تحولت الجامعة الإسلامية في مدينة غزة إلى ملجأ للنازحين، حيث تنتشر الخيام في ساحاتها وتحولت ممراتها إلى أسواق صغيرة تعرض الخضار والمعلبات.
في أكبر جامعات قطاع غزة، تتدلى حبال الغسيل على الواجهات الحجرية المتفحمة، بينما يلعب الأطفال بين الأنقاض، محولين الحطام إلى ألعاب وأراجيح، في صورة مؤلمة للمكان الذي كان يومًا صرحًا تعليميًا مرموقًا في فلسطين.
أصبحت مباني الجامعة الإسلامية المدمرة بفعل القصف مخيمًا كبيرًا للنازحين، يجسد ذاكرة محطمة، في مشهد يمتد من بوابتها إلى آخر زاوية في حرمها.
وسط هذا السواد، تظهر بقع بيضاء متمثلة في قاعات دراسية تم ترميمها حديثًا، حيث المقاعد المصفوفة والسبورات الحديثة، وتجهيزات متواضعة تمكن الطلاب من حضور المحاضرات وجهًا لوجه.
يتناوب أكثر من 3500 طالب وطالبة على 5 قاعات فقط، يخطون خطواتهم الأولى في الحياة الجامعية بعد انقطاع دام عامين، حيث تستأنف الجامعة الإسلامية التعليم المباشر لطلاب السنة الأولى في بعض التخصصات العلمية.
تتألق عيون الطلاب المنتشرين في أروقة المخيم، كمن وجد نافذة أخيرة للحياة، يحتضنون كتبهم وكأنها سترمم ما تمزق فيهم خلال سنوات الحرب.
يمسك والد الطالبة بسمة خالد بيدها وكأنه يرشد طفلة تائهة، تخطو الفتاة بخطوات مترددة، تبدو مرتبكة كمن يدخل المدرسة لأول مرة، لكنها هنا تبدأ حياة جديدة بعد فقدان والدتها وشقيقتيها في قصف على جباليا.
تكشف عينا والد بسمة عن خوفه الشديد عليها، فيما تلتفت إليه ابنته كل بضع خطوات، خشية أن تفلت منه كما فقدت عائلتها.
وصلت بسمة إلى الجامعة، الواقعة غرب مدينة غزة، قادمة من جباليا في شمال القطاع، واستغرقت الرحلة أكثر من ساعة ونصف، حيث سارت مسافات طويلة للوصول إلى وسيلة نقل تقلّها.
تعتبر بسمة أن بدء دراستها الجامعية قد يكون فرصة للشفاء، وتقول: "ربما أنجو من الفراغ القاتل، ومن التفكير الذي لا يتوقف ومن الكوابيس التي لا تزال تلاحقني". اختارت الفتاة تخصص التمريض، تحقيقًا لرغبة والدتها التي كانت ترى فيها قلبًا رحيمًا.
أما الطالب أحمد الجدبة، الذي اختار تخصص التمريض أيضًا، فيحمل دافعًا مختلفًا، حيث أقنعته الحرب بأن يصبح ممرضًا، فمشاهد الممرضين وهم يسارعون لإنقاذ المصابين كانت درسًا في الإنسانية، ويقول: "إنه تخصص الرحمة".
كان مشهد الدمار في الجامعة صدمة لأحمد، الذي تخيلها كما رآها على الإنترنت وفي صور أقاربه، مباني شاهقة وقاعات واسعة وحرم جامعي فسيح، لكن هذه الصورة تبددت بمجرد دخوله الجامعة.
يقطن الجدبة في منطقة الزرقا بالقرب من الحدود الشرقية لمدينة غزة، ورغم المخاطر، ينطلق صباحًا دون خوف إلا من عودة الحرب وتوقف أحلامه وأحلام زملائه.
يخرج طالب الهندسة براء العسيلي من قاعة الدراسة المرممة وهو يشعر بالسعادة، ويقول بحماس: "لقد وضعت قدمي على بداية طموحي، أريد أن أصبح مهندسًا".
يوضح العسيلي أن الحرب أوقفت طموحات الشباب في غزة، وأن الشوق للدراسة كان كبيرًا، لكنه يشتكي من ارتفاع أسعار الكتب الدراسية ونقص الكهرباء والإنترنت، مما يهدد دراسته.
يجلس رئيس الجامعة الإسلامية الدكتور أسعد أسعد في مكتبه ويقول إن العودة للتعليم المباشر كانت حلما بعيد المنال، لكن الجامعة تحدت الدمار لفتح أبوابها للطلاب.
قامت الجامعة بترميم جزء من مبنى أسمته "فلسطين" وآخر من مبنى "إرادة"، لتصبح القاعات الخمس في المبنيين مساحات جديدة لطلاب كليات الطب والهندسة والتمريض وتكنولوجيا المعلومات والعلوم الصحية والأقسام العلمية في التربية والشريعة والقانون.
يؤكد أسعد أن 3500 طالب وطالبة يتلقون تعليمًا مباشرًا، بينما يستفيد نحو 12 إلى 13 ألفًا من التعليم الإلكتروني، لتبقى المعرفة متاحة للجميع.
يشير أسعد إلى وجود خطة طارئة للعودة التدريجية للتعليم المباشر وتوسعته لتشمل جميع المستويات الدراسية، لكن ذلك يتطلب إخلاء المباني التي لا تزال تؤوي النازحين.
يضاف إلى ذلك تحدي نقص المواصلات وارتفاع تكلفتها، مما دفع الجامعة لافتتاح مركزين في المحافظتين الوسطى والجنوبية لتخفيف العبء على الطلاب.
نظرًا لأن إسرائيل قتلت حوالي 70 موظفًا في الجامعة، فقد حاولت الجامعة تعويض هذا النقص من خلال الاستعانة بالمتطوعين من داخل غزة وخارجها، ومن الأساتذة الذين تجاوزوا سن الستين.
على الرغم من تدمير 13 مبنى بشكل كامل والإضرار بالبنية التحتية، يقول أسعد: "شوهت الحرب شكل الجامعة، لكنها لم تمس إصرارنا وإرادة طلابنا العنيدين الذين يقطعون ساعات للوصول إلى مقاعدهم".
المصدر:
القدس