في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
منذ أن مدَّ الإنسان بصره إلى السماء، وهو يتساءل عمّا يكمن خلف هذا الظلام الساكن الممتد بين النجوم. لطالما اعتقدنا أن الفراغ ما هو إلا صمتٌ كوني مطلق، لا مادة فيه، ولا طاقة، ولا حياة. لكن، ماذا لو كان هذا الفراغ أعقد بكثير مما نظن؟ ماذا لو أن أكثر نظرياتنا فخرًا، نظرية أينشتاين في الجاذبية، تبدأ الانهيار عند حافة هذا الفراغ؟
لقد منحنا أينشتاين مفتاحًا لفهم الزمان والمكان، والثقوب السوداء، وانحناءات الكون، لكنّ الفيزياء الحديثة تُلمّح اليوم إلى أن هذا المفتاح قد لا يفتح جميع الأبواب، خصوصًا عندما نقترب من أعماق الثقوب السوداء، أو نتأمل ذلك التمدد الغامض للكون الذي تدفعه طاقة مظلمة لا نعرف أصلها.
في هذا المقال المترجم من مجلة نيو ساينتست، سنرافقك في رحلة إلى تخوم الفيزياء، إلى حيث تتشابك الجاذبية مع ميكانيكا الكم، وحيث تظهر كائنات غريبة من رحم الفراغ تُعرف بـ"كرات الوبر"، وحيث يبدأ الفراغ ذاته في الهمس بأن ما ظنناه ثابتًا.. قد يكون مجرد وهْم جميل!
منذ أن بدأ الإنسان محاولة فهم طبيعة الواقع، وهو يواجه صعوبة في استيعاب مفهوم الفراغ أو "الفضاء الخالي". في عام 400 قبل الميلاد تقريبًا، تخيّل الفيلسوف اليوناني ديموقريطس وجود أجسام صغيرة لا تتجزأ، أسماها الذرات. وبما أن هذه الذرات تحتاج إلى مكان تتحرك فيه، افترض وجود فراغ يحيط بها، لا شكل له ولا تغير يعتريه، يمكّن تلك الذرّات من الحركة والانسياب.
لا يزال الفراغ حتى اليوم مفهومًا محوريًّا في سعينا لفهم الكون، لكننا أدركنا أنه أبعد ما يكون عن كونه مجرد مساحة خالية تماما. فقبل أكثر من قرن، كشفتْ نظرية الجاذبية التي وضعها ألبرت أينشتاين أن الزمكان يتمدد وينحني بفعل المادة التي يحتويها، ثم جاءتْ ميكانيكا الكم لتقدّم فكرة "الجسيمات الافتراضية"، وهي جسيمات تظهر وتختفي لحظيًّا داخل الفراغ، مما يجعل "العدم الخالص" يبدو كحساء غامض وغير ملموس يفور بلا انقطاع.
لا شك أن ما نعرفه اليوم عن الفراغ كان لِيُذهل ديموقريطس، لكنني على يقين من أن ما خفي كان أعظم، وأن الغوص في الأعماق لم يبلغ منتهاه بعد. فقد أمضيتُ أربعة عقود من عمري في محاولة التوفيق بين نظرية أينشتاين في الجاذبية وميكانيكا الكم. وفي النهاية قادتني الرحلة الطويلة إلى استنتاج مدهش: ثمة بنية أخرى، غنية ومخبوءة، كامنة في قلب الفراغ نفسه، يمكن تتبّع جذورها إلى كيانات شبحية تُعرف باسم "الثقوب السوداء الافتراضية".
يمتد تأثير هذه "البُنى الخفية" عبر الكون بأسره، إذ تصل بين أجزاء الزمكان (الزمان والمكان) بروابط خفية تُفضي في النهاية إلى تعثر نظرية أينشتاين وعجزها عن الإحاطة بكل شيء. لكنها في الوقت نفسه تُشكّل جسرًا يصل بين أصغر المقاييس (عالم الكم) وأوسعها (عالم الجاذبية والكون). والذي قد يفتح بابًا جديدًا للتأمل هو أنني بدأت أُدرك مؤخرًا كيف يمكن أن تكون هذه الخاصية الخفية الكامنة في نسيج الزمكان هي نفسها مصدر "الطاقة المظلمة"، تلك القوة الغامضة التي تُمزِّق أوصال الكون وتدفعه نحو التمدد المتسارع، والتي أربكت عقول الفيزيائيين لعقود.
لفكّ طلاسم هذا اللغز الكوني، يجب أن نبدأ من الثقوب السوداء كما تصفها نظرية أينشتاين في الجاذبية، أو ما يُعرف بالنسبية العامة. تتكوّن هذه الأجسام العملاقة عندما تنفد طاقة نجم ما، فينهار على نفسه، وتنكمش كتلته الهائلة إلى نقطة ذات كثافة لا نهائية، فينفتح فراغٌ سحيق في نسيج الزمكان، هاويةٌ سحيقة حتى الضوء يعجز عن الإفلات من قبضتها. أما الحدّ الذي يفصل هذه العتمة عن بقية الكون، فيُعرف بـ"أفق الحدث"، وقد يبلغ من الاتساع ما يثير الدهشة: فلو انهارت شمسنا وتحولت إلى ثقب أسود، لامتدّ أفقها إلى ما يعادل حجم مدينة صغيرة.
إننا على دراية واسعة بالثقوب السوداء، حتى إننا التقطنا مؤخرًا صورًا للجزء الخارجي من إحداها، وهو الشكل الذي تنبأت به نظرية النسبية العامة لأينشتاين. ولكن إذا خضنا غمار التجربة بعمق أكبر وتوغلنا فيما وراء أفق الحدث، قد نكتشف أن النسبية العامة تتهاوى بينما تعتلي فيزياء الكم دفة القيادة. والسبب في ذلك هو أن مبادئ الفيزياء التي نعقد عليها رجاءنا الأكبر لا تتوافق مع الهاوية السحيقة التي تنبأت بها نظرية أينشتاين.
انطلقت شرارة هذا التساؤل عام 1973، عندما طرح جاكوب بيكينشتاين من جامعة برينستون سؤالًا لافتًا: ماذا سيحدث إذا ألقينا صندوقًا من الغاز في ثقب أسود؟ يحتوي الغاز على قدر من الإنتروبيا، وهي مقياس للفوضى الكامنة في حركة ذراته وتبعثرها العشوائي عبر الفراغ. وبالتالي، عندما يختفي الصندوق في مركز الثقب الأسود، تلك النقطة ذات الكثافة اللامتناهية، يبدو أن تلك الإنتروبيا تتلاشى تمامًا في غياهب المجهول. إلا أن ذلك يتعارض مع القانون الثاني للديناميكا الحرارية، وهو أحد أهم المبادئ في الفيزياء، الذي ينص على أن الإنتروبيا لا يمكن أن تختفي أو تنقص في نظام مغلق (بل يجب أن تظل كما هي أو تزداد*).
اقترح بيكنشتاين أن فقدان الإنتروبيا الناتج عن سقوط صندوق الغاز في الثقب الأسود يُعوَّض بزيادة في الإنتروبيا الكلية للثقب نفسه. فعندما يبتلع الثقب الأسود الصندوق، يتمدد أفق الحدث ليشغل مساحة أكبر، وقد جادل بيكنشتاين بأن إنتروبيا الثقب الأسود تتناسب طرديًّا مع هذه المساحة. ورغم بساطة الطرح، فتحت فكرة إنتروبيا الثقب الأسود كما صاغها بيكنشتاين بابًا لسلسلة من التساؤلات المحيّرة.
أولًا، في إطار النسبية العامة، يُعتَبر الثقب الأسود فراغًا خالصًا، فكيف يمكن إذًا الحديث عن اضطراب أو فوضى بداخله؟
ثانيًا، كانت قيمة هذه الإنتروبيا ضخمة على نحو مثير للدهشة.
ثالثًا، إذا كان للثقب الأسود إنتروبيا، فذلك يعني أنها -مثل قطعة من الفحم المتّقد- لابد لها من امتلاك درجة حرارة، وبالتالي إصدار إشعاع حراري. لكن هذا يتعارض مباشرة مع ما تنص عليه النسبية العامة من استحالة أن يفلت شيء من قبضة الثقب الأسود.
كان ستيفن هوكينغ من بين الفيزيائيين الذين حاولوا فهم هذه المفارقات (المتعلقة بإنتروبيا الثقب الأسود)، وفي عام 1974، أزاح الستار عن اكتشاف مذهل: إذا ما نظرنا إلى الأمر من منظور كمّي، فسنكتشف أن الثقب الأسود يُصدِر إشعاعًا بالفعل. فقد وجد هوكينغ أزواجًا من الجسيمات الافتراضية (وهي جسيمات تظهر وتختفي بسرعة كبيرة جدًّا) تنشأ بالقرب من أفق الحدث. وعندما تتمدد بنية الزمكان في تلك المنطقة -كما تصفها النسبية العامة- تتحول بعض هذه الجسيمات إلى جسيمات حقيقية، يسقط أحد الجسيمَين داخل الثقب الأسود، بينما يهرب الآخر إلى الخارج، ويُعرَف هذا الإشعاع الخارج باسم إشعاع هوكينغ.
لكن للأسف، لم يدم وهج هذا الاكتشاف طويلًا. ففي العام التالي، واجه هوكينغ مأزقًا جديدًا في الآلية التي اقترحها لإشعاع الثقوب السوداء. تخيَّل أننا لدينا ثقبان أسودان متطابقان في الكتلة، لكن كلًّا منهما نشأ عن نجم مكوّن من عناصر مختلفة. في ظل هذا السيناريو، سيكون شكل الزمكان المحيط بأفق الحدث متماثلًا في كلا الثقبين، وبالتالي فإن الإشعاع المُنبعث من كلٍّ منهما سيكون متطابقًا.
ونتيجة لذلك، لا يمكننا عبر هذا الإشعاع التمييز بين الأصلين المختلفين لهذين الثقبين. وهنا تبرز الإشكالية: إذا لم يحمل الإشعاع أي أثر لمصدره، فهذا يعني أن المعلومات قد ضاعت إلى الأبد في جوف الثقب الأسود، وفي ذلك ما يهز ركنًا ثابتًا من أركان الفيزياء، وهو أن لا شيء من المعلومات يضيع في الكون.
ومنذ ذلك الحين، لم يكفّ المنظّرون عن البحث المحموم لإيجاد طريقة تُتيح للمعلومات الإفلات من قبضة الثقب الأسود. وخلال السنوات الأخيرة، طُرحتْ عدة حلول ممكنة لهذه المعضلة، لكنني أرى أن نظرية الأوتار تقدِّم المسار الأكثر إقناعًا. فهي لا تملك القدرة فقط على حلّ ما يُعرف بمفارقة هوكينغ حول فقدان المعلومات. بل إن التعمّق في تأمّل هذه المسألة قادني إلى أفكار أخرى بالغة الإثارة والغرابة.
تقوم نظرية الأوتار على فكرة مفادها أن الجسيمات الأولية، التي طالما اعتُبرت نقاطًا بلا أبعاد، هي في حقيقتها -عند الفحص الدقيق- أجسام ممتدة ذات بعد واحد، تُشبه الأوتار المهتزّة. تشمل النظرية أيضًا كيانات ذات أبعاد متعددة تُعرف باسم "الأغشية"، تتفاوت في أبعادها. وتطمح هذه النظرية إلى توحيد ميكانيكا الكم مع الجاذبية في إطار نظرية واحدة شاملة تُدعى الجاذبية الكمّية.
في منتصف تسعينيات القرن الماضي، تمكّن منظّرو الأوتار من إثبات أن نموذجًا مبسّطًا لثقبٍ أسود مكوّن من أوتار وأغشية يمتلك الإنتروبيا ذاتها التي تنبّأ بها بيكنشتاين. وبعد ذلك بوقت قصير، وفي عمل مشترك مع سوميت داس، الذي كان يعمل حينها في معهد تاتا للأبحاث الأساسية بالهند، استخدمتُ نهجًا مشابهًا لحساب معدل الإشعاع الصادر عن مثل هذه الأجسام، فوجدنا أنه يتطابق مع ما توصّل إليه هوكينغ. وأوحت لنا كل هذه النتائج باقترابنا من الحل الحقيقي لمفارقة المعلومات.
ومع ذلك، لم يكن لدينا بعد تصور واضح عن الشكل الدقيق الذي قد تتخذه الثقوب السوداء المؤلفة من أوتار. كما لم نكن نعرف على وجه التحديد كيف تُخزِّن تلك الثقوب السوداء إنتروبيتها. في تلك المرحلة، كنت قد قضيت ما يقارب عشر سنوات في مصارعة هذه المعضلة، لأصطدم بالجدار ذاته في كل مرة. ساد في ذلك الحين اقتناع راسخ مفاده أن تأثيرات الأوتار تقتصر على المقاييس الدقيقة جدًّا، وتحديدًا عند طول بلانك (1.6 × 10⁻³³ سنتيمترات)، وهو المدى الذي يهيمن فيه كلّ من ميكانيكا الكم والجاذبية معًا، وهو ما يُحيلنا إلى السؤال الأهم: كيف إذن يمكن لكيانات صغيرة إلى هذا الحد أن تُفسِّر ثقوبًا سوداء بهذه الضخامة!؟
في ليلة التاسع والعشرين من مايو/أيار عام 1997، كنتُ في أحد المستشفيات، أُراقب طفلتي المولودة حديثًا. ولتمضية الساعات الطويلة، شرعتُ في محاولة حساب ما قد يحدث إذا اجتمع عدد هائل من الأوتار والأغشية لتكوين ثقب أسود. وعندما انتهيت من الحسابات، جاءت النتيجة صادمة؛ بدا أن حجم هذا الثقب الأسود موغل في الضخامة بفعل العدد الكبير من الأوتار والأغشية المشاركة في تكوينه.
تبيّن أن الثقوب السوداء المكونة من أوتار مرنة تتصرف بطريقة مختلفة تمامًا عن تلك المصنوعة من جسيمات، كما تصفها النسبية العامة. فوفقًا للنسبية، عندما نضغط الجسيمات، تنهار إلى نقطة تفرد محاطة بأفق الحدث (أي نقطة كثافة لا نهائية لا يفلت منها شيء*). أما في حالة الأوتار، فهي لا تنهار إلى نقطة، بل تنتفخ بدلًا من ذلك. والطاقة الناتجة عن الضغط لا تُحوِّل الأوتار إلى نقطة، بل تنساب لتنسج من الأوتار بنًى متشابكة ومعقّدة تُدعى الكرات الوبرية، أو الكرات الزغبية، التي تمتد حتى أفق الحدث نفسه.
لاحقًا، وبالاشتراك مع زميلي أوليغ لونين، الذي كان حينها في جامعة ولاية أوهايو، تمكّنا من التوصّل إلى الأشكال الفعلية لأبسط أنواع الثقوب السوداء المبنية على فكرة "كرات الوبر". وقد جرى لاحقًا توسيع هذا العمل ليشمل مختلف أنواع الثقوب السوداء، على يد كلٍّ من يوسف بِنا (من جامعة باريس-ساكلاي في فرنسا)، ونيك وارنر (من جامعة جنوب كاليفورنيا)، وغيرهما. وتبيّن أن كل واحد من هذه الثقوب السوداء "الوترية" يمكن أن يوجد في عدد كبير من الأشكال الممكنة، أي أن هناك عدة تكوينات مختلفة لكرات الوبر التي يمكن أن تمثّل الثقب الأسود نفسه. وهو ما يشبه تمامًا ما يحدث مع غاز داخل صندوق: فمثلًا، يمكن لجزيئات الغاز أن تتخذ عددا لا يحصى من الأشكال، ومع ذلك تظل كمية الغاز ثابتة.
تبدو هذه النتائج كأنها أجابت أخيرًا عن اللغز الذي حيّر العلماء طويلًا: أين تُخزَّن الإنتروبيا (الكمّ الكبير من المعلومات*) داخل الثقب الأسود؟ بحسب نموذج "كرات الوبر"، فإنها تكمن في الأشكال المتعددة لتلك الكرات، أي أن كل شكل من هذه الأشكال يمثل حالة كمّية مختلفة للثقب الأسود.
الأهم من ذلك هو أن هذا النموذج قدّم حلًّا حقيقيًّا لمفارقة المعلومات التي طرحها ستيفن هوكينغ. فبحسب نموذج هوكينغ، ينبعث إشعاع عشوائي من الفراغ حول أفق الحدث، ولا يحمل أي معلومات عما يحدث داخل الثقب الأسود (مما يعني أن المعلومات تُفقد، وهذا يتعارض مع قوانين الفيزياء*). أما في نموذج كرات الوبر، فالإشعاع لا يخرج من الفراغ، بل من السطح الخيطي للثقب الأسود نفسه. وهذا الفرق جوهري، لأن الإشعاع في هذه الحالة يحمل بصمة أو شيفرة معلوماتية، وبالتالي لا تُفقَد المعلومات، بل يمكن نظريًّا استرجاعها أو تتبّعها.
لكن رغم كل التقدّم، ظلّ هناك سؤال جوهري لم يُحسَم بعد: كيف يتحوّل النجم المنهار إلى كرة وبرية؟ بحسب نظرية النسبية العامة لأينشتاين، التي صمدت أمام كل اختبار حتى الآن، فإن النجم عندما ينهار على نفسه، يُفترض أن يُشكّل فراغًا على هيئة حفرة عميقة في نسيج الزمكان، أي ثقبًا أسودَ تقليديًّا، وليس كرة من الأوتار المتشابكة. فما الذي يؤدي إذًا إلى فشل نظرية أينشتاين في هذا السياق بالذات؟ وما العامل الذي يُغيّر قواعد اللعبة، ويفتح الباب أمام نظرية الجاذبية الكمومية لتحلّ محلها؟
تأتي الإجابة على هذا اللغز من نظرية الأوتار، التي تُظهِر أن ثمة بنية خفية داخل الفراغ نفسه، (أي أن الفراغ الذي كنا نظنه خاليًا تمامًا ليس كذلك*). وهذه البنية الخفية قادرة على قلب مفهومنا التقليدي للزمكان من جذوره. وقد يبدو أن ما سيأتي من أفكار تالية أشبه بقصة خيالية أو فرضية مبالغ فيها، إلا أن الأسس الرياضية والفيزيائية التي تقوم عليها هذه الأفكار ليست ضربًا من الخيال. لقد خضعت هذه الرؤية لتحليل معمّق وتدقيق علمي صارم، وهي من حيث المبدأ قابلة للتطبيق ضمن الإطار النظري.
ومن أجل استيعاب آلية عمل "كرات الوبر"، علينا أن نعود خطوة إلى الوراء لفهم الجسيمات الافتراضية فهمًا أعمق. غالبًا ما يُقال إن هذه الجسيمات الافتراضية – وهي "نسخ مؤقتة" من الجسيمات الحقيقية – تظهر وتختفي من الوجود بصورة عابرة، إلا أن ذلك ليس توصيفًا دقيقًا لهذه الجسيمات. ففي ميكانيكا الكم، يُنظر إلى كل المادة والطاقة في الكون على أنها اهتزازات أو اضطرابات داخل حقول كمّية، وهي الحقول الأساسية التي تُشكِّل الواقع نفسه. وبالتالي، فالجسيمات الافتراضية ليست كائنات تظهر وتختفي، بل هي اضطرابات صغيرة جدًا داخل تلك الحقول الكمّية.
وعلى غرار الجسيمات الحقيقية، يمكن أن تكون هذه الجسيمات الافتراضية "متشابكة كموميًا" ببعضها (أي تتواصل بشكل غامض وفوري مهما كانت المسافة*). على سبيل المثال، يتجاذب الإلكترون وقرينه المضاد (البوزيترون)، ويدوران حول بعضهما في حالة تُعرف بـ"الحالة المقيدة". وبطريقة مشابهة، يميل الإلكترون الافتراضي إلى الظهور قريبًا من البوزيترون الافتراضي، بسبب ما يُعرف بظاهرة التشابك الكمّي الغريبة.
على هذا النحو، تترك الحالات المقيدة للجسيمات الحقيقية بصمتها في نسيج الزمكان، على هيئة نسيج بالغ التعقيد من الارتباطات الافتراضية. وتعمل معظم هذه الروابط الكمومية على مقاييس متناهية الصغر، لا تملك من التأثير ما يكفي ليطال الثقوب السوداء أو يغيّر في سلوكها. لكن يبقى السؤال الأهم هنا: هل يمكن أن توجد حالات مقيّدة من نوع آخر!؟ حالات تمتد نسخها الافتراضية لتبلغ من القوة ما يُمكّنها من التأثير في الثقوب السوداء؟ والأعمق من ذلك: هل يمكن أن تمتد آثارها إلى نطاق أوسع، فتؤثر على نسيج الكون بأسره؟
كما رأينا سابقًا، تدفعنا أسباب قوية للاعتقاد بأن الثقوب السوداء عبارة عن "كرات وبرية" مصنوعة من أوتار كمومية. وبما أن الأوتار تشبه الجسيمات الأولية، فمن المنطقي أن تكون لها أيضًا نسخ افتراضية، أي نسخ غير حقيقية، لكنها موجودة في الفراغ الكمومي على شكل تموّجات خافتة تُسمى "كرات وبر افتراضية"، أو يمكن تسميتها مجازًا ثقوبًا سوداء افتراضية.
وما دامت الثقوب السوداء الحقيقية يمكن أن تتفاوت في أحجامها من الصفر إلى اللانهاية، فهذا يعني أن النسخ الافتراضية منها كذلك تتجلى بكل الأحجام الممكنة، لا تُقيدها حدود ولا تُحصيها مقاييس. بل ما هو أدهى، أن عدد هذه الثقوب السوداء الافتراضية يفوق كل تصوّر، بسبب ما يُعرف بـإنتروبيا بيكنشتاين (وهي مقياس لعدد الحالات الممكنة للثقب الأسود*).
وبالطريقة ذاتها التي تنسج بها الجسيمات الافتراضية شبكة خفيةً من الترابط الكمومي في الفراغ لا تكاد تُرى لصغر مداها، تفعل كراتُ الوبر الافتراضية الأمر ذاته، لكن خيوطها تمتدُّ بعيدًا، لتغمر كل المقاييس الممكنة، من أدقِّ الذبذبات إلى أوسع أرجاء الكون.
قد تكون هذه الترابطات الكمومية دقيقة وخفية، لكنها تحمل في طيّاتها آثارًا بالغة الأهمية. ولمعاينة تلك الآثار بوضوح، دعونا نُعيد النظر في السؤال الذي طرحته سابقًا: كيف يتحوّل نجمٌ منهار إلى ثقب أسود!؟ أثناء انهيار النجم وتكوُّن الثقب الأسود، يحدث تمدّد هائل في نسيج الزمكان. وبالتالي يجب أن تُعاد معايرة هذه الروابط الكمومية بما يناسب التباعد الجديد. ولكي يحدث ذلك، لا بد من تبادل إشارات فيزيائية عبر منطقة الثقب الأسود. لكن هنا تظهر مشكلة: في المنطقة التي تنهار فيها النجوم ويُعاد تشكيل الزمكان تشكيلًأ عنيفًا وجذريًا، يُمنع تبادل الإشارات بسرعة تفوق سرعة الضوء وفقًا لنظرية النسبية العامة.
ونتيجة لذلك يتعذَّر على التقلّبات الكمومية في قلب هذه "الحفرة" بناء الروابط المطلوبة، بمعنى أنها تعجز عن تشكيل فراغ كمومي مستقر ومنخفض الطاقة كما يحدث عادة. وبدلًا من ذلك، تتشابك هذه التقلّبات مع الزمكان نفسه، كما لو كانت "تعقده" أو "تربطه في عُقد"، حتى ينهار. والنتيجة لا تكون فراغًا متمددًا، بل فوضى من الخيوط الكمومية المتشابكة التي تُعرَف بالكرات الوبرية الخيطية.
باختصار، تفشل النسبية العامة عندما يتمدّد الزمكان بسرعة مفرطة. والأمر ذاته ينطبق على الكون بأسره وهو يتمدد على نطاق واسع، الأمر أشبه بمشاهدتنا لنجم ينهار لكن بصورة معكوسة. ففي هذا السياق الكوني الهائل، يستغرق تبادل الإشارات بين نقطتين في الفراغ تفصلهما مليارات السنين الضوئية وقتًا طويلًا جدًا، ما يمنع كرات الوبر الافتراضية من ترسيخ الروابط الكمومية الصحيحة عبر هذه المسافات الشاسعة.
وهذا يعني أن الكون على هذه المقاييس الواسعة، ليس فراغًا تامًا كما كنا نظن، بل يحمل في طياته طاقة كمومية فائضة. وعندما أجريتُ الحسابات ونشرت نتائجها في ورقة بحثية في ديسمبر/ كانون الأول، اكتشفتُ أن المقاييس التي تظهر عندها هذه الطاقة الكمومية الزائدة، تتطابق تمامًا مع تلك التي نرصد عندها آثار الطاقة المظلمة.
في أواخر التسعينيات، بدأ الفلكيون يشتبهون في وجود طاقة مظلمة بعدما لاحظوا أن النجوم المنفجرة البعيدة المعروفة باسم المستعرات العظمى أو (السوبرنوفا) بدت أخفت مما ينبغي. وقد فسّروا هذا بأن تلك المستعرات العظمى كانت أبعد مما توقعوا، لأن الفراغ الكوني الذي يفصلنا عنها ظل يتمدد. بمعنى آخر، ثمة قوة غامضة تدفع أطراف الكون إلى التباعد بوتيرة متسارعة.
ولكي يفسر علماء الكون هذه الظاهرة، أدخلوا مفهوم الطاقة المظلمة في معادلات النسبية العامة، لكن دون فهم واضح لأصلها الحقيقي. أما الآن، فيبدو أن الطاقة الكمومية الزائدة التي تولّدها كرات الوبر الافتراضية هي المحرك الخفي وراء هذا التمدد الكوني المتسارع.
تدعم الملاحظات الفلكية الحديثة هذه الفكرة بصورة أكبر. فـ"توتر هابل" هو مصطلح يُطلَق على التفاوت بين مُعدّل تمدد الكون كما يبدو من المشاهدات الحالية، والمعدل المتوقع وفقًا لأفضل نموذج كوني لدينا. ولحل هذا التناقض، اقترح العلماء وجود دفعة مفاجئة وحادّة من الطاقة المظلمة الإضافية، أُطلق عليها اسم "الطاقة المظلمة المبكرة"، حدثت قبل مليارات السنين، عندما تغيّر الكون من حالةٍ يغلب عليها الإشعاع إلى أخرى يغلب عليها الغبار الكوني.
وتقترح كرات الوبر الافتراضية تفسيرًا طبيعيًا لهذا النوع من الطاقة: فمعادلات تطور الكون تُظهر أن الكون الذي تهيمن عليه مادة "الغبار" يتمدد بوتيرة أسرع من كون تغلب عليه الإشعاعات. وكلما تسارع هذا التمدد، تضاءلت قدرة كرات الوبر الافتراضية على إنشاء روابط كمومية فيما بينها. وهكذا، تنشأ دفعة إضافية من الطاقة الكمومية في الفراغ، تحديدًا عند مرحلة التحوّل من الإشعاع إلى الغبار، وهي دفعة بحجم مناسب تمامًا لحل معضلة توتر هابل.
في النهاية، تعمل تلسكوبات حديثة، مثل جهاز التحليل الطيفي للطاقة المظلمة، على قياس الطاقة المظلمة بدقة متناهية، ومتابعة كيفية تغيّرها عبر التاريخ الكوني. ويحدوني الأمل في أن نتمكن قريبًا من مطابقة هذه القياسات الدقيقة مع ما تتنبأ به النماذج النظرية للطاقة المظلمة، وخاصة تلك التي تفترض أنها نابعة من البنية الخفية لنسيج الزمكان نفسه.
______________________
* إضافة المترجم
هذه المادة مترجمة عن نيو ساينتست ولا تعبر بالضرورة عن موقف شبكة الجزيرة التحريري