الحدث - محمد بدر
تُعدّ "فتيات التلال" الواجهة النسائية لحركة المستوطنين الشباب غير الرسميّة في الضفة الغربية المحتلة، المعروفة في الأوساط الإسرائيلية باسم "فتية التلال". هؤلاء الفتيات يعشن في بؤر استيطانية عشوائية تُقام على قمم التلال في قلب الأراضي الفلسطينية المحتلة، خارج القانون الإسرائيلي والدولي على حدّ سواء. وتشير التقارير والدراسات الأكاديمية إلى أنّ عدد أفراد الحركة، ذكورًا وإناثًا، لا يتجاوز بضع مئات، وغالبًا ما يصعب تحديده بسبب غياب أي هيكل تنظيمي رسمي.
تعود جذور الظاهرة إلى مطلع الألفية الجديدة، حين قاد أبناء الجيل الثاني والثالث من المستوطنين حراكًا مضادًا لسياسات حكومات الاحتلال التي بدأت، بعد انتفاضة الأقصى، بالتلميح إلى انسحابات محدودة من بعض المواقع. الفتيات اللواتي انضممن إلى هذا التيار لم يكنّ مجرّد مرافقات للرجال، بل أسسن بؤرًا نسائية خالصة مثل "معوز أستير" و"أور أهوفياه" على أراضي الفلسطينيين شمال شرقي رام الله، حيث تعيش مجموعات من الشابات دون ماء أو كهرباء، يبنين الأكواخ بأيديهنّ، ويقمن بأعمال الزراعة والحراسة اليومية.
تقول إحدى الفتيات اللواتي شاركن في تأسيس هذه البؤر في مقابلة أجراها الباحثان روزنبرغ وفوغلمان-ناتان عام 2023: "جئنا إلى التل لأننا أردنا أن نعيش حياة حقيقية، لا حياة بلا معنى داخل المدن. هنا نشعر أن كل يوم هو معركة صغيرة من أجل الأرض والربّ". وتضيف أخرى: "نستيقظ مع شروق الشمس، نزرع ونبني ونحرس. هذه ليست تضحية، بل حياة كما أرادها الله. نحن نحرس الأرض التي وعد بها آباؤنا". هذه العبارات تعبّر عن مزيج من الروح التبشيرية والزهد الطقوسي الذي يُقدَّم كبديل للحياة المدنية، لكنها تخفي خلفها مشروعًا سياسيًا لإعادة إنتاج السيطرة الإسرائيلية على الأرض الفلسطينية عبر غطاءٍ دينيٍّ وشخصيٍّ في آن.
تصف الباحثة في شؤون الاستيطان ريبيكا بورشتاين هذه التلال بأنها "مساحات حرّة تسمح للفتيات بتجريب نمط حياة خارج الحدود العائلية والمدرسية"، لكنها في جوهرها مشروع استيطاني يُعيد إنتاج الأيديولوجيا الصهيونية من بوابةٍ دينية متشددة. فالفتيات يقدّمن أنفسهن كـ"رائدات عودةٍ إلى الجذور" في مواجهة ما يعتبرنه انحلالًا في المجتمع الإسرائيلي المدني. إلا أنّ هذه "العودة إلى الطبيعة" تجري فوق أرضٍ فلسطينية محتلة، وتتحوّل عمليًا إلى عملية استعمار ممنهجة تُغلفها شعارات روحانية، تتقاطع فيها مفردات "القداسة" و"الطهر" مع بنية الاستيطان العنفي.
من "الأنوثة المقدسة" إلى العسكرة المبطّنة
تُقدّم الأيديولوجيا الصهيونية الدينية دور المرأة باعتبارها حارسة الهوية الروحية و"المولِّدة" للجيل الذي سيُقيم الخلاص. لكن فتيات التلال يذهبن أبعد من الصورة التقليدية؛ فهنّ يجمعن بين الخطاب الديني المحافظ وأداءٍ ميدانيٍّ ذي طابع عسكري. بعضهنّ تلقين تدريبات في إطار الخدمة الوطنية أو العسكرية قبل الانتقال إلى التلال، ويقمن بدور الحراسة ليلاً، ويُشاركن في "أعمال الدفاع عن الأرض"، وهو التعبير الذي يُخفي في الواقع عمليات اعتداء متكرّرة على المزارعين الفلسطينيين وتخريب ممتلكاتهم.
تمتاز الحياة اليومية على التلال بالفصل التام بين الجنسين، وتُدار وفق الشريعة اليهودية (الهلاخاه)، حيث تُنشئ الفتيات منظومة قيم ذات طابع رهباني تقريبًا: صلوات، أعمال يدوية، زراعة، وبناء، ضمن حياة شبه جماعية تخضع لتوجيه ديني مستمر. هذا الإطار يخلق ما يمكن وصفه بـ"العسكرة المبطنة للأنوثة"؛ فالفتاة تُدرَّب على الصمود والخدمة والانضباط، وتتحوّل إلى رمزٍ لقداسة الأرض ومركزية التضحية. في إحدى المقابلات تقول إحدى الفتيات: "عندما هدم الجيش الكوخ الذي بنيناه، بكينا جميعًا، لكننا عدنا في اليوم التالي لنقيم واحدًا جديدًا. الربّ لا يريدنا أن نستسلم" وهي عبارة تختصر فلسفة الحياة الاستيطانية التي تدمج العبادة بالسيطرة على أرض الغير.
ويرى الباحث الإسرائيلي إيال فريدمان أنّ هذا النمط من التدين الميداني يُحوّل الفتاة من كائن رمزي إلى أداة فاعلة في الاستيطان؛ إذ تصبح "الأم الروحية للمكان" و"الجندية الصامتة في جيش الربّ". فكل عمل تقوم به، من تنظيف الأكواخ إلى تربية الماشية وحراسة الطريق، هو جزء من منظومة "التمكين الديني للأرض". وتصف بعض الفتيات أنفسهنّ في المقابلات بأنهنّ "بنات في مهمة مقدسة"، ما يكشف عن تطابقٍ شبه تام بين مفردات الدين ومفردات الحرب.
ورغم أن المؤسسات الإسرائيلية الرسمية تنظر إلى هذه المجموعات بريبة وتدرجها ضمن فئة "شباب في خطر" بسبب الانقطاع عن التعليم أو المشاكل الأسرية، إلا أن أذرع الأمن الإسرائيلية تغضّ الطرف عنها ما دامت هذه البؤر تُحدث وقائع ميدانية تخدم المشروع الاستيطاني الأوسع. ومن هنا تأتي المفارقة الجوهرية: إسرائيل تحاول تجاهل الظاهرة لكنها تستفيد من نتائجها عمليًا. فكل كوخ يُبنى وكل طريق تُعبَّد لاحقًا تُصبح حجة إضافية أمام أي انسحاب مستقبلي، لتتحوّل "الفوضى الدينية" إلى استراتيجية توسّع من دون تكاليف سياسية.
تمثيلات متناقضة وصراع على السردية
تتعامل وسائل الإعلام الإسرائيلية مع فتيات التلال بمنطقٍ مزدوج. فالإعلام الليبرالي يصوّرهنّ كمتمرّدات أو "راهبات مقاتلات" تختلط لديهن قيم البراءة والانعزال، بينما يحتفي الإعلام الديني-القومي بهنّ كرموزٍ للنقاء والإخلاص، يُجسّدن عودة الجيل الجديد إلى "روح الصهيونية الأولى". وفي كلتا السرديتين تغيب الحقيقة الأهم: أنّ هؤلاء الفتيات يشاركن فعليًا في مشروع استعماريٍّ ممنهج، لا في تجربةٍ شبابيةٍ عابرة.
في التقارير الإعلامية التي بثت مؤخرا حول تلال «معوز أستير» و«أور أهوفياه»، ظهرت بعض الفتيات وهنّ يحملن أدوات البناء والبنادق في الوقت نفسه، مردّدات عبارات مثل: "إذا لم نحرس نحن الفتيات الأرض، فمن سيفعل؟"، بينما أظهرت لقطات أخرى تدريباتٍ ميدانية وإشرافًا دينيًا ذكوريًا. وقد اعتبرت الفتيات أنفسهنّ "ضحايا تحريض إعلامي عربي" يسعى – على حد قولهنّ – إلى تشويه "قداسة عملهنّ". هذه الازدواجية بين الشعور بالبطولة والشعور بالمظلومية هي جزء من البنية النفسية للحركات الاستيطانية الدينية المتطرفة التي تبني هويتها على "الاضطهاد المتخيَّل".
وتؤكد الدراسات أن خلف هذه الصورة الرومانسية توجد منظومة عنفٍ بنيوي متكاملة. فبحسب الباحث الأمريكي داني ساكس (2015)، تُعدّ "فتيات التلال" عنصرًا محوريًا في شبكة "العنف المدني المقدس" الذي يستهدف الفلسطينيين عبر ما يُعرف بعمليات "تدفيع الثمن". وتقول إحدى المستوطنات في مقابلة صحفية: "نراهم (الفلسطينيين) كمحتلين. إنهم ليسوا من المفترض أن يكونوا هنا. هذه أرضنا. الوضع المثالي أن يرحلوا". وفي مقابلة أخرى تضيف فتاة أخرى: "نعيش على البطانيات الترابية، ندرس التوراة ونبني وجودًا يهوديًا على الأرض التي نؤمن أنّ الله منحها لنا". بل إن بعضهنّ صرّحن بفقدانهن الثقة بالمؤسسات الإسرائيلية ذاتها، كما قالت إحداهنّ: "لقد فقدنا الثقة بدولتنا، الحكومة تعيق إرادة الله، لذلك علينا أن نقوم بما هو صائب بأيدينا". هذه العبارات تلخّص التحول من الولاء للدولة إلى الولاء لفكرة "سيادة التوراة" التي تتجاوز القانون الوضعي، وتجعل من التمرّد الديني أداة لاستكمال المشروع الاستيطاني ذاته.
ليست تجربة دينية بل عملية استيطان متكاملة
من منظورٍ فلسطيني، لا يمكن فصل هذه السرديات عن السياق الاستعماري الأشمل. فوجود فتيات التلال يعني فعليًا توسيع البؤر الاستيطانية على حساب القرى الفلسطينية، وخلق بؤر احتكاكٍ دائمة تبرّر وجود جيش الاحتلال في المنطقة. النساء في هذه الحالة لا يُمثّلن "الوجه الناعم" للاحتلال كما يروّج، بل يُستخدمن لتطبيع العنف من خلال إضفاء الطابع العاطفي والديني عليه. فالمشهد الذي تُمسك فيه فتاة شابة مجرفةً أو بندقيةً فوق تلٍ فلسطيني، ليس مشهدًا رومانسيًا بل إعادة إنتاجٍ لاحتلالٍ يتخفّى وراء "الأنوثة المقدّسة".
ويمكن اعتبار "فتيات التلال" مجرد ظاهرة اجتماعية إسرائيلية. إنهنّ جزءٌ أصيل من منظومة الاحتلال التي تُحوّل الدين إلى أداةٍ للهيمنة المكانية والسياسية. فحين تبني مجموعة من الفتيات بيتًا خشبيًا على تلّةٍ قرب رام الله أو نابلس، يرفعن علم الاحتلال فوقه، وتؤمّن له الحماية العسكرية، فإنّ النتيجة ليست "تجربة دينية" بل عملية استيطان متكاملة. كل كوخ من هذه الأكواخ يتحوّل لاحقًا إلى نواةٍ لمستوطنة دائمة تُدمج تدريجيًا في خريطة الضمّ.
تُظهر منشورات هذه المجموعات أن فتيان وفتيات التلال ينظرون إلى الفلسطينيين كـ"غرباء" أو "محتلين للأرض"، ويعتبرون طردهم واجبًا دينيًا. هذا التصور – كما يلاحظ ساكس – يعكس جوهر الصهيونية الدينية التي ترى الأرض "هبة إلهية" لا يجوز التنازل عنها، وتحول الصراع السياسي إلى معركة لاهوتية. وهكذا يتحوّل كل اعتداء على المزارعين الفلسطينيين إلى “اختبار إيمان”، وكل عملية تجريفٍ أو حرقٍ إلى “واجبٍ مقدس”.
وبالتوازي مع هذا التوجه، يساهم صعود التيارات القومية-الدينية في حكومة الاحتلال، ممثلةً بوزير الأمن القومي إيتمار بن غفير ووزير المالية والمستوطنات بتسلئيل سموتريتش، في تحويل هذه الحركات من الهامش إلى المركز. فكلا الوزيرين يروّجان علنًا لفكرة أن "شباب وفتيات التلال هم طليعة المشروع الصهيوني"، ويعتبرانهم الورثة الشرعيين للجيل المؤسس. وقد خصّص سموتريتش ميزانيات لبنية تحتية حول البؤر العشوائية تحت ذريعة "تحسين الخدمات"، فيما أطلق بن غفير تصريحات متكررة يدعو فيها الشرطة إلى "حماية فتيان التلال لا ملاحقتهم". هذه الرعاية الرسمية جعلت من فتيات التلال أداة تنفيذية في مشروع التوسع الاستيطاني دون الحاجة لقرارات حكومية مباشرة. على هذا النحو، لم تعد "فتيات التلال" مجرّد متدينات متحمسات، بل أصبحن جزءًا من جهاز الدولة العميق الذي يمارس الاستعمار بأدوات رمزية وشعبية. فالدين يؤمّن الشرعية، والأنوثة تمنح الغطاء العاطفي، والسياسة توفّر الحماية. ومع اتساع هذا المثلث، يتحوّل الاستيطان إلى منظومة ثقافية كاملة تتجاوز الجغرافيا لتطال الوعي ذاته.
في المحصلة، تكشف ظاهرة "فتيات التلال" عن الوجه الأنثوي الجديد للاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية: وجهٍ مغطّى بالتديّن والزهد، لكنه يحمل في جوهره روح العنف والتوسّع. هذه الحركة النسائية ليست تعبيرًا عن "تمكين المرأة" كما تروّج بعض المنصّات الإسرائيلية، بل عن اندماج العنف بالروحانيات في خدمة مشروعٍ استعماريٍّ طويل الأمد. فكل ما يبدو طهرًا وإيمانًا هو في الواقع تمكينٌ للعنف الكولونيالي بوسائل ناعمة.
من هنا، فإنّ أي قراءة فلسطينية نقدية يجب أن تتجاوز تحليل الظاهرة بوصفها نشازًا اجتماعيًا لتضعها ضمن سياق الاستعمار الإحلالي المتجدد، حيث تُصبح الأنثى فاعلًا أيديولوجيًا يُعيد عبر جسده وسلوكه إنتاج السيطرة على المكان. فالاستيطان لم يعد جرافةً وجنديًا فقط، بل صار أيضًا فتاةً ترتّل التوراة وهي تبني كوخًا على أنقاض قريةٍ فلسطينية. هذه الصورة – رغم نعومتها الظاهرية – تختزل حقيقة المشروع الإسرائيلي اليوم: احتلالٌ يتقن التنكّر في هيئة قداسة.
    
    
        المصدر:
        
             الحدث