في زمن تلاشت فيه الوعود الاقتصادية، يُعيد جيل الشباب صياغة مفهوم الأمان المالي. فبينما كان الادخار والاستثمار الحذر في أصول الشركات الكبرى والمستقرة يمثلان الركائز الأساسية لثروة الأجيال السابقة، يجد الشباب اليوم أن هذه المسارات لم تعد مجدية. في مواجهة أسعار المنازل التي ارتفعت بشكل جنوني، وعبء الديون المتزايد، وسوق العمل غير المستقر، ينظر إلى الأساليب التقليدية لتراكم الثروة على أنها طريق مسدود.
هذا الواقع دفع بالشباب نحو استراتيجيات مالية جديدة ومحفوفة بالمخاطر، فهل يمثل هذا التحول هروباً من الواقع أم استجابة عقلانية لظروف اقتصادية غير عقلانية؟ وهل يُعيد هذا الجيل تعريف الأمان المالي من كونه استقراراً على المدى الطويل إلى كونه سلسلة من الفرص اللحظية؟ وهل يعكس هوس الشباب بالعملات المشفرة اليأس من تحقيق الأمان المالي؟
بحسب تقرير نشرته شبكة "سي إن بي سي" واطلعت عليه سكاب نيوز عربية، يفضل الشباب التخلي عن استراتيجيات الاستثمار التقليدية والاتجاه نحو بدائل أكثر خطورة. هذا السلوك، الذي يندرج تحت مصطلح "العدمية المالية"، هو قناعة بأن الوسائل التقليدية لتراكم الثروة قد فشلت، مما يعكس شعوراً واسعاً بالإحباط من الوضع الاقتصادي الراهن، حيث أصبحت الأهداف التقليدية مثل امتلاك منزل أو الادخار طويل الأجل بعيدة المنال. في المقابل، يجد الشباب في الاستثمارات المضاربة مثل العملات المشفرة، وأسهم الميم، والمراهنات الرياضية، فرصة لتحقيق مكاسب كبيرة في وقت قصير.
وتُعرف العدمية المالية بأنها ظاهرة اجتماعية تتسم بتزايد مشاعر القلق وعدم الجدوى لدى الشباب بشأن مستقبلهم المالي.
وأوضح التقرير أن هذا السلوك ليس متهوراً بالضرورة، بل يمكن اعتباره استجابة عقلانية لظروف غير عقلانية. ونقل التقرير عن سيمون أوه، الأستاذ المساعد في كلية كولومبيا للأعمال، قوله "إن تحقيق الثروة عبر الوسائل التقليدية أصبح أصعب بكثير مقارنة بالماضي، مما يجعل "المجازفة" هي الخيار المنطقي. وأورد التقرير مثال جاكوب كابلان، الشاب البالغ من العمر 25 عاماً الذي يخصص 30 ساعة أسبوعياً للمراهنة على الأحداث الرياضية، والذي يرى أن هذه المراهنات توفر له فرصة لتحقيق الأمان المالي الذي يبحث عنه جيله.
وأشار التقرير إلى أن هذا التحول تزامن مع انتشار الوباء، حيث برزت قنوات استثمار جديدة خارج نطاق الأسواق التقليدية. وأبرز التقرير أمثلة على هذا التحول، منها تداول العملات الرقمية الذي أصبح شائعاً بشكل متزايد بين الشباب. وبناءً على استطلاع رأي أجراه بنك " U.S. Bank"، فإن الجيل "زد" (الذين ولدوا في منتصف التسعينات وحتى أوائل الألفية الجديدة) هو الأكثر ميلاً للاستثمار في العملات المشفرة على مدى السنوات الخمس المقبلة. كما سلط التقرير الضوء على هوس أسهم الميم الذي بدأ مع GameStop وAMC خلال الجائحة، وشمل مؤخراً أسهماً مثل OpenDoor وKohl’s.
وذكر التقرير أن رغبة الشباب في الحصول على شبكة أمان مالي تعكس قلق هذا الجيل من أن الأهداف الاقتصادية التقليدية أصبحت بعيدة المنال. ونقل التقرير عن المعلقة الاقتصادية كيلا سكانلون قولها إن كل ما يتعلق "بالسلم الاقتصادي التقليدي" أصبح خارج متناول الشباب، مما يدفعهم إلى الشعور بأن لا مستقبل لهم، وبالتالي "يمكنهم المغامرة بكل شيء".
ويختتم التقرير بالإشارة إلى أن هذا النوع من الاستثمار عالي المخاطر لا يُعتبر استراتيجية طويلة الأجل حتى من قبل ممارسيه. فبحسب التقرير، يعترف كابلان بأنه لا يرى في هذه الممارسة شكلاً مستداماً للدخل، ويخطط في نهاية المطاف لتخصيص أرباحه في استثمارات أكثر استقراراً مثل صناديق المؤشرات أو حسابات التوفير.
في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" قال الخبير الاقتصادي الدكتور عبد الله الشناوي: "اكتسبت الأجيال الشابة وخاصة الجيل "زد" إتقاناً تكنولوجياً منذ نشأتها في بيئة مواكبة للتطورات التكنولوجية، حيث تعرف الشباب على هذه البيئة في سن مبكرة. وفي الواقع، تجذب التقنيات الحديثة الشباب دائماً، إذ يجدونها سهلة الاستخدام والتنقل. وتتكيف مع التغيير بسهولة أكبر ما أتاح لهم فرصاً جديدة يمكنهم الاستفادة منها".
ولا شك أن العملات المشفرة متقلبة للغاية، لكن هذا لا يبدو مخيفاً لجيل "زد"، الذي يرغب في الاستثمار في أحدث التقنيات حيث ثقتهم بمنصات تداول العملات المشفرة أكبر من ثقتهم بسوق الأسهم. إذ نشأ الجيل "زد" في عالمٍ تكنولوجيٍّ مُمَكَّن ويعرفون كيف يُسخِّرون التكنولوجيا لصالحهم، بحسب تعبيره.
وأضاف: "سيطرت الأزمات الاقتصادية على تصورات الشباب حيث ساد الركود المالي والصعوبات الاقتصادية العامة على مدى العقود الثلاثة الماضية. ولا شك أن الشباب نشأوا على سماع حكايات آبائهم أو أشقائهم الأكبر سنًا، حتى لو لم يولدوا في ظل أسوأ هذه الصعوبات.
ويرجع ذلك الى عدم الاستقرار المالي، إذ عانى الجيل "زد" من عدم استقرار مالي كبير جراء الازمات مثل أزمة الإسكان وجائحة كورونا التي تضررت منها اقتصادات الدول. ونتيجةً لانعدام ارتباطها بدولة معينة، لا تزال العملات المشفرة تجذب اهتمام عدد كبير من الشباب. مما أدى الى تنمية عدم الثقة في المؤسسات المالية التقليدية لدى الأجيال الجديدة. وترتب على ذلك قيام الجيل "زد" باتخاذ نهج أكثر استباقية لتأمين مستقبلهم المالي. ولذلك يعتقد جيل Z ان العملات المشفرة تُمثل طريقةً جديدةً لإدارة الأعمال ومشاركة القيمة عبر الإنترنت، بحسب الشناوي.
وأشار إلى ان الجيل "زد" يسعى نحو الرفاهية على حساب الثروة بشكل تصاعدي: ويبدو أن هذا الجيل يُعيد تعريف مفهوم الأمان المالي والرخاء بإعطاء الأولوية للرفاهية والاستقلالية على الربح المادي. ووفقاً لاستطلاعات رأي حديثة، يُصرّح ما يقرب من ثلثي جيل "زد" بأنهم يُعطون راحة البال ووقتهم الشخصي الأولوية على تراكم الثروة.
وتشير الدراسات الاستقصائية إلى أن التكاليف المرتفعة وعدم اليقين الاقتصادي وتشكل المخاوف بشأن مستقبلهم المالي على المدى الطويل أحد أهم العوامل التي تؤدي إلى الشعور بالقلق والتوتر لدى الجيل "زد" ويختار إعطاء الأولوية للرضا الشخصي على المعايير المالية العالية حيث يرتبط النجاح المالي بشكل متزايد بتحقق الاستقرار المالي والمرونة والرفاهية الشخصية طبقاً لاستطلاعات الرأي في الولايات المتحدة في مارس 2025، والذي أظهر أن 64 بالمئة من جيل Z يرى راحة البال أهم من بناء الثروة، ويفضل 60 بالمئة من جيل Z الحصول على حياة أفضل على امتلاك حساب بنكي كبير.
ورداً على سؤال حول توجهات جيل "زد" المقبلة ذكر الخبير الاقتصادي الشناوي أنها تتمثل في الآتي:
وحول أسباب مراهنة الشباب على المقامرة بدلاً من الادخار، قال الدكتور الشناوي:
وخلص الدكتور الشناوي إلى أن الجيل Z يسعى إلى تحقيق الأمان المالي من خلال العملات المشفرة التي يرى فيها ملاذا لتحقيقه ويأسه من القنوات التقليدية وإيمانه باللامركزية والسرعة، والرغبة في تكوين المال بعد التقاعد.
من جانيه، قال الخبير الاقتصادي الدكتور عماد الدين المصبح، أستاذ الاقتصاد في كليات الشرق العربي، في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية": "تناول ظاهرة (العدمية المالية) كرد فعل منطقي لجيل يواجه انعدام الأمان المالي المستقبلي، تشخيص دقيق لكنه يغفل نصف الصورة. فالشعور بأن النظام الاقتصادي لم يعد يعمل لصالحهم لا يدفع جميع الشباب نحو المضاربة المحفوفة بالمخاطر، بل يخلق انقساماً سلوكياً حاداً.
وأضاف: "في الواقع، إن المقامر العدمي الذي يراهن على أسهم الميم، والمدّخر القلق الذي يتجنب أي مخاطرة، هما وجهان لعملة واحدة؛ كلاهما استجابة متطرفة لواقع اقتصادي يبدو فيه النجاح التقليدي بعيد المنال. فمن ناحية، هناك شريحة كبيرة من الشباب تتبنى (الادخار القهري) كآلية دفاع (40 -60 بالمئة من أبناء الجيلZ)، هؤلاء، مدفوعون بالخوف من تكرار الأزمات المالية، ويسعون لاستعادة السيطرة عبر التقشف الشديد وتكديس الأموال في حسابات آمنة، حتى لو كان ذلك على حساب نوعية حياتهم الحالية".
وعلى النقيض تماماً، تتبنى شريحة أخرى "العدمية المالية"، فتقرر أن الادخار البطيء لا طائل منه، وأن فرصتها الوحيدة تكمن في رهانات عالية المخاطر عبر العملات المشفرة (20-35 بالمئة من الشباب)، معتبرين إياها "تذكرة يانصيب" قد تغير مصيرهم، طبقاً لما قاله الدكتور المصبح.
ومع ذلك، أوضح المصبح أن الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أن هذين النقيضين قد يجتمعان في شخص واحد. فالعديد من الشباب يطبقون ما يُعرف بـ "استراتيجية الباربل" (The Barbell Strategy)؛ حيث يخصصون الغالبية العظمى من أموالهم للأمان المطلق (الادخار)، بينما يقامرون بجزء صغير في رهانات شديدة الخطورة.
ويرى أن هذه الاستراتيجية الهجينة ربما هي التعبير الأكثر صدقاً عن وضعهم: تأمين أساسيات البقاء، مع شراء أمل ضئيل في تحقيق قفزة مالية حقيقية.
بدوره، يرى الخبير الاقتصادي الدكتور مصطفى بدرة في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، أن هذه القضية هي "قضية الساعة العالمية"، وترتبط بشكل وثيق بكيفية سعي الأجيال القادمة لتأمين مستقبلها.
وأشار بدرة إلى أن الجيل "زد" يتميز باعتماده الكبير على التكنولوجيا وقدرته الفائقة على التكيف مع الأدوات الحديثة مثل العملات الرقمية.
وأوضح الدكتور بدرة أن سعي الشباب للاستثمار المحفوف بالمخاطر يأتي من قناعتهم بأن عوائد الاستثمار تفوق بكثير عوائد الادخار التقليدي، ما يلبي طموحهم لتحقيق "ثراء سريع" من جراء المضاربة والتلاعب بالأسعار العالمية، مدفوعين بنماذج قصص النجاح التي يشاهدونها.
وفيما يخص الأمان المالي، يرى الدكتور بدرة أن الادخار لم يعد يلبي تطلعات الشباب للضمان الاجتماعي وتلبية الاحتياجات الأساسية في ظل أسعار الفائدة غير الكافية، مما يدفع الأجيال الجديدة للسعي نحو النجاح الكبير والسريع عبر التعامل مع الأسهم والعملات المشفرة.