آخر الأخبار

متابعة الحدث| كيف غطت الصحافة الإسرائيلية فوز ممداني؟

شارك

متابعة الحدث

قدّمت الصحافة الإسرائيلية فوز زهران ممداني بوصفه حدثًا انتخابيًا أميركيًا كبيرًا يحمل معنى مضاعفًا في الوعي الإسرائيلي: لحظة صعود سياسي لوجهٍ تقدميٍّ شاب ذي خلفية مهاجرة ومسلمة، ولحظة تهديد رمزيّ وسياسيّ في آن، لأن الرجل ارتبط في الخطاب الإسرائيلي بكونه “مناهضًا لإسرائيل” و”مقرّبًا من التيار الاشتراكي الديمقراطي”. هكذا امتزج الخبر بالتحشيد، والوقائع بالتصنيفات الأيديولوجية، لتنتج تغطية تُقاس فيها مدينة بحجم نيويورك، بكل ما تمثّله من تحولات اجتماعية وسياسية أميركية، بمسطرة صراع الرواية مع “إسرائيل” وحروبها الراهنة.

منذ العناوين الأولى، جرى التحكيم في معنى الفوز عبر ثلاث عدسات متداخلة: أيديولوجيا ممداني (اشتراكي/تقدّمي/مناهض للصهيونية)، هوية ممداني (مسلم/ابن مهاجرين/شاب من خارج المؤسسة)، وأثر ذلك على اليهود في نيويورك وعلى العلاقة مع “إسرائيل”. هذه العدسات ستتحكم بباقي السرديات: من إبراز الأرقام القياسية في نسبة التصويت، إلى تكبير كل جملة قالها ممداني عن وقف الاستثمارات المرتبطة بـ“إسرائيل”، وصولًا إلى استدعاء دونالد ترامب في المشهد بوصفه خصمًا مباشرًا للرجل.

من الخبر إلى التأطير: كيف بُنيت الرواية؟

تبدأ معظم المصحف العبرية من “الخبرية الصافية”: إغلاق صناديق الاقتراع، إعلان الشبكات الأميركية الفائز خلال أقل من ساعة، تفوق واضح على أندرو كومو، وتحوّل تاريخي لكون ممداني أوّل مسلم يتولى رئاسة مدينة نيويورك وهو في منتصف الثلاثينيات. لكن سرعان ما يتحول السرد إلى تأطيرٍ قيمي: تعبيرات من قبيل “مناهض لإسرائيل”، “مناهض للصهيونية”، “وجه اليسار الراديكالي”، تُستعمل كمفاتيح قراءة مسبقة، بحيث تغدو كل فقرة لاحقة — خطاب النصر، برنامج النقل العام، سياسات الإسكان، حتى التحية بالعربية — دليلًا إضافيًا على هذا التأطير.

في هذا السياق، يبرز توظيف مكثف لثنائية “اليهود–المسلمون” داخل نيويورك. تُقتطع عبارات من خطاب ممداني حول “مكافحة معاداة السامية” و“مكان المسلمين في أروقة السلطة”، لتُقدَّم ضمن منطق اختبار الولاء: هل سيتحوّل الوعد بحماية اليهود إلى سياسة فعلية، أم أنه قناعٌ تقدّميٌّ لخصومةٍ مع “إسرائيل”؟ وبموازاة ذلك، تُستعاد اقتباسات سابقة لممداني عن غزة، وعن “تدويل الانتفاضة”، وعن مقاطعة الاستثمارات، لتغذية الشكّ حيال وعود “جسر الفجوات” داخل المدينة.

شخصنةٌ مضادة: من ممداني إلى ترامب

تُسارع التغطية إلى إدخال ترامب لاعبًا داخليًا في القصة: تهديده بقطع تمويلات فدرالية عن المدينة إن فاز ممداني، وصفه له بـ“الشيوعي”. بهذا البناء، لا يعود فوز ممداني شأنًا محليًا، بل يصبح فصلًا أول في صراع قومي أميركي تنعكس صداه على “إسرائيل”. ويُوظَّف هذا الربط لغايتين: تكبير معنى الانتصار (من بلدية إلى معركة هوية أميركية) وتحويله إلى إنذار لإسرائيل (احتمال تشريعات ضغط، وحملات انسحاب استثماري، وتبدّل مزاج حضريّ في أكبر مدن الولايات المتحدة).

أرقام المشاركة: حقيقة انتخابية تُستخدم كحجّة أخلاقية

تتوقف التغطيات عند القفزة في نسب الإقبال وعدد المقترعين كأثر سياسي: “تفويض للتغيير”، “موجة تقدّمية”، “كسر عزوف تاريخي”. لكن هذه المعطيات لا تُقرأ كدينامية ديمقراطية بقدر ما تُسخّر لإسناد أطروحة مضادة: لم يفز ممداني فقط بسبب ماكينة يسارية أو تفكك المؤسسة الديمقراطية التقليدية، بل لأن “اليسار الراديكالي” بات ينجح في تحويل الإحباط الاجتماعي— السكن، المواصلات، الأمن المحلي— إلى تفويضٍ سياسي قد تكون لـ“إسرائيل” كلفةٌ مباشرة منه. هكذا تُربط السياسات البلدية اليومية بموقع “إسرائيل” في الوعي المدني لمدينة كونيورك.

اليهود في نيويورك: كتلة صوتية لا رأيًا واحدًا

أبرزت بعض المنصات أرقامًا عن اتجاهات التصويت اليهودي لمصلحة كومو مقابل ممداني، لتثبت فرضية “الممانعة” اليهودية للرجل، فيما أشارت تغطيات أخرى إلى شريحة معتبرة من اليهود الذين صوّتوا لممداني، بل وإلى وجود مستشارين يهود ضمن فريقه. هذه الازدواجية مقصودة: من جهة ترسيخ الإطار التحذيري “القلق اليهودي”، ومن جهة الإقرار بأن المدينة أكثر تركيبًا من ثنائية صِدامية مبسّطة. مع ذلك، تظل الجملة الحاكمة في أغلب المتون: فوز ممداني يفاقم الانقسام داخل الجالية اليهودية ويضع اختبارًا جديدًا لعلاقة المدينة بـ“إسرائيل”.

بين البرنامج البلدي والملف الفلسطيني: أولوية التأثير الرمزي

على مستوى السياسات، تُفرد التغطيات حيزًا لوعود ممداني الاجتماعية: تجميد الإيجارات، مواصلات عامة مجانية، حضانات بلا رسوم، وتوسيع حقوق العمال. لكنها تعود دومًا إلى “بيت القصيد”: مواقفه من غزة، ورفضه الاعتراف بـ“إسرائيل” كـ“دولة يهودية”، واستعداده لدعم خطوات قانونية ضد بنيامين نتنياهو إذا وطأت قدماه نيويورك. النتيجة: حتى السياسات المدنية تُقرأ كرافعةٍ لهيمنة خطاب “ضد إسرائيل”، بما يصنع تراتبيةً تُقدّم الملف الفلسطيني/الإسرائيلي بوصفه محدِّدًا أعلى لمعنى الولاية البلديّة.

سياق أميركي أوسع: اختبارٌ للديمقراطيين ومرآةٌ لـ“إسرائيل”

تضع التغطيات الفوز ضمن اشتباك أوسع داخل الحزب الديمقراطي الأميركي بين الأجنحة الوسطية والتقدمية. من زاوية إسرائيلية، يُقرأ ذلك كإشارة إنذار إستراتيجية: إذا كانت نيويورك — بأكبر كتلة يهودية في الشتات — تقبل ببرنامجٍ كهذا، فإن ميزان القوة السردي حول غزة و“إسرائيل” يتبدّل في الحيز الحضري الليبرالي الأميركي. وهنا تبرز نبرة “المعركة الطويلة”: ليس المقصود ولاية ممداني وحدها، بل ما قد يتبعها من محاولات تشريعية في مجالات الاستثمار، الشراكات، والتمثيل الرمزي للمجتمع الفلسطيني/العربي في الفضاء العام.

تكشف تغطية الإعلام العبري لفوز زهران ممداني ثلاث حقائق متشابكة: أولًا، مركزية “اختبار الولاء لإسرائيل” كعدسةٍ تسبق أي تقييم مهني لبرنامجٍ بلدي، بحيث يتحول رئيس بلدية نيويورك إلى فاعلٍ في ملفٍ خارجيّ من اللحظة الأولى. ثانيًا، استمرار الميل إلى شخصنة الصراع عبر استدعاء ترامب واليمين الأميركي، لتوسيع المسرح وتحويل الفوز إلى مواجهةٍ قومية تتجاوز حدود المدينة. ثالثًا، إدراكٌ بأن الخريطة اليهودية في نيويورك ليست كتلةً صلبة، وأن خطاب الحقوق الاجتماعية يمكنه، حين يقترن بسردية مناهِضة لسياسات “إسرائيل”، أن يشقّ طريقه داخل قطاعات من تلك الجالية.

بهذا المعنى، لا تقف التغطية عند “من فاز وبأي نسبة”، بل عند سؤالٍ أعمق: كيف ستتعايش نيويورك بوصفها مختبرًا ديمقراطيًا أميركيًا مع ولايةٍ يقودها وجهٌ تقدّميّ يَعد بسياسات اجتماعية طموحة، فيما يضع الإعلام الإسرائيلي عينه على كل إشارةٍ يمكن تأويلها سياسيًا ضد “إسرائيل”. ما بعد العناوين سيكون اختبارًا مزدوجًا: قدرة ممداني على تحويل البرنامج البلدي إلى إنجازات ملموسة، وقدرة الإعلام العبري على الانتقال من خطاب التحذير إلى متابعة مهنية تحاسب السياسات بما هي سياسات، لا بما تُسقَط عليها من معارك الهويّة.

الحدث المصدر: الحدث
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا