آخر الأخبار

صفعة ترامب لأوروبا في أوكرانيا: هل تعيدها للصواب؟

شارك

في العام 2014 شاركت ضمن المئات من المتطوعين في مراقبة الانتخابات الرئاسية في أوكرانيا. في جلسة التعريف بالنظام الانتخابي وآليات الرقابة كان هنالك أيضاً حديث عن واقع أوكرانيا السياسي وصراعها مع روسيا.

متحدث أوكراني من أحد مراكز الأبحاث، قال بالحرف: على أوكرانيا أن تعمل على أن تصبح «إسرائيل» أوروبا وعندها فقط لن يكون بإمكان روسيا أن تتدخل فيها أو أن تهاجم أراضيها.

بعد الجلسة وقفت مع المتحدث قليلاً وقلت له: أنتم لا يُمكنكم أن تكونوا مثل إسرائيل: لا يوجد لديكم النفوذ السياسي والإعلامي والمالي وجماعات الضغط الموجودة لها في الولايات المتحدة؛ وروسيا أيضاً ليست مثل العرب الذين يفتقدون الاستقلال السياسي الحقيقي ولا يمتلكون إرادة القتال، ولا أسلحة متطورة بين أيديهم.

روسيا أكبر دولة نووية في العالم وهي لم تنسَ أنها حتى الأمس القريب كانت تتقاسم العالم مع الولايات المتحدة.

وختمت بالقول: إن روسيا، جارة لكم وهذا لن يتغير أبداً ومصلحتكم هي أن تقوموا بإجراء تسوية سلمية معها وليس استعداءها.

في شباط 2022 أعلنت روسيا الحرب على أوكرانيا بأهداف منها ضم منطقة الدونباس (مقاطعتي لوهانسك ودونيتسك)، اعتراف أوكرانيا بسيادة روسيا على منطقة القرم (استولت عليها روسيا وضمتها لها العام 2014)، بقاء أوكرانيا محايدة وعدم انضمامها لحلف الناتو، منع تواجد قوات للناتو على أراضيها، تقليص الجيش الأوكراني ومنعه من امتلاك صواريخ بعيدة المدى، ومنع الناتو من نصب صواريخ على أراضيها.

بتحريض من واشنطن وبالكثير من «سوء التقدير» من قادتها، أَصر الأوروبيون على كَسر روسيا في أوكرانيا وهزيمتها فيها بدلاً من التفاهم معها على ضمانات أمنية لإنهاء الحرب وتجنيب أوكرانيا وأنفسهم تبعاتها.

بعد أكثر من عام بقليل على حرب أوكرانيا، كانت هناك حرب إبادة في غزة، تبنت خلالها أوروبا سياسة ازدواجية المعايير بشكل فاضح: من جهة رفضت الاحتلال الروسي لأوكرانيا، وتغاضت عن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والعربية، ومن جهة أخرى، دعمت أوكرانيا بالسلاح والمعلومات الاستخبارية وفي المحافل السياسية الدولية، ودعمت أيضاً المُحتَل الإسرائيلي في فلسطين وتغاضت وبررت جرائمه فيها.

مُنذ مطلع العام 2022 خسرت أوروبا أكثر من 187 مليار يورو قُدِمت لأوكرانيا كمساعدات عسكرية واقتصادية وإنسانية، لكن خسارتها لم تقتصر على ذلك، فهي خسرت أيضاً وبرغبتها النفط والغاز الروسي وأصبحت تستورده من دول أخرى بسعر أعلى بكثير مما كان عليه الحال سابقاً.

ويقدر الخبراء أن حجم الزيادة السنوية في سعر النفط والغاز هي ما بين 10 إلى 30 مليار دولار، وهنا من المهم الانتباه إلى أن الدولة صاحبة الفائدة الأكبر من تخلي أوروبا عن النفط والغاز الروسي كانت الولايات المتحدة التي أصبحت المورد الأساسي له (قطر والجزائر والنرويج وأذربيجان استفادت أيضاً).

وبالطبع ارتفاع أسعار النفط والغاز يَصحبه ارتفاع في أسعار السلع الأخرى من تذكرة الطائرة إلى رغيف الخبز على الطاولة، وبالتالي فإن الخسارة الأوروبية هي بمئات المليارات.

لكن هذه الخسائر كانت مقبولة على أوروبا طالما أن الولايات المُتحدة هي جزء من المعركة ضد روسيا وتتحمل قسطاً مهما من تكاليفها.

بمجيء ترامب إلى البيت الأبيض تغيرت المعادلات. فالأخير وجه صفعات متتالية لأوروبا.

في البداية انسحب ترامب من دعم أوكرانيا مالياً وعسكرياً بذريعة أن الصراع فيها يخص أوروبا وليس أميركا، وأن أي دعم لها يجب أن يكون له مقابل مثل سيطرة الشركات الأميركية على قطاع التعدين فيها.

ثم طالب الدول الأوروبية بتخصيص 4٪ من ناتجها القومي لموازنات دفاعها بعد أن كان قد طالبها العام 2018، خلال ولايته الأولى، برفعها إلى 2٪ بهدف تخصيص هذه الزيادة لشراء أسلحة جديدة متطورة من الولايات المتحدة، وإذا لم تفعل ذلك، هدد ترامب، بأن بلاده لن تكون مُجبرة على حمايتها.

السحر ينقلب على الساحر كما يقال.

ومن ثم دخل مع أوروبا في صراع تجاري حول التعرفات الجمركية لتعديل الميزان التجاري بالإكراه لصالح الولايات المتحدة.

لكن الصفعة الأكبر لأوروبا والتي يجب أن توقظها هي خطة ترامب «للسلام» في أوكرانيا.

الخطة فيها 28 بنداً (خطته لغزة كانت 20 بنداً) وهي نُسِقت بالكامل مع روسيا (خطته لغزة تم تنسيقها بالكامل مع إسرائيل) ولم يتم أخذ رأي لا أوكرانيا ولا أوروبا فيها (خطته لغزة لم يتم أخذ رأي الفلسطينيين فيها والعرب فوجئوا بها عندما اجتمعوا معه في نيويورك).

الخطة فيها «مجلس سلام» برئاسته لمراقبة التنفيذ (مثل غزة) وهي تضمن لروسيا جميع مطالبها (خطته لغزة ضمنت لإسرائيل جميع مطالبها) وأهمها: تنازل أوكرانيا عن منطقتي الدونباس والقرم بالكامل لروسيا، وحتى المناطق التي لم تتمكن روسيا من احتلالها في الدونباس وما زالت تحت السيطرة الأوكرانية، على الأخيرة الانسحاب منها لتتحول إلى منطقة خالية من السلاح لكن تحت سيطرة روسيا.

الأسوأ في موضوع تنازل أوكرانيا عن أراضيها أن الخطة تطلب منها اعتبار خطوط الصراع الحالي في مقاطعتي خيرسون وزباروجية هي الحدود بين البلدين، بمعنى هي تكرس احتلال روسيا لأراضٍ أوكرانية لم تطالب بها روسيا عندما بدأت الحرب.

والخطة تفرض أيضاً على أوكرانيا، وكما تريد روسيا، عدم الانضمام للناتو وتضمين ذلك في دستورها، وتحديد حجم جيشها ليصبح ثلثي حجمه الحالي، وتعهداً من دول الناتو بعدم نشر أسلحة أو قوات في أوكرانيا ونقل طائراتها الحربية الموجودة حالياً فيها إلى بولندا، وتعهداً من أوكرانيا بعدم الحصول على سلاح نووي وبإبقاء منشآتها النووية تحت رقابة وكالة الطاقة الذرية.

مقابل ذلك تتعهد الولايات المتحدة ومقابل عائد مالي من أوكرانيا بضمان أمنها.

الخطة تضمن رفع العقوبات الاقتصادية عن روسيا وإعادة دمجها في الاقتصاد العالمي وإعادتها لمجموعة الثمانية، بينما أوكرانيا تحصل على خطة إعادة إعمار.

سلام الإخضاع والإذلال للفلسطينيين الذي دعمته أوروبا عبر تبنيها خطة ترامب في غزة، ها هو يتكرر في أوكرانيا، لكن هذه المرة من يتم إخضاعهم وإذلالهم هذه الحكومات الأوروبية التي اختارت التعامل مع القانون الدولي بشكل انتقائي.

السحر ينقلب على الساحر كما يقال.

هل تعود الدول الأوروبية للصواب بإعادة الاحترام للقانون الدولي الذي ينص صراحة على عدم جواز احتلال أراضي الغير بالقوة وعدم شرعية ضمها وتطبيق ذلك على فلسطين وأوكرانيا معاً؟ لست متأكداً.

في غزة تآمرت الحكومات الغربية مع المُحتل وبررت له جرائمه علما أنها كانت قد قصفت صربيا لأكثر من شهرين العام 1999 بذريعة حماية ألبان كوسوفو من خطر الإبادة والتهجير في الوقت الذي لم تفعل فيه صربيا في كوسوفو 1٪ مما فعلته إسرائيل في غزة.

وفي أوكرانيا، عملت أوروبا ضد مصلحتها واختارت خدمة الأجندة الأميركية، وبدلاً من أن تُدير مفاوضات مع روسيا لمنع الحرب منذ البداية ومن ثم لوقفها بعد حدوثها، حرضت أوكرانيا على الاستمرار فيها حتى هزيمة روسيا.

الآن، وعلى الأغلب، سيقبلون بالذل الذي يعرضه ترامب عليهم وسيبتلعون ريقهم حسرة.

القدس المصدر: القدس
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا