الحدث الإسرائيلي
تُظهر معطيات ديموغرافية حديثة أن وتيرة نمو السكان في "إسرائيل" بلغت أدنى مستوياتها منذ بداية الاحتلال عام 1948، في تحوّل لافت عن الاتجاهات التي سادت لعقود طويلة. ووفق تحليل نشره اليوم مركز تاوب لأبحاث السياسة الاجتماعية في إسرائيل، فإن معدل النمو السكاني في العام الجاري يُقدّر بأقل من 1%، وبنحو 0.9% فقط، في سابقة لم تُسجّل منذ عام 1950، إذ لم ينخفض المعدل خلال تلك الفترة عن 1.5% سنويًا، باستثناء عامين كان التراجع فيهما محدودًا.
ويُعزى هذا التباطؤ إلى تداخل عدة عوامل بنيوية، أبرزها الارتفاع المستمر في عدد الوفيات، وتراجع معدلات الخصوبة، إلى جانب اتساع الفجوة السلبية في ميزان الهجرة، مع ازدياد أعداد المغادرين مقارنة بالقادمين. ورغم صعوبة الحسم في اتجاهات الهجرة على المدى البعيد، فإن الصورة تبدو أكثر وضوحًا في ما يتعلق بالنمو الطبيعي، إذ يشير معدّو الدراسة إلى أن “مرحلة الذروة في النمو الطبيعي في إسرائيل قد انتهت”، وأن هذا المؤشر مرشح لمزيد من التراجع في السنوات المقبلة.
وتستند هذه التقديرات إلى قراءة معمّقة للمعطيات السكانية تتجاوز المؤشرات التقليدية. فعلى الرغم من استقرار عدد الولادات خلال العقد الأخير عند مستوى يقارب 180 ألف ولادة سنويًا، يكشف تحليل اتجاهات الإنجاب وفق الفئات السكانية عن مسار عام من الانخفاض في الخصوبة. ففي أوساط النساء المسلمات والدروز والمسيحيات، تراجعت معدلات الخصوبة بنحو 30% خلال السنوات الأخيرة، في اتجاه ممتد منذ فترة طويلة.
غير أن الجديد، وفق مركز تاوب، يتمثل في ظهور مؤشرات أولية على تراجع متوقّع في الخصوبة أيضًا بين النساء اليهوديات. وتقدّر الدراسة، بالاستناد إلى تحليل أنماط الإنجاب بحسب الفئات العمرية ومحاولة استشراف العدد النهائي للأطفال لكل امرأة، أن ينخفض معدل الخصوبة لدى النساء اليهوديات العلمانيات والتقليديات خلال نحو عقد من الزمن من 1.9–2.2 حاليًا إلى 1.7 طفلًا للمرأة. كما يُتوقع أن يتراجع المعدل لدى النساء المتدينات من 3.74 إلى نحو 2.3 طفلًا، ولدى النساء الحريديات من 6.48 إلى 4.3 أطفال للمرأة.
ورغم بقاء معدلات الخصوبة في الأوساط الحريدية والمتدينة مرتفعة نسبيًا، يشير معدّو الدراسة إلى عامل إضافي لا يقل أهمية، يتمثل في نسبة من لا يستمرون داخل هذه المجتمعات على امتداد حياتهم. وتُظهر معطيات سابقة أن نحو 15% من الأطفال الذين وُلدوا في المجتمع الحريدي يغادرونه عند البلوغ، ما يقلص الأثر الديموغرافي طويل الأمد لمعدلات الإنجاب المرتفعة.
إلى جانب ذلك، يسهم الارتفاع المتواصل في عدد الوفيات في كبح النمو السكاني، وهو اتجاه يُتوقع أن يستمر في السنوات المقبلة، بفعل البنية العمرية للسكان. فقد بدأت خلال الفترة الأخيرة مجموعات عمرية كبيرة من اليهود والعرب بدخول عقدي السبعينيات والثمانينيات، وهي مراحل عمرية ترتفع فيها معدلات الوفاة بشكل حاد، ما يضغط إضافيًا على ميزان النمو الطبيعي.
ومنذ عام 1948، استند النمو السكاني في "إسرائيل" أساسًا إلى الفائض الطبيعي، أي ارتفاع عدد الولادات مقابل عدد وفيات منخفض. أما اليوم، ومع تغيّر هذا الواقع، فإن الحفاظ على معدل نمو سنوي لا يقل عن 1% بات يتطلب ميزان هجرة إيجابيًا، وهو ما لا يتحقق حاليًا. ففي السنوات الأخيرة، سجّلت "إسرائيل" أعلى أعداد للمغادرين في تاريخها، في حين لم يواكب عدد العائدين والمهاجرين هذا الارتفاع. وفي عام 2025 وحده، سُجّل عجز سلبي بنحو 37 ألف شخص بين الداخلين إلى البلاد والمغادرين منها.
وتشير بيانات الأشهر التسعة الأولى من عام 2025 إلى أن عدد المهاجرين إلى "إسرائيل" مرشح لأن يكون الأدنى منذ عام 2013، باستثناء عام 2020 الذي تزامن مع جائحة كورونا. وحتى الآن، فإن غالبية المغادرين هم من غير المولودين في البلاد أصلًا، وبينهم أعداد كبيرة من المهاجرين الذين قدموا عام 2022 على خلفية الحرب في أوكرانيا. غير أن اللافت، وفق المعطيات، هو الارتفاع المطّرد في أعداد الإسرائيليين المولودين في البلاد بين المغادرين: فبعد أن غادر أقل من 20 ألفًا منهم إسرائيل في عام 2022، تجاوز العدد 30 ألفًا في عام 2025.
ومع ذلك، يحذر معدّو الدراسة من قراءة أحادية لهذه الأرقام، إذ ليست كل مغادرة خروجًا نهائيًا، ولا تُعد الهجرة المؤقتة بالضرورة ظاهرة سلبية. ففي بعض الحالات، ولا سيما في الأوساط الأكاديمية والمهنية، قد تشكل حركة “ذهاب وإياب” رافعة لاكتساب خبرات متقدمة، وتعزيز شبكات التعاون العلمي والاقتصادي، والحفاظ على روابط مهنية طويلة الأمد. غير أن المعطيات المتوفرة حتى الآن لا تسمح بالجزم بما إذا كانت الزيادة في أعداد المغادرين ستقترن لاحقًا بارتفاع موازٍ في أعداد العائدين إلى البلاد.
المصدر:
الحدث