مع تصاعد وتيرة العنف الذي يمارسه المستوطنون ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية، تتضح معالم مشروع إسرائيلي متكامل يهدف إلى إقامة ما يمكن تسميته "دولة المستوطنين" داخل المناطق المصنفة "ج"، والتي لا تزال تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة، على الرغم من أن اتفاق أوسلو كان ينص على تسليم هذه المناطق تدريجياً إلى السلطة الفلسطينية.
يهدف هذا المشروع إلى فرض واقع جديد على الأرض يصعب التراجع عنه، حيث أصبحت قضية المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية محوراً أساسياً في خطط اليمين الإسرائيلي، وتحمل أبعاداً متعددة دينية وقانونية وسياسية وأمنية.
وفقاً لتقديرات منتدى السياسات الإسرائيلية، وصل عدد المستوطنين اليهود في الضفة الغربية حتى عام 2020 إلى حوالي 452 ألف مستوطن، بالإضافة إلى نحو 30 ألف آخرين يقيمون في بؤر استيطانية عشوائية منتشرة في المنطقة "ج"، التي تشكل حوالي 60% من مساحة الضفة الغربية.
يعرّف الدكتور عبد الوهاب المسيري الاستيطان بأنه انتقال مجموعات بشرية إلى أرض أجنبية بهدف إبعاد السكان الأصليين أو تهميشهم، وهو تعريف يوضح الطبيعة الاستعمارية والإحلالية لهذا المشروع.
ينطلق مشروع دولة المستوطنين من مزيج من الأبعاد الدينية والرؤى التوراتية، بالإضافة إلى أبعاد تاريخية يتم استخدامها لتبرير التوسع الاستيطاني المستمر.
وقد عبّر الحاخام تسفي هيرش كاليشر (1795-1874) عن هذا التوجه في كتابه "السعي لصهيون"، حيث أكد أن خلاص اليهود لا يتحقق عن طريق انتظار مسيح، بل من خلال العمل الجاد والجهد البشري اليهودي، وذلك عبر بناء مجتمع يعتمد على ارتباط اليهودي بأرض يزرعها وتكون بمثابة وطن قومي له، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا في فلسطين.
تشير دراسة صادرة عن مركز يافي للدراسات الإستراتيجية في جامعة تل أبيب إلى أنه خلال فترة حكم حكومات الليكود بين عامي 1977 و1992، بُذلت جهود مكثفة لزيادة أعداد المستوطنين اليهود في الضفة الغربية.
وقد تميزت هذه الجهود بوجود تيارات دينية وتاريخية مختلفة، أبرزها حركة غوش إيمونيم التي سعت إلى تأسيس المستوطنات بدافع أيديولوجي ديني، في مقابل تيارات أخرى أكثر علمانية ركزت على الاعتبارات الأمنية.
وفي سياق متصل، صرّح وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش في باريس قائلاً: "لا يوجد شعب فلسطيني، هذا ليس سوى اختراع يعود عمره إلى أقل من 100 عام".
يختلف الاستيطان الإسرائيلي عن غيره من الأنماط الاستيطانية الأخرى التي شهدها العالم، حيث يرتكز على أبعاد متعددة، يأتي في مقدمتها الدين.
يستند المستوطنون في هذا البعد إلى نصوص دينية عديدة، منها ما ورد في أسفار التوراة، مثل ما جاء في سفر العدد: "عليكم أن تُخرجوا جميع سكان الأرض من أمامكم، وإن لم تُخرجوا سكان الأرض من أمامكم، فإن من تُبقون منهم سيكونون لكم كـسَنانٍ في عيونكم، وكشَوكةٍ في جنوبكم، ويضايقونكم في الأرض التي تسكنونها".
لذلك، يعتبر المستوطنون أن استيطان الأراضي الفلسطينية هو فريضة دينية واجبة على كل يهودي، وأطلقوا عليها مصطلح "فريضة استيطان الأرض"، ومن ذلك قول الحاخام تسفي يهودا كوك: "مع احتلال أرض فلسطين وإعلان قيام دولتنا منذ 4 سنوات أقمنا فريضة استيطان الأرض".
ثم أصدر رجال دين عدداً من الفتاوى التي تحث اليهود على الإقامة داخل الأراضي المحتلة والتوسع في بناء المستوطنات اليهودية حفاظاً على أداء فريضة "استيطان الأرض".
يظهر من خلال هذه النصوص أن البُعد السياسي لدى المستوطنين ليس مجرد عمل سياسي، بل هو تعبير عن التزام ديني عميق، والأرض ليست مجرد ملكية مادية، بل جزء من الوعد الإلهي الذي يجب تحقيقه.
تدعو تطبيقات هذا الفكر الصهيوني إلى رؤية مشروع استيطاني إحلالي يقوم على ترحيل العرب وخلق واقع ديموغرافي جديد بالقوة، وهو ما عبّر عنه وزير السياحة الأسبق رحبعام زئيفي، ومن قبله مؤسس الحركة الصهيونية ثيودور هرتزل في كتابه "دولة اليهود" حيث يقول: "فلسطين وطن بلا شعب، لشعب بلا وطن".
عملت قيادات الحركة الصهيونية على تحويل هذه الرؤية الأيديولوجية إلى سياسة دولة من خلال دعم الاستيطان، والتنسيق العسكري مع المستوطنين، واستخدام الإدارة المدنية في مناطق "ج" لفرض القيود والهدم ومنع التطوير الفلسطيني.
تؤكد تقارير مركز بتسيلم الإسرائيلي أن إسرائيل خلقت نظام فصل عنصري ثنائي القومية في الضفة يحدد الحقوق حسب الانتماء القومي ويعزز هيمنة المستوطنين على الأرض، في حين تشير خطة سموتريتش إلى 3 خيارات للفلسطينيين: البقاء ضمن نظام فصل عنصري، الرحيل إلى الشتات، أو القمع بالقوة لمن يرفض.
يعمل مشروع دولة المستوطنين على تغيير التركيبة الديمغرافية والجغرافية لصالح اليهود، وضم الضفة الغربية تدريجياً، وتحويل مناطق "أ" إلى جزر معزولة محاطة بمستوطنات وبؤر وطرق التفافية.
من أبرز المخططات المخطط الاستيطاني "إي 1"، الذي يربط معاليه أدوميم بالقدس، ويهدف إلى قطع التواصل الجغرافي بين شمال الضفة وجنوبها، مما يضعف إمكانية إقامة دولة فلسطينية متصلة.
في إطار أهدافها الإستراتيجية، تسعى دولة المستوطنين إلى ترسيخ السيطرة على "القدس الكبرى" كجزء أساسي من مشروعها التوسعي، بما يشمل ضم الكتل الاستيطانية المحيطة بالمدينة وفرض واقع ديموغرافي جديد يخلق أغلبية يهودية مقابل أقلية فلسطينية.
في دراسة لمركز الزيتونة، أشارت إيمان رياض بديوي إلى أن التوسع في القدس يتوافق مع مشاريع البنية التحتية الاستيطانية المرتبطة بخطط ضم الضفة الغربية.
في حين أظهر خبير شؤون الاستيطان خليل التفكجي أن "إسرائيل" طوّقت القدس عبر استيطان مكثف في الضواحي والمرتفعات المحيطة، بما في ذلك إقامة بؤر استيطانية داخل الأحياء الفلسطينية بهدف التشتيت والتهجير التدريجي.
كما تؤكد دراسة لمعهد الأبحاث التطبيقية أريج أن شبكة المستوطنات المتصلة جغرافيا تعزز السيطرة الإسرائيلية على المدينة وتقلص إمكانيات إقامة دولة فلسطينية متصلة في القدس الشرقية، ويمثل هذا التهويد العمراني والتقسيم السكاني أداة لتثبيت السيطرة الاستيطانية على المدينة وتقليص قدرة الفلسطينيين على الحفاظ على وجودهم والمشاركة في مستقبلها.
لا تعترف "إسرائيل" بالمواقف الدولية، وتعتبر أن المستوطنات جزءا من سيادتها على الضفة الغربية، بينما يرى المجتمع الدولي أن المستوطنات غير شرعية وفق القانون الدولي، فقد صدرت عن الأمم المتحدة تحذيرات واضحة تُطالب بوقف الاستيطان وتفكيك البؤر غير القانونية.
صدرت عن المنظمة الدولية تقارير منتظمة تدين هدم المباني الفلسطينية والانتهاكات المرتبطة بالمستوطنات، وتشير إلى أن هذه الاعتداءات تفاقم المعاناة الإنسانية وتعرقل فرص التوصل لحل الدولتين.
في السياق، قد دعت بعض الدول الأوروبية إلى تعليق بعض بنود الاتفاقيات الثنائية مع إسرائيل نتيجة الانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان المرتبطة بالاستيطان، وهو ما أكدته لجنة العلاقات الخارجية للاتحاد في تقريرها الصادر عام 2023، من أن هذه الانتهاكات تشكل خرقًا للقانون الدولي وتستدعي موقفا أوروبيا حازما.
في المقابل، نجد أن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب قدمت دعما غير مسبوق للسياسات الإسرائيلية في الضفة الغربية.
المصدر:
القدس