آخر الأخبار

حي المِسكيّة الدمشقي عبق الورق وأوجاع الحاضر

شارك

في قلب دمشق القديمة، في تلك البقعة التي تخفق فيها ذاكرة الزمان وتترقرق على حجارتها همسات العصور، حيث يلتقي التاريخ بالحياة اليومية في أزقتها الضيقة المبللة بأريج الياسمين، يقبع حي المسكية كوشاح نسجته يد الزمن من خيوط الحروف والورق والعطر.

وهنا، في هذا الشريان النابض، يمتزج قديم المدينة بجديدها كما تمتزج قطرات الندى على بتلات الياسمين عند الفجر، فيغدو المكان قصيدة طويلة تتلى على مسامع العابرين، فيخشعون عندها وإن لم يقرؤوا حرفا واحدا.

ويبدأ هذا الحي عند الجهة الشمالية الغربية للجامع الأموي الكبير، كأنه ظله الممتد وأحد أجنحة قدسيته، ملاصقا لجدار القبلة حيث تتداعى الأرواح الطاهرة في رحاب الجامع بالتسبيح والدعاء، وعلى امتداد السوق العتيق المؤدي إلى سوق الحميدية الشهير، تتوالى الدكاكين الصغيرة كأنها خرزات سبحة عتيقة، تتلألأ فيها المصاحف المذهبة والكتب المطبوعة، والدفاتر المزخرفة، والمخطوطات التي يرقص غبار الأيام فوق أوراقها كرقصة الذكريات على وجوه الشيوخ.

مصدر الصورة أزقة ضيّقة تفيض بالذكريات وأبواب خشبية تخبّئ خلفها دفء البيوت الشامية (الجزيرة)

وموقعه هذا، المحاذي لرحاب المسجد الأموي، منحه طابعا روحانيا وتجاريا فريدا، قل أن تجده في مكان آخر، فهو ليس سوقا كبقية الأسواق، بل هو مصلى للكتب، ومحراب للقراء، وسارية من سواري المسجد ذاتها، كأنما جعل ليكون صدى لكتب العلماء ومصاحف القراء وخطى الأدباء الذين ظلوا يجاورون الجامع منذ مئات السنين، وكل زاوية فيه تحمل أثرا لمداد عالم أو أنين شاعر أو حلم طفل يشتري أول كتاب له.

وفي المسكية، كل شيء يروي حكاية: حجارتها التي بللتها دموع الغيم وأقدام المارة، وأصوات الباعة التي تختلط بنداء المؤذنين، ورائحة الورق القديم التي تتضوع فتخالها بخور الحكمة. وترى فيه الوجوه على اختلافها: طالب العلم المتأبط دفترا، والشيخ المتأمل في عناوين الكتب، والطفل يتصفح بحذر كتابا مصورا.

وليس حي المسكية إذن مجرد شارع ضيق بين جدران المدينة، بل ذاكرة دمشق الحية، وهو قلبها الذي ما زال ينبض بالحرف، وشفتاها اللتان تلهجان بالعلم، ويكأن المكان يردد مع كل نسمة ياسمين: هنا دمشق.. مدينة لا تكف عن القراءة.

إعلان

حين عطر الطهر أزقة دمشق

تقول الحكاية يا سادة يا كرام، والعهدة على من حفظوا الحكايات من أفواه الأجداد، أن فتى من دمشق في قديم الزمان كان يبيع مكانس القش، يحملها على كتفه ويجوب بها الحارات مناديا بصوت عذب يوقظ النائمين على حلم النظافة وطمأنينة البيوت، وكان حسن الهيئة، جميل القسمات، مشرق الوجه، حتى إن كل من رآه تمتم بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، لما حباه الله من مسحة النور والوسامة التي لم تكن تخفى على أحد.

وفي ذات يوم، وهو يطوف بأزقته كعادته، أبصرته امرأة من نافذتها، وقد سمعت كثيرا عن جماله وطيب أخلاقه، فأرادت أن ترى بعينها ما قيل عنه. نادته بزعم أنها تريد شراء مكانس منه، ودعته إلى البيت متعللة بأن إخوتها وأمها في الداخل، ولما ولج عتبة الدار، خاف أن يقع نظره على وجهها فطأطأ رأسه إلى الأرض، التزاما بحياء لا يغيب عن قلب التقي، لكنه ما لبث أن اكتشف أن المرأة وحيدة في بيتها، ولم تكن دعوتها إلا فخا نصبته له لتغويه بعدما أسر قلبها ما رأت فيه من نور.

كشرت له عن نواياها وغلقت الأبواب قائلة: هيت لك، وأغرته بما شاءت من وعد وتهديد، وقالت له "إن لم تفعل ما أريد، صرخت بالناس أنك أردت أن تنال مني، وسرعان ما يصدقونني، فقد دخلت داري وأنت وحدك، ولا نجاة لك من كلامهم".

مصدر الصورة ساحة المسكية كانت مركزًا حيويًا للحركة والتجارة يضجّ بالحرفيين والباعة والمارة (الجزيرة)

وقف الفتى مذهولا بين شهوة تستدرجه، وخوف من الله يمنعه، لجأ إلى الحمام متعللا بالنظافة، وهو يرتجف من رهبة الله ومن هول الموقف. وهنالك، على بلاط الحمام البارد، رفع بصره إلى السماء يناجي ربه "يا رب.. يا دليل الحائرين دلني، ويا ستار العيوب استرني" فتذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم ".. ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله". فعمد إلى أن يلطخ جسده بالقاذورات والأوساخ حتى تقززت منه المرأة وأمرته أن يخرج من بيتها مذموما مدحورا.

وخرج من البيت يحمل مكانسه على كتفه، والناس يضحكون منه في الطرقات وقد حسبوه مجنونا، حتى بلغ بيته، فاغتسل وتطهر وبكى بين يدي ربه، فكان الجزاء أعظم مما تخيل، إذ عوضه الله عن قاذورات المعصية برائحة مسك زكية تفوح من جسده ما عاش، حتى شمها الناس على بعد أمتار، وظل يلقب بالمسكي حتى بعد وفاته، فلما وسدوه التراب، ظلت رائحة المسك تعبق من قبره حتى كان المارة يقفون عند ضريحه مدهوشين قائلين "هنا يرقد من أحب الله فأحبه، ومن خافه فآتاه ريحه الطيب".

ومن يومها سمي الزقاق الذي عاش فيه ودفن عنده باسم حي المسكية، يتيما في العالمين بهذا الاسم، شاهدا على أن عبق الطهر أطيب من ريح المسك.

وعلى كل حال فإن أهل دمشق يجمعون، على اختلاف أجيالهم وتنوع رواياتهم، أن اسم "المسكية" ارتبط بالمسك، تلك الرائحة العطرة الآسرة التي كان يتاجر بها باعة الحي قديما، حتى إذا مررت بأزقته شعرت كأنك تعبر بين سطور عطر معلق في الهواء، لا يكاد يزول أثره من القلب، فقد كانت زجاجات المسك والعود والعنبر تصطف في واجهات الدكاكين، تتلألأ كبنادق نور في يدي الباعة، وتغري العابرين بعبقها الفواح، فيشتري الناس المسك كمن يشتري سكينة الروح ونقاء السريرة.

إعلان

وكما قلنا فإن أهل الحكاية، الذين يحرصون على أسرار الذاكرة الشعبية، يتنادون بأن المسك هنا لم يكن مجرد عطر للجسد، بل هو رمز أرفع وأبقى، رمز للطهر وعبقه، وهو عندهم كذلك رمز لطيب العلم ورفعة المعرفة، وما تنفحه القراءة في الروح من مسك الحكمة ونور الهداية، إذ إن المكان، منذ أزمنة بعيدة، اشتهر بمحلات الوراقين والكتبيين، وتجار المخطوطات والمصاحف المذهبة، وأصحاب الدفاتر المزركشة وعبوات الحبر وريش الكتابة، حتى صار الحي أشبه بمحراب للأدب ومكتبة في الهواء الطلق، تعتكف في رحابه أرواح الباحثين عن الكلمة الطيبة.

فقد كانت الرفوف الضيقة تغص بالمجلدات كأنها صدور حافظة للعلم، والمصاحف المخطوطة تلمع على صفحاتها حروف الذهب، والمخطوطات القديمة تحمل بين سطورها أسرار القرون الماضية، وأوراق الحبر تفوح منها روائح الزمن وعبير الدروس التي انعقدت بين جدران الجامع الأموي المجاور. فصار المسك استعارة لما يفوح من الورق من عبق، وصار الحي كله استعارة للذاكرة الدمشقية العريقة، وكل زاوية فيه تشهد على حضور الكلمة، وكل حجر فيه يصلي على من حمل علما أو باع مصحفا أو نشر ديوانا بين يدي القراء.

وهكذا صارت "المسكية" عنوانا لسوق الكتب في الشام القديمة، ومرادفا لمقام الورق والعطر معا، مكانا يجمع بين طهارة المداد وطيبة النفوس، بين رائحة الحبر التي تعبق في الضمير ورائحة المسك التي تعطر الجوارح، فمن يشتري كتابا من المسكية، إنما يشتري مسكا للعقل وريحانة للقلب، ويعود إلى بيته محملا بأنسام من نور العلم وشذا السطور.

وهكذا، بقيت المسكية إلى اليوم تذكر كل عابر بأن العلم في دمشق لا يشترى بورق النقود وحده، بل بورق آخر أرفع قدرا، ورق الكتب التي تنشر بين السطور عبق المسك، وتعلم أن أعطر ما يفيض به الإنسان هو ما يحمله في قلبه وعقله.

عناد الورق وسط رياح النسيان

رغم ما عصفت به الأيام من رياح الإهمال والتبدل، ما زال حي المسكية يصر على أن يبقى حيا، شامخا في وجه العواصف، متمسكا بشرف اسمه، وبالعبق القديم الذي يرشح من بين أحجاره، كأن الحي كله يردد بإصرار "لن يموت الورق ما دام الحبر يتنفس، ولن يذبل العطر ما دام في الشام قلب ينبض".

واليوم، ما زالت رفوف الكتب تصطف على جانبي السوق كجنود في موكب العلم، بأغلفتها الباهتة التي ما زالت تحمل كبرياءها القديم رغم غبار الأزمنة، ودفاتر المذكرات تلوح للمارين، وأوراق المجلات المصفرة تحاول أن تقتنص نظرة شغوفة بالقراءة من عيون زائرة مسرعة، كأن الكتب تلوح بيديها الهزيلتين لكل عابر: لا تتركني على رفوف النسيان والوحدة.

ويُرى الحي في ساعات النهار مزدحما بالناس الذين يتزاحمون بين أزقته، طلاب جامعات يحملون حقائبهم المحشوة بأحلام شابة يفتشون عن كتب مستعملة أو مراجع نادرة، وزوار فضوليون يلتقطون صور الرفوف وكأنها مشهد من متحف حي، وشيوخ وقورون يفتشون عن مصحف مخطوط، وأطفال يمدون أصابعهم إلى دفاتر زاهية الألوان.

وفي المسكية، لا ينقطع ضجيج الباعة، كل منهم يرفع صوته على إيقاع مزادات صغيرة تشبه الموشحات الدمشقية، فتختلط الأصوات بأنين الأرض تحت وطأة أقدام العابرين، وتتسرب إلى سماء الحي كرنين خافت على وقع التاريخ.

ولكن العين الحاذقة، التي لا تخدعها الزحمة، ترى الجراح العميقة التي يخفيها الحي بين طياته، فترى حزنه المستتر خلف واجهات المحلات، الحزن المبلل برطوبة اليأس، والجدران التي طالها التشقق، والواجهات التي بهتت ألوانها، والكتب التي علاها الغبار وكأنما تبكي أياما كان المارة يتوقفون أمامها مأخوذين، وترى المحلات التي أغلقت أبوابها يأسا، والمكتبات التي استسلمت لصمت الهواتف المحمولة، والباعة الذين باتوا يقسمون أن لا ربح كما كان من قبل.

