في زاوية أحد المخيمات المكتظة بالنازحين في دير البلح وسط قطاع غزة، تبرز غرفة صغيرة مصنوعة من الصفيح فوق أحد المنازل، قد تبدو عادية للوهلة الأولى، ولكن الداخل إليها يكتشف مرسماً ينبض بألوان الحياة، ويحكي عن آثار العدوان الإسرائيلي.
الفنان الفلسطيني محمد المغاري، الحاصل على شهادة البكالوريوس في الفنون الجميلة من جامعة الأقصى، صرح بأنه يقوم بتوثيق معاناة أهالي غزة من خلال رسوماته ولوحاته داخل هذه الغرفة، وذلك نتيجة للحرب الإسرائيلية.
بعد عدوان دام عامين على غزة، والذي أسفر عن استشهاد أكثر من 70 ألف فلسطيني وإصابة ما يزيد على 171 ألف جريح، معظمهم من الأطفال والنساء، دخل اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في 10 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وقدرت الأمم المتحدة تكلفة إعادة الإعمار بنحو 70 مليار دولار.
تنتشر على جدران الغرفة لوحات تحكي قصصاً يومية من صميم معاناة الفلسطينيين في غزة.
إحدى هذه اللوحات تجسد طفلاً بملامح مرهقة، يحمل وعاءً فارغاً، تعبيراً عن المجاعة التي ضربت القطاع خلال الحرب، والتي لا تزال آثارها تنهش أجساد الفلسطينيين رغم وقف إطلاق النار.
كما توجد لوحة لامرأة فلسطينية تشق طريقها بين الأنقاض وهي تسحب غالونات مياه ثقيلة، ولوحة لرجل مسن يتجول في طرقات المخيم بحثاً عن طعام لأطفاله.
وفي زاوية أخرى، توجد لوحة لطفل مصاب في رأسه، وأخرى تظهر خياماً منهارة على رؤوس ساكنيها تحت المطر والقصف، بينما تكشف لوحة ثالثة عن فرن بدائي يتم الخبز عليه فوق الحطب في غياب الوقود.
تضمنت هذه الغرفة الصغيرة لوحات للمغاري، الذي شارك سابقاً في معارض ومهرجانات محلية ودولية، تصور مشاهد يومية لوجوه الإرهاق والجوع، وطوابير طويلة للبحث عن الطعام، ورحلات شاقة لجلب الماء، وأطفالاً أنهكتهم المجاعة، وخياماً ملطخة بالدماء والتراب، ومدن تحولت إلى أنقاض.
خلال الحرب الإسرائيلية، عانى الفلسطينيون من نقص حاد في المياه والطعام والدواء، مما أدى إلى وفاة العشرات منهم بسبب المجاعة.
وفي ظل الانقطاع التام للمواد الأساسية، اضطر العديد من الفلسطينيين في القطاع المحاصر إلى تناول أوراق الشجر وطعام الحيوانات والطيور للبقاء على قيد الحياة.
في 22 أغسطس/ آب الماضي، أعلنت "المبادرة العالمية للتصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي"، عبر تقرير، "حدوث مجاعة في مدينة غزة (شمال)"، وتوقعت أن "تمتد إلى مدينتي دير البلح (وسط) وخان يونس (جنوب) بحلول نهاية سبتمبر/ أيلول (2025)".
وعلى جانب آخر، عُلقت لوحة "سيد الصبر"، حيث يظهر الحمار في مقدمة المشهد كرفيق للبقاء، بعد أن أصبح وسيلة النقل الوحيدة التي تحمل على ظهرها أغراض النزوح والمساعدات.
خلفت الحرب واقعاً مأساوياً يعيشه 2.4 مليون فلسطيني في مختلف مناطق القطاع، وسط انعدام مقومات الحياة الأساسية وصعوبة الوصول إلى الخدمات، بعد أن دمر الجيش الإسرائيلي 90 بالمئة من البنى التحتية المدنية.
وعلى الرغم من مرور أكثر من شهر على انتهاء الحرب، لم يشعر الفلسطينيون بأي تحسن ملحوظ في ظروف حياتهم، إذ ما زالوا يعيشون في خيام مهترئة غرق آلاف منها مع أول هطول للأمطار، مما فاقم معاناتهم.
قال المغاري: "عشت بين الناس في المخيمات واطلعت عن قرب على معاناتهم داخل الخيام، ومن هنا بدأت أرسم كل ما يمر به الفلسطينيون في غزة".
وأوضح أنه خصص جزءاً من أعماله لتجسيد رمزية الخيمة، باعتبارها شاهداً على المعاناة الفلسطينية الممتدة منذ عام 1948، في إشارة إلى نكبة تهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين من أراضيهم.
وتابع: "رسمت الخيمة لأنها رمز الألم منذ النكبة وحتى اليوم، فالتاريخ يعيد نفسه وكأن مشاهد التهجير الأولى تتكرر".
أشار المغاري إلى أن لوحاته تناولت تفاصيل الحياة تحت القصف والحصار والتهجير، من مشاهد نقل المياه في طوابير طويلة، إلى لحظات الموت، وإصابات الجرحى، وانهيار الخيام فوق رؤوس النازحين.
وأوضح أنه جسد هذه التفاصيل كما عاشها ورآها داخل المخيمات بهدف التوثيق وحفظ الذاكرة الإنسانية للحرب.
وأضاف أن مساره الفني تغير بالكامل بعد الحرب، بعدما كان يركز سابقاً على إبراز الهوية الفلسطينية وتراثها ومدنها وطبيعتها.
وأكمل الفنان المغاري: "قبل الحرب كنت أرسم التراث الفلسطيني، وأظهر جمال الطبيعة وتاريخ المدن، لكن بعد الحرب تغير كل شيء، أصبحت صرخات الناس ومعاناتهم موضوع لوحاتي، في محاولة لإيصال رسالتهم إلى العالم".
المصدر:
القدس