آخر الأخبار

في الذكرى الـ٢١ لاستشهاده.. أبو عمار الزعيم الخالد والذاكرة التي لا تغيب

شارك

حاتم عبد القادر: أبو عمار مدرسة في الانتماء والإصرار والصمود وكان يؤمن أن الخيمة الفلسطينية يجب أن تتسع للجميع دون استثناء
د. حنان عواد: في ذكرى استشهاد ياسر عرفات القائد الاستثناء والوالد والإنسان يعيد الفجر ذاكرة أحلامه مستحضراً مواقفه الخالدة
جودت مناع: حمل الحلم الفلسطيني على كتفيه.. لم يكن ينتظر من التاريخ أن يُنصفه وكان يؤمن أن الوطن لا يُبنى إلا بالصبر والإصرار
سلوى هديب: لا نتحدث عن قائدٍ فحسب بل عن رؤية كاملة لبناء المجتمع وكانت المرأة حاضرة بقوة شريكة في النضال وصانعة للهوية
طلال أبو عفيفة: أبو عمار كان قائداً إنساناً يهتم بالقدس ومؤسساتها وأهلها ولم يبخل بخصوص أي مساعدة تُطلب منه في هذا الإطار


حلت الذكرى الحادية والعشرون لاستشهاد الرئيس ياسر عرفات "أبو عمار"، أمس، في ظروف استثنائية وصعبة يعيشها الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية، فيما يستعيد مسؤولون وإعلاميون وكُتّاب من القدس ذكرياته قائداً استثنائيّاً وإنساناً، إذ إنه لم يكن قائد مرحلة عابرة، بل كان مؤسساً لشرعية كفاحية حوّلت الفلسطيني من لاجئ بلا تمثيل، إلى شعب له كيانية سياسية معترف بها دولياً.
وأكدوا في أحاديث منفصلة لـ"ے" إلى أن الزعيم الخالد كان يحرص على وحدة التمثيل الوطني عبر تثبيت منظمة التحرير ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني، والحضور الدولي للقضية الفلسطينية، فقد كان مدرسةً في الانتماء والإصرار والصمود، وكان يؤمن أن الخيمة الفلسطينية يجب أن تتسع للجميع دون استثناء، في حين كان يولي القدس ومؤسساتها وأهلها اهتماماً خاصاً، ولم يبخل يوماً أو يتوانَ عن دعمهم.


العمل السياسي المباشر والوجدان الوطني العميق

قال حاتم عبد القادر، وزير شؤون القدس السابق، في حديث لـ"ے": من الصعب الحديث عن القائد الرمز ياسر عرفات دون أن تمتزج الكلمات بالعاطفة، فهو لم يكن مجرد زعيم وطني، بل كان مدرسة في الانتماء والإصرار والصمود. كانت علاقتي به مزيجاً من العمل السياسي المباشر والوجدان الوطني العميق، وقد شاءت الأقدار أن ألتقيه في محطات متعددة من مسيرتي العامة، سواء خلال زياراتي إلى تونس في سنوات الانتفاضة الأولى، أو أثناء مشاركتي في فريق المفاوضات الفلسطيني في مدريد وواشنطن، أو لاحقاً خلال فترة عملي نائباً منتخباً عن القدس في المجلس التشريعي.
وأضاف عبد القادر: في تونس، كنت شاهداً على تلك المرحلة التي احتضنت فيها العاصمة المنفى الفلسطيني، حيث كان أبو عمار يعيش بين المقاتلين والمثقفين والطلبة، لا تفصله عنهم أي حواجز، كان يجلس معهم كأب حنون يستمع ويمازح ويشد العزائم، وفي الوقت نفسه كقائد يعرف تماماً ما يريد لشعبه. لم يكن ينام قبل أن يطمئن على أخبار الداخل، وكانت القدس بالنسبة له الهاجس الأول والنبض الدائم في كل جلسة ولقاء؛ فقد ظلّ أبو عمار قريباً من القدس وأهلها، متابعاً لهمومهم ومشاريعهم ومؤسساتهم. لم يتأخر يوماً عن دعم صمود المدينة، سواء عبر التمويل المباشر للمؤسسات المقدسية، أو من خلال المواقف السياسية الحازمة التي كان يعلنها في كل محفل عربي ودولي. كان يردد دائماً أن "القدس هي قلب فلسطين، ومن دونها لا وطن ولا هوية".
وتابع: خلال مؤتمر مدريد وما تلاه من مفاوضات في واشنطن، أدركت عن قرب صبر هذا الرجل وعمق رؤيته، كان يعرف أن الطريق نحو الحرية لن يكون سهلاً، لكنه كان يصرّعلى أن تبقى القضية الفلسطينية حاضرة على طاولة العالم. في تلك الجلسات المرهقة والمشحونة، كان أبو عمار يزرع فينا روح الإصرار على أن نتمسك بالثوابت، وأن لا نفرط في القدس وحق العودة مهما طال الزمن أو اشتدت الضغوط.
وقال عبد القادر: كان ياسر عرفات زعيماً وحدوياً بامتياز، طيب القلب، واسع الصدر، يرى في وحدة الشعب الفلسطيني سر قوته وبقائه، كان يؤمن أن الخلاف لا يلغي الانتماء، وأن الخيمة الفلسطينية يجب أن تتسع للجميع دون استثناء، من مختلف الفصائل والتيارات، بما في ذلك حركة "حماس". وقد تجلتّ روحه الجامعة في مواقف عدة، أذكر منها أنه طلب مني ومن أخي اللواء بلال النتشة أن نتوجه إلى سوريا لتقديم واجب العزاء للقائد الراحل أحمد جبريل، الأمين العام للجبهة الشعبية– القيادة العامة، في استشهاد نجله جهاد، وذلك رغم الحملات الإعلامية التخوينية القاسية التي كانت تشنها آنذاك إذاعة القدس من دمشق التابعة لتلك الجبهة على الرئيس عرفات نفسه.
وأضاف: كانت تلك الحادثة مثالاً على نبله وسعة صدره، وإيمانه بأن الدم الفلسطيني فوق كل خلاف، مشيراً إلى أن "الحديث عن أبو عمار ليس استذكاراً للماضي، بقدر ما هو استحضار لروح ما زالت حاضرة بيننا، تُذكرّنا بأن القدس أمانة، وبأن الحرية لا تمنح بل تنتزع. رحم الله ياسر عرفات، الذي رحل جسداً، لكنه ترك لنا إرثاً من العزيمة والكرامة والوحدة الوطنية، سيبقى منارة للأجيال الادمة في طريقها نحو الحرية والاستقلال".

ياسر عرفات.. القائد الاستثناء والإنسان

بدورها، قالت د. حنان عواد، عضو المجلس المركزي: في ذكرى الزعيم الشهيد، يعيد الفجر ذاكرة أحلامه، وترنو النجوم بدموع الفراق، وأزلية النور الذي غطى سماء فلسطين المعتقة بسيرة ومسيرة رجل الرجال والقائد الاستثناء. تفيض إشعاعات الذكرى، وتعيد حضورها، ليسجل قلمي ملحمة البطولة، ويستحضر مواقف خالدة لرئيس خالد. هرم الثورة وصانعها، لتصبح نصاً خالداً، يمتشق عهداً لا تتمزق أوراقه، ولا تتوارى في عصف الرياح، ليطوف بنا وعلينا في كل صباح.
وأضافت: كنت طفلته المدللة، وصوته بالمحافل الدولية، مديراً عاماً لمكتبه ومستشاره الثقافي، وسافرتُ معه مراراً، والتقينا رؤساء الدول العظمى. كتبت له من إبداعاتي ما يليق به، على الصعيدين المحلي والدولي، بلغات متعددة، وحملت رسالته بقوة، ودعوتُ كتّاب ومثقفي العالم للتضامن معه، واحتفت فلسطين به وبهم، عبروا إليه وفوداً متضامنين ضد الحصار، معتبرين أن حصاره حصار للإنسانية.
وتابعت عواد: عدتُ من رحلة كلفني بها الرئيس الراحل لإلقاء كلمة سياسية باسمه في الأمم المتحدة، وقطعت الرحلة حينما علمت بتدهور صحته، وصلت إلى القدس، ثم توجهت إلى رام الله في الصباح، ذهبت إلى المقاطعة، فوجدت الساحة مليئة بالزائرين، وجلستُ قرب الحاج مطلق، واسترسلنا في الحديث عن "أبو عمار"، لم يكن الوضع مطمئناً، جماهير غفيرة حضرت. صعدتُ أدراج المقر إلى الغرفة التي اعتاد أن يلقانا بها، فوجدتها مكتظة أيضاً. سلمتُ على الحضور، وذهبتُ إلى العلاقات العامة لترتيب اللقاء، فقال لي أحدهم: "هؤلاء جميعاً يودون زيارته"، فأجبته: "أنا أولاً، ولا قوة تمنعني.."، وبعد قليل نادى عليّ، واستبقت الخطى إلى هناك.
واستطردت عواد: وقفتُ على باب الغرفة، فإذا بقلبي يهبط، شعرت بشيء ما غريب، ضباب كثيف ورعب شديد... غبار وغبار وغبار، أتلمس خطاي التي أخذت ترتجف.. طرحتُ السلام، كان أمامي الرئيس بثياب نومه جالساً على مقعده، وبقربه زوجته تلقي يداً على كتفه، وقربه من الجانب الأيمن الدكتور رمزي خوري رئيس مكتبه، وعلى اليسار جلس طبيب تونسي وطبيب الرئيس الخاص.
وأكملت: اقتربتُ خطوات من الرئيس، عانقتُه بكل حرارة ابنة، كان ينظر إليّ ويحدق بي مبتسماً، فقلت له دون تردد: "يا والدي، العهد هو العهد، والقسم هو القسم، عهداً أن أسير كما علمتني، وأن أحمل رسالتك النضالية الوطنية إلى العالم حتى آخر يوم في حياتي وآخر قطرة من دمي".
كان الرئيس مبتسماً، ولا أدري ان كان يسمعني، بل كان يطبطب على كتفي... وأعدت عهدي ثانية وثالثة، ورسمت الطريق، والكل ينظر إليّ مندهشاً، وكأنني لا أرى أحداً سواه.
وأضافت: أردت المغادرة، ووصلت إلى الباب، ولم أستطع، تفجرت عناقيد القلب، ثم عدت ثانية لأعانقه وأودعه وأتلمس الدعاء.. كررت هذا الفعل عدة مرات، أعاود العناق ممسكة بيديه الطاهرتين، يقتلني الألم لأعود ثانية إليه، فقال لي الطبيب: "يكفي، يجب أن يرتاح"، خرجت ووجهي إليه، وظللت أعود إلى الخلف، إلى أن غاب المشهد.
وتابعت: في كل وداع ذاكرة لقاء، أحن إلى اللقاء الأول وجهاً إلى وجه، بعد لقاءات كثيرة عبر الهاتف، حيث كان يعطي أوامره بنشر قصائدي في "فلسطين الثورة" ومجلة المجلس الوطني.
وقالت عواد: زرتُ الكويت بعد عودتي من مهرجان المربد في العراق، ولما ودعت الشمس النهار، جاءتني سيارة الرئاسة لتأخذني إلى قاعة المهندسين، حيث سيلقي أبو عمار كلمة هامة. وفي حفل متواضع، ألقى أبو عمار كلمته، وعند انتهاء الكلمة، سار بين الناس في لقائه الأبوي الدائم، وكان قد انتحى الكوفية جانباً، اقتربت من الأخ السفير عزام الأحمد الذي كان مشرفاً على برنامجي الثقافي، وقلت له: خذني إلى زعيم الأمة ثانية، سرنا باتجاهه، ثم قدمني إليه قائلاً: "هذه حنان عواد"، رحب بي كثيراً كعادته، وعانقني قائلاً لعزام: "أنا أعرف حنان قبلك، عرفتها من كتاباتها ومواقفها المشرفة قبل أن ألقاها في العراق، ثم أضاف: "ولكنني لم أكن أدري أنها بهذه الرقة"، ضحكنا وسلمنا على الحضور، وعرّفني على القيادة.
وتابعت: خاطبتُ الرئيس ببراءة متناهية قائلة: آمل أن أراك في القدس، نظر إليّ طويلاً بوجهه المضيء قائلاً: "إن شاء الله قريباً يا حنان"، ولم أدرِ ما معنى قريباً، أهو زمن إلهي أم بشري؟ ولـمّا انتهى حفل الاستقبال، طلب الرئيس حضوري إلى قصر الرئاسة. كان عدد من السفراء الفلسطينيين والإعلاميين في مقر الرئاسة يلتفون حول الرئيس، قدمني الرئيس إليهم، ثم دخل إلى غرفته، ثم تجمع حولي الإعلاميون للحديث عن الانتفاضة المباركة. أنهيت الحوارات، دعاني الرئيس على مائدة العشاء، وبعد العشاء دعاني في مقابلة خاصة.
واستطردت عواد: تجلت عظمة المساء، وهو يسدل ستائره الحريرية ليأخذني إليه، وتأتي صورته عن قُرب، كان ذاك اليوم الموشى بالورود حين عبرت إليه، كان يجلس وقربه الأخ أبو الطيب، قدمني إليه..نظرت طويلاً قبل أن أنبس ببنت شفة، خفقات القلب يعلو ارتقاؤها، مشاهد ملائكية الأنا في شجرة العشق الأبدية، تأخذ روحها من روح العهد والوعد.


تجسّد الحلم الفلسطيني في ملامحه التي لم تهزمها الأيام

من جانبه، قال الكاتب والصحفي جودت مناع: علاقتي بالقائد الراحل ياسر عرفات تجاوزت الحواجز الرسمية، وظلّت ذكرى لا تفارق وجداني منذ اللحظة الأولى لرحيله. لم تكن معرفتي به علاقة صحفي برئيس، بل كانت مساحة إنسانية عميقة تفيض بالاحترام والعاطفة والدهشة في آنٍ واحد. في كل لقاء معه كنت أرى التاريخ يمشي على قدميه، والعناد الفلسطيني يتجسّد في ملامحه التي أنهكها الحصار ولم تهزمها الأيام.
التقيت بعدد من الرؤساء، منهم كينيث كاوندا خلال لقائي به في لندن، وأبلغني تحياته ومحبته للرئيس الراحل ياسر عرفات، وعندما أخبرت الرئيس بذلك ابتسم ابتسامة عريضة وهو يروي علاقات منظمة التحرير بالدول الأفريقية والمساعدات التي كانت تقدمها المنظمة لعدد من تلك الدول، من بينها زامبيا، ولحزب المؤتمر الذي يتزعمه الراحل نيلسون مانديلا في جنوب أفريقيا. كما أخبرته بدعم وزير خارجية السويد ستين أندرسون حين التقيته في مخيم الدهيشة، فأكد دور الاشتراكية الدولية ومواقفها الداعمة للشعب الفلسطيني.
وأضاف مناع: كان لقائي الأول بالرئيس عرفات بعد عودته إلى الوطن في رام الله، ضمن وفد نقابة الصحفيين الفلسطينيين فور عودته من الخارج. استقبلنا بابتسامته المألوفة قبل أن يسأل عن بيت لحم وأحوالها، وعندما التحقت بهيئة تحرير جريدة فلسطيني التابعة للرئاسة في رام الله أوصى أحد مستشاريه بتأمين سكن لي في المدينة خشية على سلامتي في الطريق بين بيت لحم ورام الله. تلك اللفتة البسيطة كشفت عن عمق إنساني في رجلٍ حمل على كتفيه همّ وطنٍ بأكمله.
وتابع مناع: تكررت اللقاءات بعد أن أجريت مقابلة صحفية معه في تونس عام 1992 في غزة ورام الله، في مقره المتقشف الذي تحوّل إلى رمز للصمود. كنت أضع بين يديه أعداد صحيفة فلسطين التي عملت في تحريرها، فيتصفحها بعناية حتى يرفع رأسه قائلاً بلهجته المصرية المحببة: "إيه يا جودت...".
ويروي مناع أنه "ذات مرة، أشار إلى صورة وضعت فيها صورته فوق صورة الرئيس المصري حسني مبارك، فابتسم قائلاً: «لازم صورة مبارك فوق صورتي». كانت تلك البساطة الممزوجة بالصرامة جزءاً من شخصيته التي لا تخطئها العين، مزيجاً من قائدٍ يعي البروتوكول ويحتفظ بقدرٍ كبير من روح الدعابة".
وقال مناع: "خلال حصار المقاطعة، زرته في ساعةٍ متأخرة من الليل. كان يجلس خلف مكتب صغير تحيط به ملفات كثيرة في غرفة صغيرة، وفي الجهة الغربية المقابلة للنافذة المجللة بستارة ثقيلة، تطوّق الدبابات المكان. قال لي بصوتٍ متعبٍ وعيونٍ يغمرها الأسى: (شايف يا جودت... ولا رئيس عربي بيتصل فيّ)".
وأضاف: في تلك اللحظة شعرت أنني أمام رجلٍ يواجه وحده حصار العالم، وأن عزلته كانت أعمق من جدران المقاطعة. ومع ذلك، كان الإصرار يلمع في عينيه كجمرة لا تنطفئ.
وتابع مناع: كانت مائدته بسيطة كقلبه: جبنة بيضاء، بيض مسلوق، لبنة، وقزحة، فلافل وحمص وفول. يجلس القادة حوله يتبادلون الحديث، بينما كان يوزّع الفاكهة بنفسه على الحاضرين بابتسامة أبوية. كنت أفضّل الإصغاء أكثر من الكلام خلال مشاركتي عدداً من تلك الموائد إبان الحصار، وأستمع لما يقوله القادة من حوله -مروان البرغوثي وجبريل الرجوب وعبد الرحيم ملوح وحسن يوسف وغيرهم نحو 20 آخرين- فيما كان أبو عمار يجلس في منتصف الطاولة، يشبه الأب أكثر من الرئيس.
وأشار مناع إلى أنه "ذات يوم خلال لقائي به في غزة، دخل إلى القاعة متجهّم الوجه بعد هجومٍ على مراكز الأمن التابعة للسلطة، وقال بلهجةٍ حازمة لا تُنسى:
"إحنا مش خونة... إحنا اللي قاتلنا لأجل فلسطين". كان صادقاً، ينطق بكلماته كما لو كانت قسمَ حياةٍ متجددٍ لا ينتهي إلا بالشهادة.
وقال: قبل رحيله بثلاثة أشهر، أجريت مقابلةً صحفية معه برفقة الصحفي السويدي بيتر كادهمر. سألته في نهايتها سؤالاً ظلّ يراودني طويلاً: "ماذا حقق ياسر عرفات خلال مسيرته؟"، صمت قليلاً وأركن ذقنه على قبضته، ثم قال بعينين حادتين: "اذكر لي أي رئيس عربي حقق شيئاً لبلاده"، فكان جوابه خلاصة رجلٍ حمل الحلم الفلسطيني على كتفيه ومضى به حتى آخر أنفاسه. لم يكن ينتظر من التاريخ أن يُنصفه، بل كان يؤمن أن النضال هو الطريق، وأن الوطن لا يُبنى إلا بالصبر والإصرار.
وأضاف مناع: حين آثرت زيارة ضريحه في رام الله بعد رحيله كي لا يفضحني الحزن، وقفت أراقب حشود الجماهير في محيطه، شعرت أن المكان يحتضن الجسد فقط، أما الروح فما زالت ترفرف بيننا، في ذاكرة الفلسطينيين، في الأزقة والمخيمات، في الحلم الذي لم يمت. رحل أبو عمار، لكن حضوره ما زال أقوى من الغياب. ترك فينا ما يشبه الخلود: إرادة لا تضعف، وعيناً لا تنام عن الحلم.

أصبح اسمه جزءاً لا يتجزأ من فلسطين والذاكرة الوطنية

وقالت سلوى هديب، رئيسة ملتقى القدس للنساء العربيات: نقف اليوم في ذكرى رحيل القائد المؤسس ياسر عرفات "أبو عمار"، الرجل الذي أصبح اسمه جزءاً لا يتجزأ من فلسطين ومن الذاكرة الوطنية الفلسطينية، ومن سجل الشعوب التي رفضت الانكسار ، وأصرت أن تكتب قصتها بيدها.
وأضافت: كان ياسر عرفات قائداً آمَنَ بأن الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع ؛ وأن الهوية لا تُحفظ بالشعارات، بل بالصمود والعمل والتضحيات. منذ انطلاقة الثورة الفلسطينية، وحتى لحظة استشهاده، حمل قضيتنا على كتفيه في كل منبر، وكل ساحة، وكل معركة، وكل طاولة مفاوضات.
وتابعت: لم يكن أبو عمار مجرد رئيس أو قائد سياسي، بل كان رمزاً لوحدة الشعب الفلسطيني بكل مكوّناته. فتح باب منظمة التحرير لكل الفلسطينيين، واعتبر اختلافاتهم مصدر قوة، لا سبباً للفرقة. رأى في النساء نصف المجتمع ونصف القوة، ودعم حضورهن في النضال والعمل السياسي، مؤمناً أن الحرية التي لا تشمل المرأة ليست حرية كاملة.
وأكدت هديب أنه "واجه الحصار السياسي والعسكري والاقتصادي، لكنه لم يتراجع ولم يساوم على الثوابت: القدس عاصمة، ولا ننسى شعاره الأبدي "عَ القدس رايحين شهداء بالملايين، واللاجئين والعودة حق، والدولة استحقاق، والكرامة الوطنية خط أحمر".
وقالت: في سنواته الأخيرة، حين ضاق عليه الحصار، كان صموده رسالة تقول إن القائد الحقيقي لا يغادر مواقفه، حتى وإن غادر الحياة. رحل أبو عمار جسداً، وبقيت كوفيته، وصوته، ومواقفه، شاهدة على أن فلسطين لا تُنسى، ولا تسقط بالتقادم، ولا تسقط بالتعب.

تجديد العهد للقيم التي جسّدها

وتابعت هديب: في ذكرى استشهاد أبو عمار، نحن لا نرثيه، بل نجدد العهد للقيم التي جسّدها: الوحدة، والثبات، والتمسك بالحقوق، والإيمان بأن الشعب الفلسطيني قادر على أن يصنع مستقبله مهما طال الطريق.
وقالت: حين نتحدث عن ياسر عرفات، فإننا لا نتحدث عن قائدٍ فحسب، بل عن رؤية كاملة لبناء المجتمع الفلسطيني. وفي قلب هذه الرؤية كانت المرأة الفلسطينية حاضرة بقوة، شريكة في النضال وصانعة للهوية الوطنية. رأى في النساء قوة لا تُكسر، وصموداً لا ينتهي.
وأضافت: كانت المرأة شريكة في الخندق والكفاح المسلح والعمل التنظيمي السري والعلني ودعمها في العمل السياسي وآمَن بقدرتها كنائب بالمجلِسَيْن الوطني والمركزي وبوجودها بكافة ساحات العمل النقابي والسياسي وهو الذي قال في وثيقة الاستقلال أن المرأة الفلسطينية ليست قضية نسوية فحسب بل هي قضية مجتمعية ووطنية وسياسية ترأس جميع القطاعات عليها كل الواجبات كما الرجل ولها نفس الحقوق والمرأة والرجل متساوون أمام القانون ، وهي التي تربي الأجيال تربية وطنية تاجها الكرامة والإنتماء.
واستطردت هديب: اليوم، ونحن نستحضر سيرة أبو عمار، نستحضر معها إيمانه العميق بأن المرأة كانت وستبقى حارسة الحلم الفلسطيني، وركيزة أساسية في معركة الحرية وبناء الدولة. حين نتحدث عن ياسر عرفات، فإننا لا نتحدث عن قائدٍ فحسب ، بل عن رؤية كاملة لبناء المجتمع الفلسطيني. وفي قلب هذه الرؤية كانت المرأة الفلسطينية حاضرة بقوة، شريكة في النضال وصانعة للهوية الوطنية.
وقالت: كان أبو عمار يؤمن بأن المرأة ليست مجرد عنصر مساعد في المشروع الوطني، بل ركن أساسي من أركانه. كان يقول دائماً: "لا يمكن أن تقوم دولة فلسطينية دون مشاركة المرأة… ولا يمكن أن نحرر الوطن ونترك نصف الشعب خارج المعركة".

أبو عمار.. كانت القدس في قلبه دوماً

أما طلال أبو عفيفة، عضو الأمانة العامة لاتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين، فقال:‎ رحم الله القائد الرمز ياسر عرفات في ذكرى رحيله الـ (٢١) .. وكان لي الشرف في أن أقابله للمرة الأولى في عمان عام ١٩٩١ ضمن وفد المستشارين والإعلاميين بعد عودتنا من مؤتمر مدريد للسلام، حيث قابل قبلنا في تونس الوفد الفلسطيني المفاوض برئاسة الدكتور حيدر عبد الشافي وفيصل الحسيني رحمهما الله بعد وصول الوفد من مدريد بطائرة عسكرية إسبانية.
وأضاف: بعد ذلك قابلته عشرات المرات في تونس وغزة ورام الله من خلال عضويتي في لجنة القدس واللجنة الحركية العليا لحركة فتح، وكانت لي ذكريات عديدة معه، سأذكر حادثتين فقط تتعلق بكرمه واهتمامة بالقدس وأهلها:
الأولى كانت عام ١٩٩٦عندما طالبت مقابلته لطلب مساعدة لزوجة معتقل، دخلت عنده يومها وحدي وكان يتناول بعض قطع الفواكه من صحن موضوع أمامه، فقال لي: كيف القدس يا طلال. فقلت: مشتاقة لزيارتكم. قال: إن شاء الله قريباً. ثم قدمت له كتاب مساعدة لزوجة معتقل لديها خمسة أطفال. تناول الكتاب واطلع عليه وقال بصوت عال: معقول يا طلال، تطلب ثلاثة آلاف دولار. ارتجفتُ واعتقدتُ أنني أطلب مبلغاً كبيراً، ثم وقع الكتاب وأعاده لي، وبعد ذلك وخلال الحديث معه تسلل نظري للكتاب لأرى كم كان المبلغ الذي وقع عليه، فرأيت أن المبلغ سبعة آلاف دولار، سُررت يومها، وقد أدخلت السرور إلى قلب زوجة المعتقل التي شكرتني وشكرت الرئيس أبو عمار على هذه المساعدة.
أما اللقاء الثاني، فكان عام ١٩٩٨، يومها اتصل بي صديق من قرية بدو من قرى القدس إبراهيم أبو عيده، وقال: يوجد طفل في البلدة بحاجة إلى عملية عاجلة ووالده ليس بإمكانه تغطية تكاليف العملية، فهل من الممكن مساعدته، قلت له أكيد الرئيس أبو عمار لن يتترد بمساعدة أي مريض، خاصة من القدس، أخذت اسم الطفل، وفي الصباح كان يوم الجمعة ورغم تساقط الثلوج بكثرة اتجهت من القدس إلى مقر المقاطعة في رام الله بسيارتي التي توقفت عند البوابة الخارجية للمقاطعة بسبب تراكم الثلوج، نزلت وتوجهت إلى بوابة المقاطعة الداخلية وطلبت مقابلة الرئيس، إلا أن الحراس رفضوا إدخالي، وقالوا: بإمكانك الاتصال بالعلاقات العامة لترتيب موعد في يوم آخر. قلت لهم: لدي كتاب للرئيس لمساعدة طفل بحاجة إلى إجراء عملية عاجلة. أحدهم قال: انتظر بعد ساعة سينزل الرئيس لصلاة الجمعة، سنُدخلك للصلاة مع الرئيس وبعد ذلك دبر حالك.
وأضاف أبو عفيفة: فعلاً بعد نحو الساعة دخلت إلى مكان الصلاة ورأيت عدداً من الشخصيات والضباط يجلسون وينتظرون قدوم الرئيس. مع الأذان دخل الرئيس وجلس في المقدمة، أقيمت الصلاة وصلينا مع الجميع، وقبل مغادرة الرئيس سلم على الجميع. وهنا حاولت أن أتحدث مع الرئيس حول ما جئت به، حاول أحد مرافقيه منعي، إلا أنني قلت للرئيس إن طفلاً بحاجة إلى عملية سريعة، توقف الرئيس وأبعد المرافق وقال: تعال يا طلال ومسك يدي وقادني إلى الطابق الثاني مكان مكتبه وأخذ الكتاب ووقّع عليه: "يعالج فوراً على حساب السلطة"، شكرته وغادرت، وساعدني أحد الجنود الفلسطينيين على تشغيل سيارتي المغروسة إطاراتها في الثلج والخروج من المقاطعة، وانطلقت بعد ذلك إلى قرية بدو وسلمت الكتاب إلى الصديق إبراهيم أبو عيدة الذي شكرني وشكر الرئيس، واتصل بوجودي بوالد الطفلو وأبلغه بمضمون الكتا، ففرح كثيراً. هذا أبو عمار لم يبخل يوماً بخصوص أي مساعدة تُطلب منه للقدس.



القدس المصدر: القدس
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا