لم يعد الاقتصاد العالمي خاضعًا لقوانين النمو والانكماش فحسب، بل بواقع جديد تشكله سبع شركات خاصة تتمتع بنفوذ يفوق دولًا صناعية كبرى، حيث أصبحت هذه الشركات مراكز قوة موازية تعمل خارج إطار الدولة التقليدي.
تسيطر شركات مثل آبل ومايكروسوفت وإنفيديا وأمازون وألفابت وميتا وغوغل على ثلث القيمة السوقية لمؤشر S&P 500، ما يعكس صعود كيانات عملاقة تقودها آبل وإنفيديا، حيث تحولت هذه الشركات إلى قوى اقتصادية فوق وطنية تعيد تشكيل الأسواق العالمية وتفرض منطقًا جديدًا للنفوذ.
تكمن قوة هذه الشركات في هندسة البيئات الرقمية التي نعيش فيها، حيث تبني منظومات مغلقة تتشابك فيها البيانات والخوارزميات والبنى السحابية، ما يخلق فضاءً اقتصاديًا ومعرفيًا مغلقًا تتحكم بقواعده هذه الشركات.
مع توسع هذه المنظومات، يتسلل تأثيرها إلى مستويات كانت حكرًا على الدول، مثل البحث العلمي والأمن السيبراني والتعليم والإعلام والخدمات الحكومية، ما يمثل شكلًا جديدًا من السلطة الناعمة التي تتجاوز الحدود وتتوسع مع تدفق البيانات.
تقف إنفيديا في قلب هذا التحول بقيمة سوقية تجاوزت 4.4 تريليون دولار، حيث أصبحت شرائحها الحاسوبية بمثابة "محرك التشغيل" للذكاء الاصطناعي الحديث، ما يجعلها أقرب إلى مزود للطاقة الفكرية للعالم، فقوة إنفيديا اليوم تشبه قوة من يتحكم بالكهرباء في القرن العشرين أو بالنفط في السبعينيات.
يشهد العالم صعودًا غير مسبوق في تقييمات شركات التكنولوجيا، ما يحول آلاف الدولارات إلى ثروات هائلة خلال سنوات قليلة، ولكن يكمن سؤال معقد: هل يعكس هذا الارتفاع تحولًا تاريخيًا تقوده ثورة الذكاء الاصطناعي، أم أننا نعيد إنتاج منطق الفقاعة؟
ما يحدث يتعلق بهندسة جديدة للسوق تقوم على تركيز غير صحي للثروة والقيمة في عدد محدود من الشركات، حيث تحولت الأسواق الأمريكية إلى بنية معتمدة بشكل مفرط على بضعة كيانات فقط، وأي خلل في أحد هذه الأعمدة قد يسبب هزة نظامية.
هذا النوع من التركز يشير إلى اختلال هيكلي يجعل التقييمات عرضة للمبالغة، ويحول السوق إلى بيئة يغذيها التفاؤل المفرط، وفي هذا السياق تبدو مقولة د. ريان ليمند، الرئيس التنفيذي لشركة «نيوفيجن لإدارة الثروات» أشبه ببوصلة لفهم اللحظة: «استفد من الفقاعة طالما استمرت… لكن تذكّر أنها ستنفجر.»
كل موجة صعود متطرفة تحمل في داخلها بذور التصحيح، مهما ارتدى هذا الصعود ثياب الثورة التكنولوجية أو استند إلى سرديات الذكاء الاصطناعي.
النمو الهائل الذي حققته هذه الكيانات خلق طبقة جديدة من السلطة تتجاوز الاقتصاد التقليدي إلى فضاءات أكثر حساسية، مثل تشكيل الوعي وصناعة السلوك البشري والتحكم بالبنية التحتية الرقمية، ما أثار مخاوف المفوض السامي لحقوق الإنسان من أن تركّز القوة الاقتصادية والبيانية في يد سبع شركات فقط يشكل تهديدًا للديمقراطية وحقوق الإنسان.
تمتلك هذه الشركات القدرة على توجيه المعلومات والتأثير في نتائج الانتخابات وترجيح كفة طرف سياسي على آخر، وحتى تعطيل شبكات وطنية أو شل قطاعات اقتصادية بقرار تقني واحد، حيث أصبح ما كان في السابق شأنًا سياديًا للدول فعليًا تحت سيطرة كيانات خاصة.
وصف بعض الاقتصاديين هذه الظاهرة بأنها لحظة ولادة لـ "قوى فوق–سيادية" لا تُقيّدها حدود جغرافية ولا سلطات تنظيمية فعّالة، وتعمل في إطار عالمي يسمح لها بتجاوز محاسبة الدول، ما يثير قلقًا من أن يتحول الاقتصاد الرقمي إلى نموذج حكم جديد لا يقوم على العقد الاجتماعي، بل على العقد الخوارزمي.
أحدثت هذه الشركات ثورة تكنولوجية هائلة تقود إنتاجية جديدة وتحولات صناعية ومجتمعية إيجابية، ولكن هيمنتها المطلقة أدت إلى اختلالات في الأسواق وقلق سياسي عالمي وتخوف متزايد من أن يتحول الذكاء الاصطناعي إلى أداة للهيمنة، فهل يستطيع النظام الدولي تطوير حوكمة عالمية توقف الانفلات التكنولوجي وتحمي الديمقراطية وحقوق الإنسان؟
يشكل السبعة الكبار ظاهرة اقتصادية-سياسية جديدة: قوى عابرة للدولة تصنع المستقبل، ولكنها قد تهدد أساس النظام العالمي إذا لم تُخضع لضوابط تحمي الإنسان قبل التكنولوجيا، والحق قبل الخوارزمية.
المصدر:
القدس