في الوقت الذي حاول فيه الاحتلال طمس كل شاهد ودفن كل رواية عن جحيم الإبادة في غزة، بقيت أصوات جاءت من أقاصي العالم تكسر هذا التعتيم، وتحمل شهادات لا يستطيع الزمن محوها. من على متن أسطول الحرية الذي تحدّى الحصار، إلى أطباء من خارج قطاع غزة عملوا تحت القصف بين رائحة الدم وغبار الركام، تتجمع اليوم تجارب شخصية تُشكّل وثيقة حيّة على ما جرى، وتفضح حجم الألم الذي عاشه الفلسطينيون لحظة بلحظة. هؤلاء الذين رأوا بأعينهم، ولمسوا بأيديهم، يشكلون واحدة من أهم حلقات السرد المضاد للإبادة؛ روايات من خارج الجغرافيا لكنها تنتمي تمامًا إلى معركة كشف الحقيقة.
الناشط جمال الرئيسي من سلطنة عمان والذي كان أحد المشاركين في أسطول الصمود العالمي نحو غزة، والتي تعرضت للاعتداء من قبل قوات الاحتلال واعتقال عدد من الناشطين المشاركين، يقول إن "الأثر الذي تحدثه الأساطيل البحرية كبير ويزداد مع كل سفينة تبحر في اتجاه قطاع غزة، فأسطول الصمود العالمي الذي حاول كسر الحصار أحدث زلزالاً توعوياً لدى شعوب الكرة الأرضية وأصبح الجميع يتابع مسار الأسطول ساعة بساعة وما الحملة الإعلامية الضخمة التي صاحبته إلا دليل على مستوى ذلك الحراك وأهميته".
ويضيف الناشط العماني، أن منع سلطات الاحتلال لسفن الأسطول من الوصول لغزة واختطاف الناشطين سمح بفتح ملفات دعاوى جديدة ضد حكومة الاحتلال وقادته في المحاكم الدولية وهذا بحد ذاته نجاح كبير لهذا الحراك السلمي بقيادة شعوب العالم".
وعن لحظة اتخاذ قرار الإبحار، قال الرئيسي، إن "رغبة الإنسان الحر في أن يكون حراً طليقاً في مساحة الحرية الخاصة به والتي كفلتها كل القوانين الدولية تجعل من المرء لا يفكر إلا كيف يجعل من مساحته تلك نموذجاً لأخلاقه كإنسان ومدافعاً عن الحق مهما كلفه ذلك من تضحيات. الوازع الديني والواجب الأخلاقي والإنساني يأتيان في مقدمة الأسباب التي دفعتني لتحدي كل الصعاب وتحدي الظلم الذي يقع على أخوتنا في قطاع غزة".
ووفق الرئيسي في حديثه لـ"صحيفة الحدث"، فإن "تهديدات الاحتلال ضد الأسطول وضد النشطاء المشاركين والتي بدأت مبكراً ليست جديدة وبما أن هذا الاحتلال المجرم قد انتهك كل القوانين الدولية والإنسانية في قطاع غزة ويرتكب الإبادة الجماعية فقد سهل لي هذا معرفة مآلات قراري بالإبحار في اتجاه غزة وتحدي تهديدات المجرمين، حيث وضعت في الحسبان أنني ذاهبٌ بلا عودة كعادة المجاهد في سبيل الله وقد تم إعدادنا مسبقاً لكل الاحتمالات التي سنواجهها مع قربنا من قطاع غزة".
وأكد الناشط العماني، أن الأساطيل ليست مجرد رسائل إعلامية بل هي صرخة من شعوب العالم لجميع الحكومات والمنظمات الدولية التي تدّعي حقوق الإنسان والحفاظ على السلام والأمن الدوليين، صرخة في وجه الصمت الدولي والتخاذل من الحكومات في عدم اتخاذها مواقف جدّية لحماية الإنسان وكذلك فهي رسالة للعالم بأن الشعوب تستطيع أن تفعل ما عجزت عنه الحكومات".
ووفق الناشط العماني، فإن "ما رأيته بأن الشعوب متضامنه بشكل كبير في رفض ما يحدث من ظلم في هذا العالم وأما الحكومات فهي في صراع بين الحكومات التي تودُّ الوقوف مع الحراك العالمي وبصمت خوفاً من جبروت الدول المتواطئة مع ما يقوم به الكيان الصهيوني وكذلك المحاولات من بعض الدول التي لا تملك قرارها بيدها لمنع مواطنيها من المشاركة في الأسطول".
ويضيف: الأثر الذي تركه الأسطول العالمي الأخير كان كبيراً جداً وتجاوز ما تركته السفن التي حاولت كسر الحصار طوال السنوات الماضية وهذا بحد ذاته نجاح كبير والاستمرار في هذا النهج مهم جداً حيث أنه يتم في مساحة حرية الملاحة الدولية ولا يحق لأي دولة أن تعترضه وهذا ما يجعل تهديدات الاحتلال تحت أعين العالم ومنظماته الحقوقية، كما أنه من المهم إيجاد طرق أخرى لكسر الحصار وإيصال المساعدات الإنسانية بطرق مبتكرة أخرى.
ومن البحر إلى غرف العمليات في قطاع غزة، وفي قلب الإبادة، يروي جرّاح الأعصاب في المستشفيات الألمانية الدكتور محمد الحلبي عن تجربته داخل غزة خلال الحرب، وهي تجربة تركت أثرًا إنسانيًا وأخلاقيًا لا يمحى.
يقول الحلبي في لقاء خاص مع "صحيفة الحدث": "عندما وصلت غزة كانت الصدمة أن الناس يُعالجون في الممرات، الأطفال جرحى بلا أجهزة، والأطباء يعملون بلا توقف. تأكدت أن المهمة ليست طبية فقط، بل إنسانية وأخلاقية أيضًا."
ويستعيد واحدة من أبرز القصص التي رافقته: قصة الطفلة نور (14 عامًا) التي أصيبت بشلل نصفي جراء قصف الاحتلال، فأجرى لها وفريقه عملية عاجلة في مارس 2024 داخل مستشفى شهداء الأقصى. ويقول: بعد عام من العلاج استطاعت الوقوف مجددًا في مارس 2025، قبل أن تستشهد في قصف جديد يوم 30/3/2025.
يضيف: "عملنا في غرف عمليات بلا أجهزة كافية وبأدوات محدودة جدا وأجرينا عمليات كبيرة بإمكانيات لا تصلح لعمليات بسيطة. اضطررت لاتخاذ قرارات صعبة لم أتخيل يوماً أنني سأواجهها"، مشيرا إلى أن صمود الطواقم الطبية أدهشه رغم فقدانهم لبيوتهم وضغط الحرب وقال: "كانوا يعملون باحتراف وصبر لا يمكن وصفه وأكثر ما ألهمني هو إصرارهم على إنقاذ كل مريض، وقولهم الدائم: تقلقش."
ويقول: "أهل غزة يملكون قدرة عجيبة على الصبر، علموني معنى الرضا، ومعنى أن يقف الإنسان حتى لو فقد كل شيء"، وعن الرسالة التي عاد بها إلى العالم، يوضح: "غزة ليست أرقامًا؛ بل وجوه وقصص وأطفال وعائلات تريد الحياة. على العالم أن يرى الإنسان هناك، لا فقط الأخبار والسياسة."
وما بين البحر وغرف العمليات إرادة لا تُقهر، تؤكد هذه التجارب أن التضامن مع غزة لم يعد فعلاً رمزيًا، بل مسارًا إنسانيًا متصاعدًا يصطدم بصمت المؤسسات الدولية.
فبين السفن التي أبحرت متحدية الحصار، وأطباء عملوا تحت القصف، تشكلت حكايات مقاومة مدنية وشعبية تجاوزت الحدود والسياسات، وبرهنت أن الشعوب قادرة على كسر الجدران التي تعجز السياسات عن هدمها.
أما الدكتور أسامة حامد استشاري جراحة الجهاز الهضمي فيعرّف نفسه اليوم بأنه “طبيب عائد من غزة إلى غزة”، بعد ثلاث مهمات طبية داخل القطاع خلال الحرب. يقول إن ما دفعه للذهاب إلى غزة منذ السابع من أكتوبر هو “حرقة الإنسان العربي المسلم على أهله”، مؤكداً أن قرار الذهاب كان إيمانياً وإنسانياً قبل أن يكون مهنياً.
دخل غزة ثلاث مرات؛ الأولى عبر معبر رفح في شباط 2024 وقضى 25 يوماً في مستشفى شهداء الأقصى، والثانية عبر جسر الملك حسين وكرم أبو سالم في حزيران 2024 وعمل في مستشفى الخدمة العامة، والثالثة خلال الهدنة في شباط وآذار 2025 لمدة خمسين يوماً.
ويروي الطبيب حامد، صعوبات الدخول عبر المعابر، واصفاً معاناة الفلسطينيين في السفر بأنها “أشد من كل وصف”. كما يصف واقع القطاع الصحي بأنه “كارثي وغير قابل للتخيّل”، نتيجة تدمير المستشفيات واستهداف الطواقم الطبية وشح المعدات. ويتحدث عن أول عملية أجراها لطفل يُدعى محمد البشيتي (6 سنوات)، أصيب بشظية أدت لجرح خطير في الإثني عشر، وتمكّن من إنقاذه، ولا يزال على تواصل مع عائلته حتى اليوم.
يؤكد الدكتور أسامة أن تجربته في غزة غيّرته على المستوى الإنساني والفكري، وجعلته يعيد تقييم كثير من المفاهيم، خصوصاً بعد مشاهدته لعجز المنظومة العالمية عن وقف استهداف المستشفيات والمدنيين. ويقول إن الحضارة الغربية “فشلت أخلاقياً” في حماية الإنسان، رغم تفوقها العلمي. ويختم رسالته: “لن نترك غزة وحدها.
ويردف: ما شاهدته من صبر وتضحية لأهل غزة صحّح بوصلتنا الأخلاقية، وسيبقى واجبنا أن نقف معهم ونرفع الظلم عنهم بكل ما نستطيع.”
المصدر:
الحدث