فالحي ما زال حيا، لكنه يتنفس على حافة الوجع، كشمعة تقاوم الريح في غرفة معتمة، شامخة بقدر ما هي مهددة بالانطفاء.

مصدر الصورة أنفاس الكتب المصفوفة على الرفوف وكأنها أسرى ينتظرون من يحررهم من قيد الإهمال (الجزيرة)

نزف الهوية في جسد الحرف

لقد طال حي المسكية ما طال سائر أحياء دمشق القديمة من أوجاع وإهمال، بل كأن نصيبه منها كان أوجع وأفدح، لأن ما ينزف منه ليس حجرا ولا زقاقا، بل روح الحرف وعطر الورق. فأزقته الضيقة تشكو اليوم اختناقا شديدا، يئن تحت وطأته المارة، والزحام العشوائي يملأ صدر المكان بالدخان والغبار، فيخنق أنفاس الكتب المصفوفة على الرفوف، وكأنها أسرى ينتظرون من يحررهم من قيد الإهمال.

إعلان

وبنيته التحتية تتداعى كما يتداعى جسد شيخ أثقلته السنون، حجارة رطبة، وأرضيات متآكلة، وأسلاك كهرباء متدلية كخيوط العنكبوت، والماء يتقطع غالب الوقت عن الحي، حتى يغدو الوراقون كمن يحملون الظمأ بين دفتي مصحف، والرطوبة تزحف على الجدران العتيقة زحف الليل على مدينة ناعسة، وتلتهم أوراق المخطوطات، وتغتال نقوش المصاحف المذهبة بصمت بارد.

ولم يقف البلاء عند حدود الحجارة والماء والكهرباء، بل امتد إلى روح الحي وهويته، فقد زاحم باعة الأرصفة الجدد الوراقين القدامى، وبسطوا بضائعهم الرديئة على عتبات الدكاكين، حتى كادت أكوام البلاستيك الرخيص والثياب المستعملة تطمس بهاء الكتب، وتخنق عبير الحبر، وتستبيح أصالة الرفوف.

مصدر الصورة حي المسكية طاله ما طال سائر أحياء دمشق القديمة من أوجاع وإهمال (الجزيرة)

أما الوراقون القدامى، أولئك الذين ظلوا سنين يسكبون الحبر على جراح دمشق ليضمدوها بالمعرفة، فقد تراجعوا إلى زوايا مظلمة، يراقبون من بعيد كيف يتفلت الحي من بين أيديهم كالماء، وكيف يغدو اسمه عنوانا لشيء آخر غير الكتب، فغلاء الأسعار خنقهم، وتراجع الإقبال على القراءة أطبق على أنفاسهم، وطوفان الشاشات والهواتف الذكية اجتاح الأذهان والجيوب معا، حتى أصبح الورق كأنه غريب في مدينته، ينظر إلى الأجيال الجديدة بخوف وشيء من العتاب.

والأدهى والأمر، أن الهوية الثقافية للحي باتت على حافة الضياع. وبعض المحلات التي كانت تباهي برفوفها المصفرة وأغلفتها المخملية، تحولت إلى تجارة لا تمت بصلة للورق ولا للعلم، مستسلمة لربح سريع يقتل روح المكان، وصار بائع الكتب يبيع اليوم أواني بلاستيكية أو ألعابا صينية، ويكتب على واجهته اسم الحي، لكنه من الداخل ينطق باسم آخر، لا يمت بصلة إلى المسكية.

وهكذا، يمضي الحي في نزفه الصامت، كشمعة يذيبها الحزن قطرة قطرة، في حين يتساءل المارة: إلى متى يبقى الورق في دمشق غريبا؟ وإلى متى تبقى المسكية بلا مسك، ولا حرف؟

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار