بعد مرور أكثر من عامين على المأساة الإنسانية غير المسبوقة التي يعيشها الفلسطينيون في قطاع غزة، من قتل واسع وتدمير شامل وتهجير قسري قلب الحياة رأسًا على عقب، جاء قرار مجلس الأمن الأخير ليعيد طرح أسئلة جذرية حول وظيفة النظام الدولي وقدرته على حماية الشعوب. فالقرار لا يبدو محاولة لإنهاء معاناة الغزيين بقدر ما يبدو، كما يصفه الخبير القانوني في الحقوق المدنية والإنسانية كريغ مخيبر، انحرافًا إضافيًا نحو مقاربة تُعلي المصالح الجيوسياسية على مبادئ القانون الدولي، وتُستبدل فيها العدالة بترتيبات تُسهِّل الهيمنة بدل أن تحدّ منها.
وعند التمعّن في بنية القرار، يتضح أنه يمنح الولايات المتحدة دورًا مركزيًا عبر إنشاء كيان جديد يحمل اسم "مجلس السلام"، مكلف بإدارة غزة والتنسيق المباشر مع إسرائيل، في تغييب كامل للفلسطينيين. هذا النموذج، كما يشير مخيبر الذي شغل منصبًا رفيعًا في منظومة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة حتى نهاية تشرين الأول 2023، ليس إلا إعادة تدوير لنهج الوصاية الأجنبية الذي عرفه العالم في منتصف القرن الماضي، حين كانت القوى الكبرى تدير شؤون الشعوب من فوق رؤوسها. وهو نهج يتناقض جوهريًا مع حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم ويُظهر شرخًا عميقًا في منظومة الشرعية الدولية.
ويستحضر مخيبر في أحد تحليلاته السياق القانوني المتمثل في حكم محكمة العدل الدولية الذي أكّد عدم شرعية الاحتلال وضرورة إنهائه. غير أنّ مجلس الأمن تجاهل هذا الحكم كليًا، وذهب نحو تكريس بنية مزدوجة من السيطرة: استمرار الاحتلال الإسرائيلي من جهة، وإضافة مظلة دولية بقيادة أمريكية من جهة أخرى. وفي مقاله المنشور في "موندووايس"، يصف مخيبر هذا الوضع بأنه "طبقة استعمارية مزدوجة" تُعيد صياغة الاحتلال في ثوب أكثر قبولًا لدى القوى الكبرى، وتحوّل مسار إنهائه إلى مشروع لإدارته طويل الأمد.
وما يزيد الصورة قتامة هو غياب أي إشارة في القرار إلى الجرائم الموثقة التي ارتُكبت في غزة – من قتل جماعي إلى حصار وتجويع وتهجير قسري وتدمير للبنى التحتية المدنية. وكأن مجلس الأمن يتعامل مع واحدة من أكثر الكوارث الإنسانية قسوة باعتبارها إشكالية تقنية تحتاج إلى ترتيب إداري جديد، لا باعتبارها جريمة تستدعي المساءلة. وهذا التجاهل، كما يلحّ مخيبر، يجعل فكرة “السلام” التي يروّج لها القرار مجرد غطاء لإدارة الصراع وليس لحلّه.
ويأتي إنشاء "قوة الاستقرار الدولية" ليكشف جزءًا آخر من الإشكالية، إذ تبدو القوة المزمعة أقرب إلى جهاز أمني يهدف لضبط السكان ومنع المقاومة ونزع السلاح، بدل أن تكون آلية لحماية المدنيين. فوظائفها محصورة في مراقبة الحدود والتنسيق مع إسرائيل، دون أي ضمانات لردع الاعتداءات الإسرائيلية أو مساءلتها. ومن خلال خبرته الطويلة في متابعة البعثات الأممية، يرى مخيبر أن مثل هذه القوات، حين تُفرض خارج الإرادة المحلية، تتحول إلى طرف في تكريس الترتيبات المفروضة، لا في حماية السكان الذين يُفترض بها أن تخدمهم.
وتبلغ المفارقة ذروتها حين يعفي القرار إسرائيل من مسؤولية إعادة الإعمار والتعويض عن الدمار الذي خلّفته حربها على غزة، مُلقيًا العبء المالي على المجتمع الدولي. وبهذا، تتحول الكارثة إلى فرصة سياسية واقتصادية تمنح الاحتلال دعمًا مواربًا، وتُسهم في "تطبيع الكارثة" كما يصف مخيبر، أي تحويل جريمة الإبادة إلى مقدمة لمرحلة سياسية جديدة تُبنى على أطلال حقوق الفلسطينيين.
وقد قوبلت هذه الترتيبات برفض واسع من القوى الفلسطينية وخبراء القانون الدولي ومنظمات المجتمع المدني، التي رأت في القرار اعتداءً على الحقوق الوطنية الفلسطينية وتهديدًا مباشرًا لمصداقية الأمم المتحدة. فبدل أن تمارس المنظمة دورها الأصلي في حماية الشعوب، تبدو اليوم – كما حذّر مخيبر مرارًا – وكأنها تنتقل تدريجيًا من موقع الضامن للشرعية الدولية إلى موقع المؤسس لشرعية موازية تخدم مصالح القوى المهيمنة.
ورغم نجاح الولايات المتحدة في تمرير القرار، فإن تطبيقه على الأرض محفوف بتحديات كبرى. فإدارة غزة عبر قوة أجنبية مفروضة دون قبول شعبي أمر يصعب استدامته، كما تُظهر تجارب دولية عديدة. ويؤكد مخيبر أن أي نموذج سياسي يُّفرض من الخارج، مهما بدا متينًا، سرعان ما ينهار أمام إرادة السكان.
ومن هنا، يصبح التصدي لهذا المسار مسؤولية متعددة المستويات: سياسية لإفشاله، قانونية لمحاسبة المسؤولين عن الجرائم، وشعبية لحماية الرواية الفلسطينية وحقوقها. كما قد تبرز الحاجة لاستعمال أدوات بديلة في المنظومة الدولية مثل "الاتحاد من أجل السلام"، في محاولة لاستعادة جزء من التوازن الذي اختلّ داخل مجلس الأمن. وفي هذا السياق، يظلّ صوت كريغ مخيبر تذكيرًا صارخًا بأن الأمم المتحدة تفقد معناها حين تنحاز للمعتدين بدل أن تحمي الضحايا.
إن أخطر ما ينطوي عليه قرار مجلس الأمن ليس فقط إعادة إنتاج السيطرة على غزة بطرق جديدة، بل تكريس تحوّل عميق في وظيفة الأمم المتحدة نفسها. فحين تُختزل العدالة إلى إدارة تقنية، ويتحوّل الفصل السابع إلى أداة لإعادة هندسة الصراعات بدل حلّها، يصبح الخلل بنيويًا. وما يحذّر منه مخيبر هو أنّ هذا المنحى لا يهدد الفلسطينيين وحدهم، بل يهدد النظام الدولي برمّته، إذ يفقد أهميته الأخلاقية والمؤسسية حين يعجز عن حماية الضعفاء.
المصدر:
القدس