آخر الأخبار

قوات الاحتلال تنزع علم الأمم المتحدة وترفع علمها فوق مقر الأونروا بالقدس

شارك

أقدمت قوات الاحتلال الإسرائيلي على نزع علم الأمم المتحدة ورفع العلم الإسرائيلي فوق أحد مقار المنظمة الدولية في القدس الشرقية المحتلة، وذلك خلال اقتحام مقر وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) في حي الشيخ جراح، في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2025. فقد دخلت الشرطة الإسرائيلية، برفقة موظفين من بلدية الاحتلال، إلى المجمع بالقوة، وصادرت معدات وممتلكات تابعة للوكالة، قبل أن تُنزل العلم الأممي وترفع مكانه العلم الإسرائيلي. ونُفِّذ الاقتحام فجرا باستخدام دراجات نارية وشاحنات رافعة، عقب قطع الاتصالات داخل المقر، تمهيدا لبدء عمليات المصادرة.

ومع هذا المشهد غير المسبوق، تبرز أسئلة جوهرية: ماذا بقي للأمم المتحدة من هيبة حين يُنزَع علمها بالقوة؟ وكيف يمكن لمنظمة تُفترض أنها حامية للسلم الدولي أن تدّعي قدرتها على حماية المدنيين إذا كانت عاجزة عن حماية رموزها ومنشآتها؟ ثم هل يمكن فهم هذا الفعل بمعزل عن سياق أوسع شهد استهداف المدارس الأممية في غزة، وتدمير مخيمات اللاجئين في الضفة، وتجريم عمل الأونروا في القدس؟ وهل يمثّل إنزال العلم الأممي خطوة رمزية فحسب، أم إعلانا عمليا بأن إسرائيل لم تعد تعترف بأي سلطة أو مرجعية للقانون الدولي على الأرض؟

الإطار القانوني لحصانة المقرات الدولية

نظريا، يحظى وجود الأمم المتحدة ووكالاتها بحماية قانونية خاصة بموجب القانون الدولي. منذ تأسيس المنظمة الأممية، اعتمدت اتفاقية امتيازات وحصانات الأمم المتحدة لعام 1946 التي تنص على حرمة مقرات الأمم المتحدة وممتلكاتها في أي بلد. يعني ذلك عدم جواز اقتحامها أو تفتيشها أو مصادرتها من قبل سلطات الدولة المضيفة. كما تُعفي الاتفاقيات الدولية مقرات الأمم المتحدة من الضرائب والرسوم المحلية، إدراكا لطبيعة المنظمة الدولية غير الربحية ووظيفتها الإنسانية. هذه الحماية القانونية ليست مجرد إجراءات شكلية، بل جوهرها الحفاظ على حياد الأمم المتحدة وسلامة عملياتها، فعلم الأمم المتحدة الذي يُرفع فوق مقراتها يُعتبر رمزا للحصانة والحماية الدولية.

وقد أكّد القضاء الدولي مرارا على إلزامية احترام هذه الحصانة؛ ففي تشرين الأول/ أكتوبر 2023 مثلا، أصدرت محكمة العدل الدولية رأيا استشاريا يذكّر إسرائيل صراحة بواجبها القانوني في تسهيل جهود الإغاثة التابعة للأمم المتحدة في غزة والتعاون مع وكالات المنظمة في الأراضي المحتلة. هذه الالتزامات تقع على إسرائيل بصفتها دولة عضو في الأمم المتحدة وموقعة على الاتفاقيات ذات الصلة، ما يجعل أي إخلال بها انتهاكا مباشرا للقانون الدولي.

رمزية الأمم المتحدة والحماية الدولية

يمثل وجود الأمم المتحدة في مناطق النزاع رمزا للحماية الدولية وحياد المجتمع الدولي. فمنذ عقود، اعتُمد العلم الأزرق للأمم المتحدة كإشارة للمواقع المحمية دوليا، بدءا من مقار المنظمة ومخيمات اللاجئين وحتى سيارات الإسعاف والقوافل الإنسانية التابعة لها. تاريخيا، اكتسبت هذه الرمزية قوة رادعة؛ إذ تُوفر ملاذا آمنا للمدنيين تحت راية الأمم المتحدة وتحذّر أطراف النزاع من استهدافها. لكن في الحالة الفلسطينية، بدأت إسرائيل تستهدف هذه الرمزية بشكل متزايد. إن نزع العلم الأممي بالقوة من فوق مبنى تابع للأمم المتحدة لا يمثل مجرد حادث بروتوكولي؛ بل هو رسالة برفض أي وصاية أو حماية دولية للفلسطينيين. إنه بمثابة إعلان بأن المرجعية الوحيدة على الأرض هي قوة الاحتلال.

وكالة الأونروا واتفاقية المقر:

تعد وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) أبرز مثال على التواجد الأممي في فلسطين التاريخية، وهي محور الحدث الأخير. أنشأت الأمم المتحدة الأونروا عام 1949 لتقديم الإغاثة الأساسية للاجئي فلسطين بعد نكبة 1948. ومنذ ذلك الحين تعمل الوكالة في مناطق اللجوء بما فيها قطاع غزة والضفة الغربية (بما فيها القدس الشرقية) إلى جانب دول الجوار. وقد نظّم وجود الأونروا في الأراضي المحتلة باتفاقيات وترتيبات مع السلطات المعنية؛ فبعد احتلال إسرائيل للضفة وغزة عام 1967، طلبت الحكومة الإسرائيلية من الأونروا مواصلة عملياتها في المناطق التي باتت تحت سيطرتها وتعهدت بتسهيل مهمتها. جاء ذلك في تبادل رسائل رسمي بين المفوض العام للأونروا آنذاك لورنس ميشلمور والمسؤول الإسرائيلي مايكل كوماي (وهو ما يُعرف بـ"اتفاقية كوماي-ميشلمور")، حيث أكد الجانب الإسرائيلي أن هذه الترتيبات المؤقتة ستبقى نافذة إلى أن يتم استبدالها أو إلغاؤها باتفاق آخر. وبموجب هذا التفاهم، التزمت إسرائيل بتسهيل عمل الأونروا قدر المستطاع مع مراعاة الاعتبارات الأمنية التي لطالما أثارتها إسرائيل.

وخلال العقود التالية، ورغم التوترات، حافظت الأونروا على حضورها بوصفها شريان حياة لملايين اللاجئين الفلسطينيين. فهي تدير المدارس والعيادات وتوزع المعونات الغذائية وتوفر خدمات اجتماعية في مخيمات اللاجئين، وبالتالي تحمل على عاتقها دورا إنسانيا واستقراريا بالغ الأهمية. لهذا فإن الاتفاقيات الدولية، ومنها اتفاقية امتيازات وحصانات الأمم المتحدة المشار إليها، تشمل الأونروا وموظفيها ومقراتها ضمن نطاق الحماية. فالموظفون يتمتعون بحصانات دبلوماسية نسبية، ومرافق الأونروا مصونة من التدخلات المحلية ومن الضرائب والرسوم، ويُفترض بالسلطات المحلية (بما فيها سلطة الاحتلال) احترام وضع الوكالة وحرمة منشآتها.

على أرض الواقع، كثيرا ما اشتكت إسرائيل من الأونروا واتهمتها باتخاذ مواقف منحازة أو غض الطرف عن نشاطات "إرهابية"، وهي اتهامات نفتها الوكالة مرارا. وسعت حكومات إسرائيلية بدعم بعض حلفائها إلى تقليص دور الأونروا أو حتى إنهائها، لكنها أخفقت في تحقيق ذلك. فقد ظل قرار استمرار الوكالة بيد الجمعية العامة للأمم المتحدة التي تجدّد تفويض الأونروا دوريا بأغلبية ساحقة، وكان أحدثها تمديد الولاية حتى عام 2028.

السلوك الإسرائيلي من غزة والضفة إلى القدس:

شهدت السنوات الأخيرة تصاعدا في سلوك إسرائيل العدائي تجاه الوجود الأممي في الأراضي الفلسطينية، بلغ ذروته في حادثة العلم بالقدس. هذا السلوك اتخذ أشكالا مختلفة عبر المناطق:

ماذا بقي للأمم المتحدة من هيبة حين يُنزَع علمها بالقوة؟ وكيف يمكن لمنظمة تُفترض أنها حامية للسلم الدولي أن تدّعي قدرتها على حماية المدنيين إذا كانت عاجزة عن حماية رموزها ومنشآتها؟

في قطاع غزة: خلال الحرب الأخيرة على غزة (بدءا من تشرين الأول/ أكتوبر 2023)، تعرضت مرافق الأمم المتحدة ولا سيما مدارس الأونروا التي تحولت لمراكز إيواء؛ لقصف متكرر. سقط مئات المدنيين خلال قصف مواقع أونروا، حتى موظفو الأونروا أنفسهم سقط منهم عشرات الضحايا أثناء أدائهم مهامهم الإنسانية. وقد أعلنت الأمم المتحدة مرارا أنه "لا مكان آمن في غزة" بما في ذلك مبانيها، واعتبرت الاستهداف المستمر لمنشآت تحمل شارة الأمم المتحدة استخفافا صارخا بالحصانة الأممية والقانون الإنساني. رغم ذلك، استمرت العمليات الإسرائيلية بضراوة وبررتها بوجود عناصر مقاومة أو مخازن أسلحة قرب بعض المنشآت، وهي ذرائع لا تعفيها من المسؤولية القانونية عن حماية المدنيين ومقار الإغاثة.

في الضفة الغربية: لم يكن الوضع أقل سوءا، وإن اختلف السياق؛ إذ واجهت وكالات أممية، وفي مقدّمها الأونروا وأوتشا، تضييقات إسرائيلية مزمنة شملت عراقيل بيروقراطية، وقيودا على حركة الموظفين والمساعدات، إضافة إلى اعتقالات وإصابات طالت عاملين دوليين، ما قيّد قدرتها على أداء مهامها. وبالتوازي، تعرّضت مخيمات اللاجئين في جنين وطولكرم ونور شمس لموجة غير مسبوقة من التدمير والتهجير، شملت أوامر بهدم عشرات المباني السكنية وتدمير مئات الوحدات وتهجير آلاف العائلات، حتى تحوّلت بعض المخيمات إلى مناطق شبه خالية من الحياة المدنية. وقد وصفت تقارير أممية هذه التطورات بأنها أكبر موجة تهجير في الضفة الغربية منذ عام 1967، بما يعكس انتقال السياسة الإسرائيلية من تعطيل العمل الإنساني إلى هندسة ديموغرافية تستهدف تفكيك المخيمات وحرمان سكانها من الاستقرار والعودة.

في القدس الشرقية المحتلة: توّجت سلسلة الاستهدافات بالإجراء الأخطر في مدينة القدس المحتلة. منذ 2024 اتخذت إسرائيل خطوات تصعيدية في القدس، فأقرّت قانونا يحظر الأونروا داخل ما تعتبره أراضيها، ما اضطر الوكالة لإغلاق مكاتبها مطلع 2025. ثم جاءت ذروة هذه الحملة في كانون الأول/ ديسمبر 2025 بالاقتحام العلني لمقر الأونروا في الشيخ جراح، تحت ذرائع واهية مثل ديون ضرائب بلدية رغم أن الأمم المتحدة معفاة من الضرائب بحكم القانون. وبالفعل نُفّذ الاقتحام وصودرت موجودات المكتب، وأُنزل علم الأمم المتحدة ورُفع العلم الإسرائيلي مكانه.

هذا التطور في القدس يحمل دلالات خطيرة، فهو أول تحدٍّ مباشر وصريح لرمزية الأمم المتحدة بهذا الشكل داخل الأراضي المحتلة والخاضعة لسيطرة إسرائيل الكاملة. وقد نددت الأمم المتحدة بشدة بهذا الاقتحام ووصفت الخطوة بأنها "انتهاك صارخ لحرمة مقرها بموجب القانون الدولي.

وأكد المفوّض العام للأونروا، فيليب لازاريني، أنّ مقر الوكالة في القدس يظل منشأة أممية خاضعة للحصانة الدولية مهما فُرضت عليه إجراءات أو تشريعات محلية، مشددا على أن أي محاولة إسرائيلية لنزع صفته الأممية تفتقر إلى أي قيمة قانونية، لأن وضع مقار الأمم المتحدة تحكمه اتفاقيات دولية تعلو على القانون الداخلي للدول. وجاءت تصريحاته في بيان رسمي نُشر صباح 8 كانون الأول/ ديسمبر 2025 عبر منصة إكس، ردّا على اقتحام قوات الاحتلال مقر الأونروا في الشيخ جراح، وإنزال العلم الأممي ورفع العلم الإسرائيلي مكانه، ومصادرة ممتلكات الوكالة وقطع الاتصالات داخل المجمع. وحذّر لازاريني من أنّ اللجوء إلى تشريعات محلية لتجريم عمل الأونروا أو مصادرة منشآتها يمثّل محاولة لإلغاء الحصانة الدولية، وهو أمر مستحيل قانونيا، وينطوي على سابقة خطيرة تُقوّض أسس النظام القانوني الدولي.

هل تتساوق الدول مع هذه الدعوات والإجراءات؟

أمام هذه التطورات، يبرز سؤال حول موقف بقية الدول: هل تؤيد أي دولة المسعى الإسرائيلي لـ"تجريم" الحماية الدولية وإخراج الأمم المتحدة من المشهد الفلسطيني؟ الواقع أن الغالبية العظمى من المجتمع الدولي رفضت ذلك صراحة، فعندما طرحت إسرائيل مشروع قانون حظر الأونروا في أواخر 2024، أصدرت عدة دول غربية حليفة بيانات قلق وتحذير. فعلى سبيل المثال، أصدر الاتحاد الأوروبي تحذيرا من "عواقب كارثية" إذا حُظر عمل الأونروا؛ وكذلك دعت دول غربية أخرى إسرائيل إلى احترام حصانة الأونروا وعدم إعاقتها.

علّقت بعض الدول بشكل مؤقت تمويلها للأونروا عقب اتهامات إسرائيل بعد تشرين الأول/ أكتوبر 2023، لكنها سرعان ما استأنفته بعد أن أثبتت التحقيقات الأممية بطلان معظم تلك المزاعم. حتى الولايات المتحدة التي جمّدت جزءا من تمويلها آنذاك لم تصل إلى حد تأييد حظر الوكالة، بل ركزت على ضمان حيادها.

يبدو جليا أن التوجه الإسرائيلي لتجريم الوجود الأممي وحماية المدنيين الفلسطينيين دوليا يلقى رفضا واسعا. فقد استمرت الدول المانحة الرئيسة -الأوروبية والعربية وغيرها- في تقديم الدعم المالي (وإن بنسب متراجعة) والتأييد السياسي للأونروا وللأمم المتحدة عموما في الأراضي الفلسطينية، باعتبار ذلك عامل استقرار أساسي. وبينما تواصل إسرائيل حملتها ضد الأونروا، تجد نفسها معزولة في هذا المسعى.

إن نزع علم الأمم المتحدة واستهداف رمزية المنظمة الدولية في القدس لا يعبّر فقط عن اعتداء على هيئة أممية، بل يُعدّ استهدافا مباشرا لحقّ اللاجئين الفلسطينيين نفسه، إذ إن الأونروا ارتبطت وجودا وعدما بقرار الأمم المتحدة رقم 194 القاضي بحقّ العودة، ما يجعل أي مساس بها مساسا بالبنية القانونية التي تحفظ هذا الحق تاريخيا. وعلى الرغم من أن ردود الفعل الدولية أظهرت موقفا سياسيا تضامنيا رافضا لتقويض منظومة القانون الدولي، إلا أن هذا الرد بقي رمزيا أكثر منه فعليا؛ فلو أقدمت أي دولة أخرى على خطوة مشابهة، لكانت ردود الفعل أشد قوة وإجرائية.

وتتّضح خلفية هذا السلوك في أنّ إسرائيل تسعى إلى تفريغ المنظمة الأممية من مضمونها العملي والقانوني في الأراضي المحتلة كمرحلة أولى، تمهيدا لتمديد هذا التفريغ في وقت لاحق ليشمل دول الطوق التي تستضيف الكتلة الأكبر من اللاجئين الفلسطينيين، وفي مقدمتها الأردن وسوريا ولبنان. ومن هنا، فإن هذا النهج لا يمكن اعتباره حدثا معزولا، بل يأتي ضمن سياسة متكاملة ومتواصلة هدفها إعادة تعريف الإطار القانوني الدولي للقضية الفلسطينية، وتحديدا قضية اللاجئين، عبر تحييد الأونروا وتجفيف قدرتها على ممارسة دورها التاريخي.

لقد بات السؤال اليوم أبعد بكثير من حادثة إنزال علم الأمم المتحدة؛ فالمعضلة الحقيقية تكمن في أنّ المنظمة الدولية شهدت، وعلى مرأى من مؤسساتها وهيئاتها، ممارسات أشد خطورة من مجرد استهداف رمزيتها، بدءا من سياسات القتل الواسع، مرورا بعمليات الضمّ، وصولا إلى المعاملة اللا إنسانية للأسرى وفرض الوقائع على الأرض في القدس. وإذا كانت هذه الانتهاكات الجوهرية لم تُقابَل بإجراءات رادعة، فهل بقيت لمقاصد الأمم المتحدة وهيبتها مكانة عملية يمكن الاتكاء عليها؟ إن السؤال لم يعد مرتبطا بحادثة رفع أو إنزال علم، بل بمدى قدرة المنظمة ذاتها على صون المبادئ التي تأسست عليها، ومنع تقويضها حين تُنتهك على هذا النحو السافر والمتكرر.

القدس المصدر: القدس
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا