آخر الأخبار

حفار قبور فلسطيني: دفنت 18 ألف جثمان خلال عامين من الإبادة الإسرائيلية

شارك

في مقبرة مدينة خان يونس يقف يوسف أبو حطب شاهدا على واحدة من أكبر موجات دفن الموتى بتاريخ قطاع غزة، بعدما تولى دفن نحو 18 ألف جثمان فلسطيني قتلتهم إسرائيل خلال الإبادة الجماعية التي ارتكبتها طوال عامين.

بيديه المتشققتين ومعوله البسيط، دفن أبو حطب (65 عاما) الجثامين التي كانت تصل تباعا، حتى اكتظت المقبرة التي تعلوها شواهد، أغلبها بلا أسماء لأنها لقبور تضم أشلاء تختصر أرواحا قتلتها إسرائيل ومزقتها إربا.

وعلى امتداد المقبرة، كان الرجل يقيس المسافات بين قبر وآخر، محاولا الحفاظ على حد أدنى من النظام وسط فوضى الموت المتسارع، في مهمة لم تكن مجرد عمل، بل واجب إنساني فرضته كثافة القتل الإسرائيلي، حيث وصل كثير من الضحايا دون وداع أو جنازات تليق بهم.

حرب الإبادة الإسرائيلية بدأت في 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 بدعم أمريكي واستمرت سنتين، وخلفت أكثر من 70 ألف قتيل فلسطيني، وما يفوق 171 ألف جريح، معظمهم أطفال ونساء، ودمارا طال 90 بالمئة من البنى التحتية المدنية.

وكان من المفترض أن ينهي اتفاق وقف إطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ في 10 أكتوبر الماضي الإبادة الإسرائيلية، لكن تل أبيب تخرقه يوميا موقعة مئات المدنيين الفلسطينيين بين قتيل وجريح.

ويعاني أبو حطب من إصابتين، الأولى أصيب بها خلال الانتفاضة الفلسطينية بالعام 1988، والثانية خلال الإبادة الإسرائيلية، وفق قوله، بينما لم يحدد طبيعة وحجم الإصابتين.

التقت أبو حطب داخل المقبرة، حيث شوهد وهو يدفع عربة يدوية صغيرة محملة بالرمال، بينما تغوص أدوات الحفر في أرض أنهكها الدفن المتواصل.

يعمل أبو حطب الذي قتلت تل أبيب أخاه وابنه خلال عامي الإبادة، لساعات طويلة تحت الشمس أحيانا والبرد أحيانا أخرى، محاطا بأصوات القصف الإسرائيلي، وخيام نازحين تلاصق أسوار المقبرة، في مشهد يلخص التداخل بين الحياة والموت في غزة المحاصرة.

لم تكن مهمته هذه خيارا شخصيا، بل استجابة لواقع فرضته الإبادة الإسرائيلية، حيث تحولت المقابر إلى شاهد يومي على حجم الخسارة الإنسانية في القطاع.

يقول إن ما عاشه منذ اندلاع الإبادة الإسرائيلية يعد الأصعب في مسيرته التي بدأت عام 2005، مشيرا إلى أنه دفن خلال هذه الفترة ما بين 17 و18 ألف قتيل فلسطيني.

ويضيف أن عمليات الدفن جرت في ظروف قاسية، تنوعت بين ضحايا مجازر، ومقابر جماعية، وقبور فردية، إضافة إلى دفن جثامين داخل مستشفيات، في ظل ضغط غير مسبوق وكثافة في أعداد القتلى.

وعن المقابر الجماعية يقول: "وضع فيها أحيانا نحو 15 شخصا بحفرة واحدة بسبب كثافة القتل الإسرائيلي".

وبشأن حصار إسرائيل لمستشفى ناصر نحو شهر (عام 2024)، يقول إنه حوّل مساحة منه مقبرة اضطرارية، ودفن فيها نحو 550 جثمانا، مؤكدا أنه كان يعمل وحده في كثير من الأحيان، ويتولى التغسيل والتكفين والدفن والتوثيق، في ظل غياب الكوادر ونقص الإمكانيات.

ويقول الشاهد الفلسطيني على القتل الجماعي إنه وثق كل ما جرى بهاتفه المحمول.

وخلال عامي الإبادة الإسرائيلية، اضطر فلسطينيو القطاع لإنشاء مقابر جماعية وفردية عشوائية، في الأحياء وأفنية المنازل وصالات الأفراح والملاعب الرياضية، جراء قطع تل أبيب الطرق وتدمير البنى التحتية.

دفنت خلال الإبادة الإسرائيلية نحو 18 ألف فلسطيني بقبور فردية ومقابر جماعية، وكنت أضع أحيانا نحو 15 جثمانا فلسطينيا بحفرة واحدة بسبب كثافة القتل الإسرائيلي.

أبو حطب يفيد بأنه يواصل عمله حتى اليوم، رغم تراجع أعداد الدفن مقارنة بالأشهر الأولى للإبادة الإسرائيلية، موضحا أنه كان يدفن سابقا ما بين 50 إلى 100 قتيل فلسطيني يوميا، بينما لا تزال المقبرة تستقبل الجثامين.

ويلفت إلى أن عمله يبدأ في السادسة صباحا، ويمتد أحيانا إلى ما بعد غروب الشمس، مشيرا إلى أنه يضطر إلى الحفر يدويا باستخدام أدوات بدائية، ويجمع بقايا الحجارة والبلاط من مخلفات القصف الإسرائيلي، لمحاولة ترميم القبور وتكريم الموتى، التزاما بـ"واجب إكرام الميت".

ويوجه أبو حطب نداء إلى العالم الإسلامي للتحرك إزاء ما يجري بغزة، قائلا: "الأوضاع لم تعد تحتمل، لا يوجد مواد لبناء القبور ولا أكفان ولا أدوات بسبب الحصار الإسرائيلي".

ومتحدثا عن سنوات عمله، يقول إنها تركت أثرا نفسيا عميقا عليه رغم صموده الجسدي، مشيرا إلى أن ما يحمله بداخله من ألم لا يمكن وصفه، لكنه يواصل عمله، ويميل للعزلة والبقاء وحيدا بعد ما شاهد المجازر الإسرائيلية.

ويؤكد الرجل أن الإنسان لا يمكنه تخيل هذا المشهد ما لم يعشه بنفسه، إذ يضطر إلى دفن ابنه أو أخيه، ثم يواصل دفن آلاف الجثامين، بعضها متحلل أو متروك في الشوارع منذ أسابيع.

وبنبرة يملؤها الحزن، يقول أبو حطب إن هذا الواقع غيّره بالكامل، وإنه لم يعد الشخص نفسه الذي كان عليه قبل هذه الإبادة الإسرائيلية.

ويعاني أبو حطب، وفق قوله، من اضطرابات حادة في النوم، وتمر عليه ليال لا ينام فيها مطلقا، فيما لا تتجاوز ساعات نومه في أفضل الأحوال ساعتين أو ثلاثا، بسبب تداخل أصوات الجنازات والصراخ والقصف في رأسه، مؤكدا أن ذاكرته مثقلة بمشاهد الموت المتلاحقة.

ويستذكر أن عمليات الدفن كانت تتم أحيانا باستخدام أكياس فقط، دون توفر حجر أو بلاط أو إسمنت، ما اضطره إلى الحفر والدفن بأي وسيلة ممكنة.

وعن إحدى أصعب الفترات التي مرت عليه، يقول إنها كانت في يوليو/ تموز الماضي، حين لم يكن أحد يجرؤ على دخول المقابر بسبب ضراوة القصف الإسرائيلي، فاضطر إلى اتخاذ قرار فردي بفتح مدافن خاصة بعائلات محددة، ودفن نحو 1270 جثمانا فيها خلال شهر.

أبو حطب يؤكد أن الإبادة الإسرائيلية خلفت عشرات القصص المؤلمة التي لا تغادر ذاكرته، من بينها مجازر طالت عائلات بأكملها، لكنه توقف عند حادثة وصفها بأنها الأكثر تأثيرا في نفسه، حين دفن امرأة فاقدة للنطق وأطفالها الأربعة في إحدى مدافن العائلات.

وأضاف أنه بعد نحو شهرين، أُحضر إليه كيس يحتوي أشلاء غير معروفة، فقرر دفنه في المكان نفسه، قائلا إنه عند فتحه فوجئ برائحة طيبة غير مألوفة، استوقفت كل من كان معه، واعتبرها من المشاهد التي تركت أثرا عميقا في نفسه، ويراها "كرامة للشهداء".

ويوضح أنه خلال الحرب اضطر إلى دفن جثامين مجهولة وممزقة، عثر عليها في الشوارع والحارات، بعضها تعرض لنهش الحيوانات.

وخلال عامي الإبادة لم تسلم المقابر من الاستهداف، إذ أقدم الجيش الإسرائيلي على تجريفها وتدميرها في المناطق التي توغلت فيها آلياته.

وبحسب المكتب الإعلامي الحكومي في القطاع، دمر الجيش الإسرائيلي 40 مقبرة من أصل 60، وسرق جثامين أكثر من ألف فلسطيني.

كما أشار المكتب إلى أن 529 فلسطينيا قتلهم الجيش الإسرائيلي جرى انتشالهم من مقابر جماعية داخل المستشفيات، فضلا عن وجود أكثر من 10 آلاف جثمان تحت الأنقاض لم يتمكن الدفاع المدني من انتشالهم بسبب ضعف الإمكانيات جراء الحصار الإسرائيلي.

القدس المصدر: القدس
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا