آخر الأخبار

غزة بين جمود التسوية ووهم الحسم العسكري

شارك

في الوقت الذي تروّج فيه الإدارة الأميركية لتقدم مزعوم في مسار التهدئة في غزة، تكشف تسريبات من داخل واشنطن عن واقع مختلف تمامًا: لا اختراقات حقيقية متوقعة قبل العام المقبل، ولا رؤية واضحة لما بعد المرحلة الأولى من اتفاق تبادل الأسرى الذي جرى في أكتوبر بوساطة أميركية. هذا الاعتراف، الصادر عن مسؤول أميركي طلب عدم الكشف عن هويته، يفضح الفجوة بين الخطاب السياسي المتفائل والوقائع المتجمدة على الأرض.

المرحلة الأولى من الاتفاق، التي جرى تسويقها كإنجاز دبلوماسي، لم تتجاوز كونها إجراءً محدودًا لتبادل أسرى وتخفيف مؤقت لحدة العمليات، دون أن تمس جذور الصراع أو تفتح أفقًا سياسيًا جديًا. ورغم تصريحات المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف ووزير الخارجية ماركو روبيو عن "تقدم ملموس"، فإن الملفات الجوهرية لا تزال عالقة، وعلى رأسها مسألة نزع سلاح حماس، ومستقبل إدارة القطاع، وإمكانية نشر قوة دولية في بيئة عدائية ومعقدة.

إسرائيل، من جهتها، تلتزم الصمت الرسمي حيال الخطوات التالية، بينما تكتفي واشنطن بإحالة الأسئلة إلى وزارة الخارجية، التي تعيد تدوير العبارات نفسها حول "زيادة المساعدات الإنسانية" و"خفض وتيرة القتال" وفق إجابات رسمية على أسئْلة من مراسل القدس . هذا الغموض يعكس غياب إستراتيجية أميركية متماسكة، ويؤكد أن واشنطن تفضّل إدارة الأزمة بدل حلها، خشية الاصطدام مع الحكومة الإسرائيلية أو تحمّل كلفة سياسية داخلية.

التباين داخل المعسكر الأميركي–الإسرائيلي يزداد وضوحًا مع اقتراب زيارة بنيامين نتنياهو إلى منتجع مارالاغو (يوم الاثنين المقبل، 29 كانون الأول الجاري)، حيث من المتوقع أن تظهر الخلافات مع إدارة دونالد ترمب بشكل أكثر علنية. فبينما يرى نتنياهو أن "المهمة لم تكتمل" عسكريًا وأن القضاء التام على حماس لا يزال ممكنًا، يتساءل مقربون من البيت الأبيض عن جدوى استمرار حرب دخلت، بحسب تعبير أحدهم، مرحلة "العوائد المتناقصة".

هذا الجدل لا يقتصر على السياسيين، بل يمتد إلى المؤسسة الأمنية الإسرائيلية نفسها. فبينما تصرّ تيارات يمينية متشددة على أن أي حل يبدأ "بتدمير كامل لحماس"، يحذّر مسؤولون أميركيون سابقون من وهم الحسم العسكري، مؤكدين أن نزع السلاح الكامل لحركة متجذرة اجتماعيًا وسياسيًا في غزة هو هدف غير واقعي، وأن استمرار العمليات لا يؤدي إلا إلى تعميق المأزق.

في المقابل، يدفع المدنيون في غزة الثمن الأكبر لهذا الجمود السياسي. مع دخول الشتاء الثالث على التوالي، يعيش مئات الآلاف في خيام بعد تدمير معظم البنية العمرانية للقطاع. تقارير طبية تؤكد وفاة أطفال بسبب البرد، ومنظمات إنسانية، بينها "أطباء بلا حدود"، لم تحصل بعد على موافقة إسرائيلية لمواصلة عملها. هذه الوقائع تتناقض بشكل صارخ مع الرواية الأميركية عن "تحسن إنساني".

وسط هذا المشهد القاتم، تعود الرهانات الأميركية على دور الحلفاء الإقليميين، وخصوصًا قطر، في دفع المسار قدمًا. لكن مراقبين يشككون في قدرة هؤلاء على التأثير ما لم تمارس واشنطن ضغطًا حقيقيًا على إسرائيل. فالتجربة، بحسب محللين، تثبت أن أي مبادرة لا تقترن بإرادة سياسية أميركية حازمة، تبقى رهينة الحسابات الإسرائيلية الداخلية.

ويُظهر الخطاب الأميركي حول غزة نمطًا متكررًا من إدارة الأزمات لا حلّها، حيث تُقدَّم خطوات تكتيكية محدودة كإنجازات استراتيجية. هذا الأسلوب يسمح لواشنطن بتفادي المواجهة مع إسرائيل، لكنه في المقابل يرسّخ واقعًا من الجمود، ويمنح الاحتلال مزيدًا من الوقت لفرض وقائع ميدانية جديدة، بينما تُختزل المعاناة الإنسانية في عناوين عابرة.

ويعكس الإصرار الإسرائيلي على "تدمير حماس" فشلًا في قراءة طبيعة الصراع، إذ لا يمكن اختزال حركة سياسية–اجتماعية في هدف عسكري بحت. التجارب السابقة تؤكد أن الحسم بالقوة يولّد أشكالًا جديدة من المقاومة، وأن غياب أفق سياسي شامل هو الوصفة المثلى لاستدامة العنف، لا لإنهائه.

الرهان على الحلفاء الإقليميين كبديل عن الضغط الأميركي المباشر يطرح تساؤلات حول مصداقية الدور الأميركي نفسه. فالتاريخ القريب يبيّن أن أي اختراق حقيقي لم يحدث إلا عندما مارست واشنطن نفوذها الكامل. دون ذلك، ستبقى المبادرات مجرد مسكنات مؤقتة في نزاع مفتوح.

القدس المصدر: القدس
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا