها، بالوزن والقافية، وهي إحدى الطرق المتبعة في الترجمة، رغم وجود طرائق أخرى مختلفة.


*

في الحقيقة، أثبت هذا المنهج قدرته على إنتاج نصوص بديعة، ومنها قصيدة شكسبير "السوناتة الستين" التي اخترتها، ولم يكن اختيارك لها عبثا بالتأكيد، فموضوع هذه القصيدة أظهر عبقرية شكسبير ورشاقته في اختيار الكلمات للدلالة على مرور الوقت المدمر وخلود الشعر في آن واحد. ففي القصيدة نجد الزمن قوة مدمرة لا ترحم، يظهر ذلك من خلال حدية موجات البحر التي تتجه نحو الشاطئ، ومرورًا بدورة الحياة والفناء، وصولا إلى تآكل الجمال والفناء الحتمي، بينما يظل خلود الشعر درعا ضد الزمن. لماذا اخترت هذه القصيدة مجددًا؟ وكيف تعاملت معها تحديدًا، خاصة أنها تنتمي لأديب كلاسيكي كبير من الأدب البريطاني؟

إعلان

كما تفضلتَ، القصيدة لويليام شكسبير (1564 – 1616م)، الشاعر والمسرحي الذي يُشار إليه بالبنان، وليس بحاجة لأن نؤكد عبقريته، فهو معروف عالمياً. عُرف شكسبير أيضاً بالسوناتات التي كتبها، فقد كتب أكثر من 140 سوناتة. وهذه السوناتات ذات بنية ثابتة، فقد استخدم ثلاث رباعيات. تتألف القصيدة من 14 بيتاً، منها 12 بيتاً موزعة على ثلاثة مقاطع، كل مقطع يتألف من 4 أبيات، ويختمها بكوبليه، أو ما يسمى الدوبيت في العربية. هذه القصيدة بالذات رائعة، وهي من أشهر السوناتات التي ألفها شكسبير. وتأتي روعتها من كثرة الصور المجازية التي استخدمها. وكما تفضلتَ، تحدث فيها عن بطش الزمن في حياة الإنسان وفي كل شيء موجود، فلكل شيء نهاية، وقد استخدم صوراً رائعة للتعبير عن ذلك.

في المقطع الأول، يشبّه شكسبير مرور الزمن وتسارع اللحظات في حياة الإنسان بالأمواج التي تتسارع في جريها نحو الشاطئ لتتكسر عليه وتتلاشى. هذه صورة جميلة جداً، فكل موجود تتلوه الموجودات الأخرى وتساكنها وتسارعها في الوصول إلى النهاية. ولننظر إلى المقطع بشكل دقيق، يصعبُ ترجمة كلمة "haste" بكلمة "هرولة"، بل ترجمتها بلفظة "تسرق"، لأننا سنسقط في خطأ ترجمة العبارة بـ"دقائق تهرول"؛ والهرولة ليست كلمة شعرية ولا تصف دقة المعنى المراد، فهي لا "تهرول" وإنما "تسرق" الموجود، لتأتي مسرعة إلى الشاطئ.

كما أنَّ أحد الشعراء المترجمين قال: "كما تنداح الأمواج صوب الشاطئ المرصوف بالحصى هكذا تهرول دقائقنا إلى نهايتها.."، لاحظ هنا أن هذه اللغة ليست لغة شاعر أبدًا، وعندما نصف الأرض التي فيها حصى لا نقول "مرصوفة بالحصى".. هذا وصف معجم قاموسي للكلمة، في لغة الشعر لا نعطي وصفاً قاموسياً للظواهر أو الأفكار التي نتعامل معها، وهذا أول خطأ.

أما الخطأ الثاني، فهو وجهة نظر، إذ قد تكون له وجهة نظر أخرى، لكن هذه مجرد وجهة نظر تقول: "هكذا تهرول دقائقنا إلى نهايتها"، وهذا كما شرحنا لا يتسق مع المعنى، "كأنها تحل محل كل منها تحل محل سابقتها بإعياء مستمر تتنافس كلها". وهذه ترجمة حرفية، حتى الكلمات أو نظم الكلمات يكاد يكون مشابهاً للغة الإنجليزية. والعربية كما يعلم الجميل تمتلك طرائقها الخاصة في نظم الكلمات، تختلف عما في الإنجليزية، فإذا ترجمنا حرفياً بهذا الشكل نكون قد أسأنا إلى المصدر.

لذلك، ترجمتها بشكل آخر وقلت:

كالموجِ في جريهِ للشاطئِ الحَصِبِ،
تمضـي دقائِقُنا والعُـمْـرُ يُختزَلُ،
إذ موجةٌ تقتفي أخرى وفي دَأبٍ
بعضٌ يسابـقُ بعضاً علّها تصِلُ

تلاحظ من هذه الترجمة أنني ترجمت "pebble" إلى "حصب"؛ وفي اللغة العربية، "الحصبة" هي الحصى، والأرض الحصِبة هي التي يختلط فيها الحصى والحجر. "الحصب" أو "الساحل الحصب" يعني الساحل الذي يكثر فيه الحصى، وهذه كلمة شعرية. لاحظ الفرق بين "الساحل الحصب" و"الساحل المرصوف بالحصى"؛ الشعر يُقتل بالترجمة الحرفية.. ينبغي أن نجد ترجمة موازية، أي لغة أدبية عربية، وهذا ما أطمح إليه في الترجمة.

أعتقد أن لكل اللغات تركيبًا معينًا، وفي القصيدة أو أي مقطوعة شعرية، هناك عاملان أساسيان يجب الموازنة بينهما جيدًا: المعنى والمبنى، أو الشكل والمضمون. المعنى في كل اللغات واحد، لكن اللغات تختلف في وسائلها التعبيرية، أي في طريقة نظم الكلمات.

فالعربية مثلاً لغة تعتمد الربط التناسقي، بينما الإنجليزية تعتمد الربط الحاكم. كما تختلف اللغات في أصواتها، فكثير من أصوات العربية غير موجودة في الإنجليزية، والعكس صحيح. وتختلف أيضاً في العبارات المستخدمة للتعبير عن فكرة ما، ولكن مع هذا الاختلاف، تظل الوظيفة واحدة، لأن هذه الوسائل التي يستخدمها الأديب أو الشاعر، تُستخدم لرسم الصورة الكلية من المعنى والمبنى. والمبنى يشمل الوزن والقافية والصوت والكناية والتشبيه وغير ذلك. فإذا كان المترجم قادرًا على المزاوجة بين الشكل والمضمون، حينئذ تكون الترجمة صحيحة ومؤثرة.

في المقطع الثاني من قصيدة شكسبير، يستخدم الشاعر صورة أخرى مختلفة، حيث ينتقل إلى استعارة الشمس للتعبير عن حياة الإنسان، فكما ترتفع الشمس تدريجياً، تظهر أولاً كشعاع في الأفق، ثم تبدأ في الصعود إلى كبد السماء حتى تصل الذروة، وعندما تصل إليها، يحدث الكسوف الذي يخرب كل شيء.

وكذلك الإنسان، فبعد الكسوف تبدأ الشمس في الانحدار نحو مغيب الأفق وتختفي، أي تموت. والإنسان أيضاً يولد ثم يكبر، وبعد ذلك يصل إلى ذروة نشاطه وشبابه وإنتاجه وعلو شأنه، ثم بعد ذلك، تقضي الظروف أو الزمن على هذا الإنسان. ويصور شكسبير الدهر بهذه الصورة. ففي المقطع الأول أعطانا صورة الأمواج، وفي المقطع الثاني صورة الشمس وكيف يقترن بها الكسوف، ثم في المقطع الثالث، يصور لنا الزمن كوحش كاسر. هذا الوحش يقضي على الشباب وعلى رونقه ومباهجه، ويحفر الأخدود أو التجاعيد، فيقضي على وجه الإنسان وجماله، ثم يتغذى على كل شيء جميل في حياة الإنسان وفي الحياة بشكل عام.

ولذلك، في المقطع الثاني، قلتُ بالنسبة لصورة الشمس:

يأتي الوليدُ كَقَرْنِ الشَّمسِ في الأفـقِ،
حتى إذا ما ارتقى نحـو الذرى حُجِبا،
إنَّ الكسوفَ خصيمُ النورِ والألَقِ،
والدهرُ يأخذُ ما أعطى وما وَهَـبا.
والدهــرُ يسلُبُنا إشراقةَ العُمـُـرِ،
يستخلفُ الحسنَ بالتَّجعيدِ والهَرَم،
يقتــاتُ مما بنا بالأنفـسِ النَّـضر،
لا شيء في مأمـنٍ من سيلهِ العَرِمِ

ويختتم شكسبير هذه القصيدة بالقول إنه ينظم الشعر لأنه يريد أن يخلد جمال الإنسان، ويقول:

لكنَّ شِعـري بوجه الدهرِ ينتصبُ،
يُغْذِيكَ عمراً بعمرِ الدهرِ يُحْتَسَبُ

و"يغذيك" هذه، لأن النقاد في غالبيتهم العظمى يتفقون على أن شكسبير كان يخاطب شاباً وسيماً في معظم سونيتاته. وهذا الشاب كان شكسبير يحبه، ولذلك كان يكتب الشعر ليخلده رغم الزمن. ولكن هنا إشارة إلى بيان أهمية المزج بين الشكل والمضمون بما يتفق وأدوات اللغة. فمثلاً، شكسبير في المقطع الثالث يتكلم عن الزمن أو الدهر :

Time doth transfix the flourish set on youth

And delves the parallels in beauty’s brow

ويصور الزمن بصورة الهيكل العظمي وبيده منجل. هذا المنجل يحصد الأرواح، وهذه الصورة موجودة في الثقافة الغربية، حيث يرمزون للموت والدهر والزمن بصورة هيكل بيده منجل يقضي على كل شيء. لكن هذه الصورة غير مستخدمة في اللغة العربية، فبدلاً من أن أقول: "يمسك منجله ويحصد كل شيء أمامه"، قلتُ:

يقتاتُ مما بنا بالأنفسِ النَّـضر،

لا شيء في مأمـنٍ من سيلهِ العَرِمِ

في اللغة العربية نستخدم "السيل العرم"، كصورة مكافئة للصورة التي استخدمها شكسبير. وصورة "السيل العرم" هي ما يتداوله العرف في كلامه، أي شيء كالسيل العرم يجتاح كل شيء أمامه.

إعلان

أحياناً نجد ترجمات أخرى لهذه القصيدة، وتكونُ حرفية مع الأسف، أو لا تُعير أي اعتبار للأسلوب الأدبي الجميل الذي ينبغي على المترجم استخدامه. وأنا في هذه القصيدة أيضاً استخدمت نفس القافية التي استخدمها شكسبير، وهي (ABAB ABAB).

مصدر الصورة كتاب الأكاديمي العراقي عبد الصاحب مهدي علي، وقد نُشر بالإنجليزية بعنوان "ترجمة الشعر إلى شعر: إعادة إبداع وحدة المحتوى والشكل" (الجزيرة)
*

في الحقيقة، عندما أستمع إليك وأنت تقدم لنا هذه الترجمة العذبة التي تنبع من كلمات صادرة عن مجالنا التداولي العربي، أشعر أنك وطّنت القصيدة وجعلتها عربية بأفكار شكسبير الفلسفية، هل هذا صحيح؟

اسمح لي أن أقول لك شيئاً اختيارك لكلمة "التوطين" سليمٌ جدًا، نعم أنا أسعى إلى توطين القصائد الغربية في بيئتنا العربية. في الواقع، لديّ كتاب نُشر بالإنجليزية بعنوان "ترجمة الشعر إلى شعر.. إعادة إبداع وحدة المحتوى والشكل" (Translating Poetry into Poetry: Recreating the Unity of Content and Form)، يعني تأصيل الوحدة بين الشكل والمضمون. وإذا استطعت أن تؤصّل هذه الوحدة، فبإمكانك أن تبدع قصيدة في اللغة الهدف، أي اللغة المترجم إليها، وسيكون لها تأثير موازٍ لتأثير القصيدة الأصلية في اللغة الأصل.

فعندما تستمع:

كالموجِ في جريهِ للشاطئِ الحَصِبِ،
تمضـي دقائِقُنا والعُـمْـرُ يُختزًلُ

تحس كأن هذه القصيدة عربية، لأن الوحدة بين عنصري الشكل والمضمون موجودة، والأدوات التعبيرية متوفرة، من كناية إلى تشبيه إلى أصوات. وفي الواقع تستخدم الأصوات أحياناً كعامل معزز في رسم الصورة الكلية؛ أي معنى رقيق يستخدم الأصوات اللينة في اللغة العربية، وهي "اللام والميم والنون"، فحينما يقول الشاعر بشار بن برد مثلا:

لَم يَطُل لَيلي وَلَكِن لَم أَنَم
وَنَفى عَنّي الكَرى طَيفٌ أَلَم
وَإِذا قُلتُ لَها جودي لَنا
خَرَجَت بِالصَمتِ عَن لا وَنَعَم
نَفِّسي يا عَبدَ عَنّي وَاعلَمي
أَنني يا عَبدَ مِن لَحمٍ وَدَم

فاللام والميم والنون سهلة، تشبه أصوات العلة. الميم يمكن أن تُمد كما يُمد صوت الألف، واللام وهكذا، لكن الكاف لا يُمد.

هناك شاعر عراقي مشهور آخر وهو الأستاذ عبد الرزاق عبد الواحد، ألف قصيدة يخاطب فيها الإمام الحسين، يقول له وهو ينظر إلى قامته السامقة الكبيرة ويشعر أنه ضعيف وصغير أمامه، فيقول:

قَدِمتُ.. وَعَفْوَكَ عن مَقدَمي
حَسيراً، أسيراً، كسيراً، ظَمي

لاحظ كيف استخدم هذه الكلمات: حسير، أسير، وكسير؛ هذه الكلمات الثلاث تختلف في حرف واحد فقط. هذا يسمى الرتم الداخلي، أي تواطؤ الأصوات في البيت الواحد أو في الشطرين من البيت الواحد. ثم لاحظ استخدامه أيضاً الصيغة الصرفية "فعيل" بمعنى "مفعول"، فهنا كلمات الحسير والأسير والكسير تعني المأسور والمكسور والمحسور. وهذه الكلمات تدل على الضعف، والصيغة الصرفية والصوتية استُخدمت لتعزيز المعنى الكلي الذي أراد الشاعر أن يقوله، وهو أنه صغير أمامه.


*

ترجمتك لكريستوفر مارلو في قصيدته " The Passionate Shepherd to His Love " التي يمكن اعتبارها النموذج المثالي للحياة الرعوية التي تعتز بجمال الطبيعة والراحة، وكذلك المثال الرعوي والهروب من الواقع وجاذبية الطبيعة الساحرة، والعودة إلى المتع البسيطة، ترجمتك لهذه القصيدة بثّت فيها الروح العربية وحافظت على هذا المعنى. كيف تعاملت مع هذه القصيدة في ترجمتك؟

كريستوفر مارلو عاش في القرن 16، ووُلد في نفس السنة التي وُلد فيها شكسبير، وكان له تأثير كبير على شكسبير. وهو شاعر غنائي رقيق، لكنه ينتمي إلى ما يُسمى "الشعر الرعوي" (Pastoral Poetry).

ترجمتُ هذه القصيدة لأعطي فكرة لأي إنسان يترجم بأن عليه قبل أن يبدأ الترجمة؛ أن يدرس شخصية الشاعر وتاريخه وتجاربه التي مر بها، وكذا فلسفته ونظرته للحياة، وعلاقته بالناس. لذلك صرفتُ وقتاً طويلاً لأدرس شخصية كريستوفر مارلو، وأدرس المدرسة التي انتمى إليها، والتي نشأت في ذلك القرن، كمحاولة لنقد حياة المدينة؛ فالحياة في المدينة يشوبها الكثير من الزيف والفساد والدسائس كما يراها الشاعر. أما في الريف، فنجدُ النقاء والصفاء والحياة الطبيعية غير الملوثة، حتى في ذلك الوقت كان الناس يذهبون إلى الريف لإزالة الأدران التي علقت بهم في المدينة.

فعندما نترجم شعراً رعوياً، من المهم أيضاً أن نستخدم لغة رعوية مناسبة؛ يعني لا تستخدم كلمات حديثة فصيحة أقرب إلى المدينة للتعبير عن صورة في الريف. فهذا الشاعر الرعوي يريد أن يغري صاحبته بالاتجاه إلى الريف، وتجده يقول لها:

Come live with me and be my love

And we will all the pleasures prove

That Valleys, groves, hills, and fields

Woods, or steepy mountain yields

وهي المباهج التي بإمكانه كقروي أن يقدمها لحبيبته. يقول: هناك كثير من المباهج التي نستطيع أن نلتذ بها ونسعد بها، ولم أقل: أدعوك إلى فندق فخم أو مطعم فخم أو جزيرة أخيرة كما يحصل في المدينة. لا، هذه هي وسائل الريف. ففي المقطع الثاني يقول:

And we will sit upon the Rocks

Seeing the Shepherds feed their flocks

By shallow Rivers to whose falls

Melodious birds sing Madrigals

وهنا عبارة "of pleasures" فسّرها أحد المترجمين، والنص موجود عندي، فسّرها تفسيراً خاطئاً للأسف، بقوله: "تعاليْ نمارس الحب في الوديان وفي الجبال". الترجمة في القصيدة الرعوية تمجد حياة الريف وتمجد النقاوة وتمجد البساطة، ولا تفكر التفكير الذي ذهب إليه المترجم، لذا أخطأ في ترجمته.

والشيء الثاني، فإن كلمة "shallow" باللغة الإنجليزية لها معنيان: الموقع الذي فيه مياه ضحلة وراكدة، وحتى مجازياً يقولون "shallow-minded" وتعني سطحية المرء وافتقاره إلى العمق في التفكير. والمعنى الثاني هو لمّا يكون الماء غير عميق.

المترجم ترجم العبارة إلى المياه الراكدة أو الأنهار الراكدة، وسأقرأ لك الترجمة وأبين الفرق. وبعدها يقول "I will make the beds of roses" وترجمها إلى "سأعمل لك فراشًا من الأزهار". وبالمناسبة، أول من استخدم عبارة "bed of roses" باللغة الإنجليزية كانَ كريستوفر مارلو، وانتقلت إلينا في العربية، فنقول مثلاً: "الطريق نحو النجاح معبّد بالورود".

ثم يقول:

And I will make thee beds of Roses

And a thousand fragrant posies

يعني سأعطيك ألفًا من القبعات ومن باقات الورد، وقبعة للرأس (cap of flower)، و"the kirtle" تعني فستانًا، وهذا الفستان مطرز بالورود.

هذه القصيدة غنائية، وعندما نترجمها إلى العربية، ينبغي أن نجد وزناً شعرياً يقارب في وظيفته هذا الوزن عند الشاعر. ففي العربية وجدت أن بحر الهزج من البحور العربية الموسيقية الراقصة وتستخدم كثيراً في الغناء. يعني عندنا في العراق أغانٍ تلحن على بحر الهزج، مثل قصيدة الشاعر بهاء الدين زهير:

مِنَ اليَومِ تَعارَفنا … وَنَطوي ما جَرى مِنّا
ولا كانَ ولا صارَ … وَلا قُلتُم وَلا قُلنا

ووزنه الأساسي هو "مفاعيلن مفاعيلن" في كل شطر، ويمكن أن يأتي مجزوءًا، أي محذوفًا منه تفعيلة في كل شطر.. حاولت أن أترجم هذه القصيدة بهذا البحر لكي أعطيها الصبغة أو تستوفي الغنائية فقلت:

تعاليْ ها هنا قربي وكوني الألف والخلا،
فكم من متعة عندي بطعم الشهد بل أحلى،
تجدها في الجبال الخضر، في سحر البساتين،
وفي الغابات والوديان في حقل الرياحين
وفوق الصخر إذ يحلو لنا يا حلوتي المجلس
نرى الرعيان والقطعان في المرعى فنستأنس
وحيث الماء رقراقاً من الأنهار ينساب
فتشدو لحنة الحاني من الأطيار أسرابُ

لاحظ حينما ترجمتُ "shallow rivers" قلت: "وحيث الماء رقراقا من الأنهار ينساب"، لم أقل "آس" أو "راكد"؛ فالماء يكون رقراقاً عندما لا يكونُ عميقاً، فيجري وينبعث منه هذا الصوت. ثم:

ومن ذا الورد أهديك فراشاً ناعم الملمس
وألفا منه باقات لها عطر هو الأنفس
وإكليلا من الدوار جذابا وأثوابا
وفي الأثواب تطريز بدا بالآس خلابا

هذا ما أسميه "الترجمة الإبداعية" (Trans-creation)، حيث استخدمتُ بعض الوسائل البلاغية لتزيين الصورة، فمثلاً تسمع: "البساتين والرياحين" و"الرعيان والقطعان" و"أنهار وأطيار" و"دافي وصافي"، "بالأنسِ وبالرقصِ". هذه الأصوات حينما تدخل في القصيدة تشكل رتماً داخلياً لها. وإذا كان هناك رتم داخلي، تكون القصيدة آسرة وخلابة وتؤثر في النفس. ولذلك، يتأثر المستمع العربي بالقصيدة لأنها تستجيب لذوقه الأدبي؛ يعني لو لاحظتَ كل الصور التي ذكرتها، لم أستغنِ عن واحدة، بل كلها أدخلتها في القصيدة.


*

في الحقيقة، هذا يقودنا بقوة إلى ترجمتك لقصيدة "When You Are Old" لويليام باتلر ييتس، التي ترجمتها إلى "عندما يذوي الشباب الناضر". هذه القصيدة الفياضة بالمعاني، والمفعمة بالجمال الساحر والحب الحقيقي الخالد، وقيمة الحب الذي يرى أبعادًا تتجاوز المظهر والشكل، لتعكس لنا كذلك معاني أخرى مفعمة بالحنين والندم المحتمل في الشيخوخة، والحب كرحلة روحية. في ترجمتك البديعة، كيف تعاملت مع هذه المعاني الفلسفية والرومانسية الحاضرة في هذه القصيدة؟ وكيف نقلتها إلينا؟

الشاعر ويليام باتلر ييتس (1865 – 1939م) شاعر وكاتب مسرحي إيرلندي، وهو أحد أبرز الشخصيات الأدبية، ومن كبار شعراء اللغة الإنجليزية، وأصبح من كبارهم في القرن العشرين، كما مُنح جائزة نوبل.

هذا الشاعر أحب امرأة شابة جميلة جداً اسمها مود غون، هذه الفتاة كانت في الثالثة والعشرين من عمرها عندما التقاها ييتس وأحبها، وكانت ناشطة سياسية في حركة التحرير الإيرلندية. فتقدم لها عدة مرات لخطبتها والزواج بها، لكنها رفضت. ويقال إن سبب رفضها أنه رفض الدخول معها في حركة التحرير لأنه كان يؤمن بالنضال السلمي. وتقدم لها عدة مرات، لكنها لم تستجب له، ولذلك كتب هذه القصيدة.

في المقطع الأول يقول:

When you are old and grey and full of sleep

And nodding by the fire, take down this book

And slowly read, and dream of the soft look

Your eyes had once, and of their shadows deep

يخاطب الشاعر هذه المرأة عبر هذا المقطع رباعي الأبيات، ليبوحَ لها بنوع من العتاب أنها ستندم على تركه أو تخليها عنه، ولأنها لم تستجب لحبه. ويحذرها بأنها ستندم عندما تكبر، ويفسر لماذا ستندم فيما بعد. ففي هذا المقطع يكرر ييتس كلمة "and" ست مرات، في حين أن "and" في اللغة الإنجليزية لا تتكرر عادة، بعكس العربية. ففي العربية نكرر كثيراً "واو العطف" بين الجمل والكلمات المعطوفة.

لكن ييتس كرر هذه الرابطة "and" فلماذا؟ كررها لأنه يتحدث عن امرأة طاعنة في السن، حركتها بطيئة لا تكاد تقدر على المشي ، فيريد أن يبطئ سرعة المقطع. لذا أدخل "and" ست مرات لكي يكون بطيئاً، لأنه لو حذفها سيكون أسرع. والمترجم يجب أن ينتبه إلى هذه النقاط، يعني هذا العامل في الشكل له أثر كبير في رسم الصورة التي يريد أن يعبر عنها، وهي أن هذه المرأة أصبحت طاعنة في السن، و" nodding by the fire"، فلذلك يجب أن يكون المقطع أيضاً بطيء الحركة.

نأتي للمقطع الثاني، يقول لها:

How many loved your moments of glad grace

And loved your beauty with love false or true

But one man loved the pilgrim soul in you

حيث يقول الشاعر للمرأة إنّ كثيرا من الناس يحبونها، ولكن ربما هذا الحب غير حقيقي؛ إنهم أحبوا فيها الجسم والقوام الجميل، ولكنهم لم يعشقوا روحها. لاحظ أن القصيدة لا تستخدم ضميرَ المتكلم "أنا" حينما يقول "One man, and that’s me, he loved the pilgrim soul in you"، ويعني أن هناك شخصا واحدا ولم أقل رجلا.. شخص واحد هام في حبها وفي روحها، في حين أن الآخرين يحبون جسدها. ومثل ما تفضلت في قضية "pilgrim soul" الذي يحجّ إلى مكان مقدس، ويسافر مسافات بعيدة ويتحمل عناء السفر لأجل الوصول إلى ذلك المكان، فهو في حبه هذا كالحاج، لأنه أحب روحها بإخلاص.

وفي المقطع الأخير يقول لها: أنتِ في هذا المكان تجلسين قرب النار وتضعين رأسك، وعليك أن ترددي ولكن بحزن "little sadly"، فهو لا يزال يحب هذه المرأة، ووفيٌ لها وبقي على حبه لها، وعاش بعد ذلك حياة تعيسة بسبب عدم زواجه منها، حتى إنه أراد أن يتزوج من ابنتها لكنها أيضا رفضت، لآتي وأترجم هذه القصيدة على الوجه التالي:

عندما يذوي الشبابُ الناضرُ
ويَصيرُ العمرُ نَهْباً للوَسَنْ
عِندَما تَغشاكِ سَكْرَاتُ الكَرى
بهدوءٍ أنزلي هذا الكتابْ
في أناةٍ حاولي أن تَقْرئيهْ
واذكُري ما كان أيامَ الشبابْ
مِن ظِلالٍ في ثنايا مُقْلَتيكْ
وبَريقٍ جلَّلَ الوجهَ الحَسَنْ
كمْ شغَفْتِ الناسَ حباً يا تُرى
وغراماً بالقَوامِ الفاتنِ
وأحبوا الحسنَ فيكِ عن هوى
ربما أو كانَ حباً خادِعـا
إنما صبٌ وحيدٌ هوَ مَنْ
هامَ في روحِكِ صدقاً لا ادِّعا
بل أحبَّ الهم والأحزانَ في
وجْهك إذ لاحت بفعلِ الزَّمنِ
فإذا أَحْنَيتِ قربَ المَوْقدِ
رَأسكِ المُتعَبَ مِنْ فَرطِ الهمومْ
ردِّدِي، لكنَّما في حسرةٍ
كيفَ ذاك الحبُّ عن دنياكِ زالْ
وتناءى مِثْلَما الطَّير الذي
راح يعلو فوقَ هاماتِ الجبالْ
ثمَّ أخفى بَعْدَ يأسٍ وَجهَهُ
وتوارى وسطَ حشدٍ من نُجومْ


*

حينما نقرأ هذه القصائد لا نعرف من هو صاحبها ومن هو المترجم، لأنني أجد روحك فيها وروح ثقافتك وروح أفكارك، وحتى تفاعلك أو تأويلك الفلسفي لأفكار الشاعر، فبالتالي، هل نحن أمام قصيدة جديدة بروح جديدة أم أننا أمام قصيدة مترجمة؟

ترجمتي كما ذكرتُ تقوم على الإبداع داخلَ القصيدة؛ وهو ما أسميه "transcreation"، حيث نبدعُ قصيدة جديدة مبنية على القصيدة الأصلية، تأخذ المعنى وتصوغه صياغة أدبية، وتستخدم كل أدوات التعبير الأدبي من أصوات وصور مجازية وعبارات أدبية وكنايات وتشبيهات واستعارات وغير ذلك. وبهذه الطريقة، إذا استطعتَ أن تمزج بين الشكل والمضمون، كما ذكرنا، فأنت تستطيع أن تنتج قصيدة.

البعض يقول: هذه ليست ترجمة بل قصيدة قائمة بذاتها، وهذا صحيح إلى حد بعيد، ولكن في الوقت نفسه، حافظتُ على القصيدة الأصلية. يعني في كل طرائق الترجمة، المترجمون إما يؤكدون على الشكل أو المضمون، فتجد مثلاً الترجمة الحرفية تؤكد على الشكل، والترجمة الوزنية تؤكد على جانب الإيقاع والوزن الموسيقي في النص. أنا أحاول أن أجمع بين الاثنين وأمزج بين الشكل والمضمون. وإذا أخذتَ المعنى كما هو وعبرتَ عنه بوسائل اللغة العربية (لكل لغة وسائلها)، فإننا سنجدُ هذه الوسائل تؤدي الوظيفة نفسها التي تؤديها وسائل اللغة الإنجليزية في التعبير البلاغي. وقبل الترجمة، علينا أن نعلم بعض الشيء عن الشعر كنصٍ لغوي.


*

هذا يقودنا إلى سؤالك: ما هي لغة الشعر؟ وما خصائصها؟

طبعاً، اللغة بالنسبة للشعر، عنصر أساسي في رسم ملامح الصورة الكلية لخبرة الشاعر الشخصية التي يسعى للتعبير عنها. يتم ذلك على نحو يتجاوز حدود الكلمات من خلال الصور المجازية وظلال المعاني والأصوات والموسيقى وغيرها. فالشعر يتجاوز الحدود الحرفية، أو يتجاوز الحرفية بشكل كامل. الشعر ليس حرفياً، بل ينطلق إلى آفاق رحبة من الخيال والصور والموسيقى. والكلمة في الشعر قد تعني نفسها، وقد تعني عكسها، وقد تعني شيئاً آخر.

محمد مهدي الجواهري هو شاعر عراقي كبير، حينما قال:

نامي جياعَ الشَّعْبِ نامي حَرَسَتْكِ آلِهة ُالطَّعامِ
نامي فإنْ لم تشبَعِي مِنْ يَقْظةٍ فمِنَ المنامِ
نامي على زُبَدِ الوعود يُدَافُ في عَسَل ِالكلامِ
نامي تَزُرْكِ عرائسُ الأحلامِ في جُنْحِ الظلامِ

قالها من بابِ السخرية، والشعر كما يذكر الشاعر الفرنسي بول فاليري (1871 – 1945) هو "لغة داخل اللغة"؛ أي أن للشعر خصائص معينة مميزة عن النصوص الأخرى. وهذا صحيح، فحتى عندما تستمع إلى نزار قباني أو إلى الجواهري أو عبد الرزاق عبد الواحد، تقول إنّ هذا استخدام للغة الشعرية، هذه لغة الجواهري، هذه لغة عبد الرزاق عبد الواحد. لأننا أحياناً نستطيع أن نتعرف على شخصية الأديب أو من هو الأديب من خلال أسلوبه، وهكذا تعرف النقاد على كثير من مسرحيات شكسبير من خلال أسلوبه، رغم أنها كانت مجهولة المؤلف، فقط من خلالِ أسلوب شكسبير. الوحدة العضوية بين الشكل والمضمون هي عامل أساسي في الترجمة.

خذ مثلاً قصيدة ألفريد تنيسون "Break, break, break"، فالشاعر تُوفي صديقه الشاب، وكان يحبه كثيراً، فحزن عليه حزناً شديداً، فيذهب إلى البحر وينظر إلى الأمواج المتلاطمة التي لا تتوقف، وكأنها لا تُعير انتباهاً لأحزانه ولا تواسيه ولا تشاركه الحزن. الأمواج تتوالى نحو الشاطئ والبحّار يبحر بقاربه والصياد يصيد السمك، وكأن الدنيا لم تلتفت إلى الشاعر الذي كان يحزن فيقول: "تكسّر تكسر تكسر على صخرك البارد الأسود، ليتني يا بحر يسعفني فمي فالأسى جمل وطاق كمد". تكرار كلمة "break" هنا له معنى.

كان يمكن أن يقول: "just break break on thy cold gray stones, O sea"، لكنه كررها. وكما يكررها كثير من الشعراء، فالقصيدة مكثفة ومنتقاة ولا تحتمل إطناباً ولا تتعدى حدود الضرورة التعبيرية. لذلك، فالقصيدة لا يمكن أن تختزل أو تختصر، عكس المسرحية والرواية، وحتى القصة القصيرة. لا يمكن أن تختزل القصيدة لأنها منتقاة، والشاعر يبذل جهداً كبيراً في العثور على الكلمة المناسبة التي ترسم الصورة الحقيقية الفنية.

انظر إلى امرئ القيس، أراد أن يرسم صورة لحصانه عندما يجري بسرعة فقال:

مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقبِلٍ مُدبِرٍ مَعًا كَجُلمودِ صَخرٍ حَطَّهُ السَيلُ مِن عَلِ
كُمَيتٍ يَزِلُّ اللِبدُ عَن حالِ مَتنِهِ كَما زَلَّتِ الصَفواءُ بِالمُتَنَزَّلِ

انظر إلى "مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقبِلٍ مُدبِرٍ مَعًا" تشعر بالتسارع.. يصف حصانه بأنه كالصخرة التي تنحدر من الجبل نحو الوادي. فاختيار الكلمة شيء أساسي بالنسبة للشاعر. وفي النثر قد يختار كلمة أو ما يقاربها، ولكن في الشعر ينبغي أن تكون الكلمة في موضعها الذي تكمل هدف الشاعر أو المترجم أيضاً في رسم الصورة.

وهناك في الشعر علاقة حميمة بين الشاعر وما يكتبه، يعني، قارن اللغة الشعرية باللغة العلمية. في العلم، تكتب النصوص باللغة المبنية للمجهول: "يوضع السائل على النار ويُبخر ويُكثف"، ليس هناك ذكر لمن يفعل هذا العمل. ولكن في لغة الشعر والأدب عموماً، اللغة ذاتية، فالشعر شخصي يعبّر عن حالة شخصية .

مصدر الصورة بعض أعمال الأكاديمي العراقي عبد الصاحب مهدي علي (الجزيرة)
*

في الحقيقة، هذا يقودنا إلى كتاب "موسوعة مصطلحات الترجمة" الصادر عن جامعة الشارقة. هذا الكتاب في الواقع ربما من الكتب السابقة لعصرها، أو من الكتب الأولى التي تناولت الترجمة الفورية المتخصصة، والترجمة الآلية والذكاء الاصطناعي. هل الذكاء الاصطناعي مؤهل اليوم ليترجم لنا الشعر بطريقة شعرية؟

الترجمة التقنية في الواقع نجحت لحد كبير في ترجمة النصوص التقنية واللغة العلمية، لكن فيما يتعلق بالأدب فلا يزال الشوط طويلاً. من الصعب جداً على الترجمة التقنية أن تدخل في مخيلة الشاعر وترى ماذا يدور فيها. المترجم البشري يدخل في مخيلة الشاعر الأصلي، ويحاول أن يستقصي أفكاره ويدخل إلى ما يفكر فيه، ويحتاج للتعبير عن ذلك بعناصر عديدة ليدرك المعنى الدقيق.

ضربت مثلاً قبل قليل بكلمة "Light"، فهل تعني "النور" أو "الضوء". الذكاء الاصطناعي لا يطرح مثل هذا السؤال ويترجم الكلمة إلى "الضوء"، وهنا يرتكب خطأ. وكل كلمة لها معانٍ كما تعلم. فالشاعر يختار الكلمة ذات الظلال التي يريد أن يعبّر بها تعبيراً دقيقاً عن دلالة معينة، وهذه لا تتوفر لدى الذكاء الاصطناعي.

فمثلاً:

عَنِ المَرءِ لا تَسأَل وَسَل عَن قَرينه … فَكُلُّ قَرينٍ بِالمُقارنِ يَقتَدي

لدينا ثروة من المفردات أو الأشعار أو العبارات التي تستطيع أن تختار منها ما يناسبنا لترجمة القول، وهو ما لا يتوفر لدى الذكاء الاصطناعي في الوقت الحاضر على الأقل. مستقبلاً، أتوقع أن تزداد إمكانيته، لأنه يمكن أن تطلب منه أن يكتب لك قصيدة. يعني هناك إمكانية لدى "شات جي بي تي" أن يكتب لي قصيدة، ولكنه لا يأتي بما يأتي به المتأمل أو الخالد أو شاعر البشر. فالخيال أوسع وإمكانيات اللغة أوسع. ثم إن هناك علاقة بين اللغة والثقافة، والشعور في الترجمة.. الصلة مهمة جداً؛ مهم أن يدرك الإنسان العلاقة بين اللغة وثقافتها. ولذلك، يجب أن نضع هذه الأمور في الاعتبار.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار