الحدث - محمد بدر
فجر السابع من تشرين الأوّل/أكتوبر ٢٠٢٣، توقّفت إسرائيل عن تصديق نفسها. في غضون ساعات، انقلبت مفاهيم الأمن التي تأسست عليها الدولة منذ بن غوريون: الردع، والإنذار، والحسم. لم تكن الصدمة فقط في عدد القتلى أو حجم الاختراق، بل في انكشاف البنية العقلية للنظام الأمني بكامله. جيشٌ اعتاد أن يرى في نفسه الأقوى في الشرق الأوسط، واستخباراتٌ تتفاخر بدقّتها، وحكومةٌ رسّخت يقينًا بأنّ الردع المطلق يحميها، فإذا بكل ذلك ينهار دفعةً واحدة.
انطلقت صفارات الإنذار في الغلاف والوسط والشمال، لكن الإنذار الحقيقي كان داخل المؤسسة الأمنية نفسها: أن كل فرضية بُنيت على استقرار الوضع مع غزة كانت خاطئة. صواريخٌ تسقط على تل أبيب والقدس، ومئات المقاتلين يعبرون الأسلاك ويقتحمون القواعد والمستوطنات، بينما الأذرع الأمنية الإسرائيلية تتخبّط في فهم ما يجري. سقطت «هيبة الردع» التي رُوّج لها طيلة عقدين، وتحوّل الجيش من جيش ردعٍ وهجومٍ سريع إلى جيشٍ يُقاتل دفاعًا عن بيته.
في الساعات الأولى، بدا الأمر أشبه بزلزالٍ وجودي؛ رئيس حكومة الاحتلال وقيادة الأركان وجدوا أنفسهم أمام حربٍ لم يخططوا لها، وجبهةٍ داخلية مرتبكة، وضغطٍ نفسي هائل داخل المجتمع الإسرائيلي الذي لم يعرف هذا القدر من الصدمة منذ قيام الدولة. كان السؤال الذي يطارد الجميع: كيف فشل الإنذار؟ وكيف أمكن لحركةٍ محاصَرة أن تُحدث هذا الاختراق الكارثي؟
من الدفاع إلى الهجوم: محاولة استعادة المبادرة
بعد ثلاثة أيام فقط، بدأت إسرائيل التحضير لردٍّ شامل. أُعلنت التعبئة الكاملة، واستُدعي أكثر من ثلاثمئة ألف جندي احتياط، وبدأت حملةٌ جوية غير مسبوقة على غزة. في البداية، كان الهدف «الانتقام»، لكن سرعان ما تحوّل إلى محاولةٍ لاستعادة السيطرة الميدانية والنفسية. لم تعد القضية تدمير مقرات أو صواريخ؛ بل استعادة الثقة المفقودة.
بدأ الجيش يدخل القطاع على مراحل، مفضّلًا التوغلات المحدودة والمركّزة على الدخول الكثيف، متعلّمًا من دروس ٢٠١٤. ومع اتساع العمليات، ظهرت معضلة غزة مجددًا: مدينةٌ كثيفة السكان، شبكة أنفاق معقدة، مقاتلون يتنقلون تحت الأرض، وحركةٌ تعرف أن الجيش لن يستطيع البقاء طويلًا في الميدان.
هكذا، تحوّلت الحرب من محاولة حسمٍ سريع إلى استنزافٍ طويلٍ منخفض الوتيرة. وُضعت أهداف كبرى — إسقاط حكم حماس، استعادة الأسرى، تدمير القدرات العسكرية — لكن سرعان ما اتضح أن تحقيقها يحتاج أكثر من القوة. بعد شهورٍ من القتال، لم يكن هناك «نصر»، بل سلسلة إنجازاتٍ تكتيكية في أحياء مدمّرة، وقدرةٌ على السيطرة النارية لا السياسية.
عند هذه النقطة، بدأت الدوائر الإسرائيلية تتحدث بصراحة عن الفرق بين الحسم والنصر: الأول هو انهيار قدرة العدو على القتال داخل الحرب، والثاني هو تحقيق هدفٍ سياسي بعد الحرب. إسرائيل حسمت عسكريًا في بعض الجبهات، لكنها لم تنتصر سياسيًا.
المثلث الأمني يهتزّ: الردع والإنذار والدفاع
في قلب النقاش الإسرائيلي، عاد الحديث عن «المثلث الأمني» الذي يُفترض أنه يحمي الدولة: الردع، والإنذار، والحسم. هذا المثلث، الذي أضاف إليه الجيش لاحقًا عنصر «الدفاع»، تعرّض لأعنف اختبارٍ في تاريخه.
انهار الردع أمام خصمٍ غير دولتي، لا يملك قواعد لعبةٍ تقليدية ولا يخاف الخسائر البشرية. سقط الإنذار الاستخباري، لأنّ إسرائيل نظرت إلى نيات حماس بعينٍ سياسية لا مهنية. أما الدفاع، فثبت أنه لم يكن مؤسسًا بما يكفي، إذ عجزت منظومة القبة الحديدية والمراقبة الحدودية عن استيعاب هجومٍ بري واسع.
في المقابل، ظلّ «الحسم» — الركن الثالث — هدفًا عسكريًا منشودًا، لكنه انكسر أمام تعقيدات الحرب الحضرية والضغط الدولي. أدرك قادة الجيش أنّ المعركة لم تعد تُحسم في الميدان فقط، بل في الإعلام والرأي العام والمحافل الدولية. وهكذا، وُلدت معادلةٌ جديدة: إسرائيل تستطيع أن تحسم تكتيكيًا، لكنها قد تخسر استراتيجيًا إن لم تُهندس ما بعد الحسم.
الجبهة الشمالية تشتعل
في الوقت الذي كانت غزة تلتهم الجيش والوقت، بدأت جبهة الشمال تتململ. حزب الله، الذي راقب مجريات الحرب بدقة، قرر أن يفتح جبهة محدودة تستنزف إسرائيل دون أن تُشعل حربًا شاملة. قصفٌ يومي متبادل، ونزوح لعشرات آلاف الإسرائيليين من مستوطنات الشمال، واستهدافٌ دقيق للبنية العسكرية اللبنانية.
لكن هذا «التوازن المدروس» لم يصمد طويلًا. في أيلول/سبتمبر ٢٠٢٤، نفّذت إسرائيل واحدة من أكثر عملياتها تعقيدًا في تاريخها الحديث: تفجير أجهزة النداء والاتصال داخل منظومة حزب الله، ما أدّى إلى انهيارٍ جزئي في القيادة والسيطرة، واستشهاد وإصابة الآلاف من عناصر الحزب في لحظةٍ واحدة. في اليوم التالي، توالت الضربات الجوية والاغتيالات، وبدأ توغّلٌ بري محدود داخل الجنوب اللبناني لاستغلال الفوضى.
كانت تلك لحظة فارقة: حسمٌ استراتيجي – عملياتي قبل أن يكون ميدانيًا. فبدل أن تُستنزف إسرائيل في معاركٍ طويلة، وجّهت ضربةً في «رأس المنظومة» لا في أطرافها، وأثبتت أن المناورة الذكية قد تُغني عن حربٍ مفتوحة، وكان اغتيال السيد حسن نصر الله ضربة قاسمًة وبالغة الأهمية بالنسبة للإسرائيليين وغيّرت مجريات الحرب.
في أعقاب تلك الأحداث، فُتح مسارٌ سياسي عبر الأمم المتحدة وواشنطن وباريس، انتهى بتوقيع اتفاق وقف النار في ٢٧ تشرين الثاني/نوفمبر ٢٠٢٤. نصّ الاتفاق على انسحابٍ إسرائيلي مرحلي من الحدود مقابل إعادة انتشارٍ لبناني شمال الليطاني، مع تعزيزٍ لدور الدولة اللبنانية واليونيفيل، ووضع قيودٍ صارمة على سلاح الحزب في الجنوب.
لم يكن الاتفاق انتصارًا حاسمًا، لكنه جسّد انتقالًا من الحرب إلى «هندسة الردع»: محاولة تثبيت واقعٍ ميداني يمنع التصعيد لا لأنه يُرضي الأطراف، بل لأنه يجعل الحرب القادمة أكثر كلفة للجميع.
حرب الوعي: الداخل الإسرائيلي تحت الضغط
داخل إسرائيل، توازى القتال الخارجي مع حربٍ داخلية على الوعي. المجتمع الذي اعتاد رؤية جيشه منتصرًا بدأ يُشكّك في قدرته. خرجت المظاهرات ضد الحكومة، وارتفعت الأصوات التي تطالب بلجنة تحقيق رسمية. الصحف استخدمت لغةً لم تعرفها من قبل: «انهيار القيادة»، «أكبر فشلٍ استخباري منذ ١٩٧٣».
المؤسسة الأمنية دخلت في مرحلة مراجعة عميقة. لم يعد النقاش يدور حول «من يتحمل المسؤولية» فحسب، بل حول جوهر المفهوم الأمني نفسه. هل ما زال الردع ممكنًا ضد خصمٍ عقائدي؟ هل يمكن تحقيق الحسم في حروبٍ غير متكافئة؟ وكيف يمكن بناء دفاعٍ فعّال يحمي الجبهة الداخلية من صواريخٍ وطائراتٍ مسيّرة في آن واحد؟
في خضمّ هذه الأسئلة، بدأت إسرائيل تستثمر أكثر في التكنولوجيا والاستخبارات الدقيقة والحرب السيبرانية، معتقدةً أن «المعركة بين الحروب» يمكن أن تُدار في الفضاء الرقمي بقدر ما تُدار في الميدان. لكنّ التجربة كشفت أن التكنولوجيا لا تُغني عن الفهم البشري، وأنّ «العين التي لا تفهم عدوها» تبقى عمياء مهما كانت متقدمة.
عام التحوّلات الكبرى: من لبنان إلى إيران
عام ٢٠٢٥ مثّل ذروة التحولات الإقليمية؛ بينما كانت إسرائيل تحاول استيعاب نتائج حرب غزة، انفجرت جبهاتٌ أخرى. تصاعدت المواجهات مع المجموعات المدعومة من إيران في سوريا والعراق واليمن، وتزايد القلق من اقتراب إيران من العتبة النووية. في حزيران/يونيو ٢٠٢٥، شنت الولايات المتحدة وإسرائيل عمليةً مشتركة استهدفت منشآتٍ إيرانية حساسة فيما سُمّي «عملية الأسد الصاعد».
كانت تلك العملية إعلانًا عن انتقال الصراع من الأطراف إلى المركز، ومع أن الحرب بقيت محدودة، فإنّ تأثيرها النفسي والسياسي كان عميقًا. بدا أن الشرق الأوسط يدخل مرحلة «الردع المتبادل المتعدّد»؛ فلا طرف يملك القدرة على النصر الكامل، ولا أحد يستطيع التراجع دون خسارة.
في هذه الأجواء، أدركت إسرائيل أن عليها إنهاء حرب غزة، ولو باتفاقٍ مرحليٍّ مؤقت. وهكذا، بدأت الاتصالات السرّية في القاهرة والدوحة، بوساطة مصرية–قطرية ودورٍ أميركي مباشر. الهدف المعلن كان إنسانيًا: تبادل الأسرى والمعتقلين، لكنّ البعد السياسي كان أعمق بكثير.
اتفاق غزة: هدنةٌ مؤقتة أم تحوّل استراتيجي؟
في التاسع من تشرين الأوّل/أكتوبر ٢٠٢٥، أُعلن عن اتفاقٍ مرحلي بين إسرائيل وحماس برعاية مصرية وأميركية. نصّ الاتفاق على وقفٍ متدرّجٍ لإطلاق النار، وانسحاباتٍ مرحلية من مناطق محددة في غزة، وإطلاق أسرى من الجانبين، مقابل إدخال مساعداتٍ إنسانية وإطلاق برنامجٍ لإعادة الإعمار.
رأت إسرائيل في الاتفاق «مرحلة انتقالية» تتيح لها إعادة التموضع دون أن تُظهر تراجعًا، بينما اعتبرته حماس «صمودًا» بعد عامين من الحرب المدمّرة. في الجوهر، كان الاتفاق اعترافًا متبادلًا بالواقع: لا إسرائيل قادرة على القضاء على حماس، ولا حماس قادرة على تهديد وجود إسرائيل.
لكن خلف هذا الاتفاق، ظهرت أسئلة أعمق: من سيحكم غزة؟ كيف ستُدار المعابر؟ ما مصير سلاح المقاومة؟ وما الضمانة ألا تنهار الهدنة كما انهار كل ما سبقها؟ بالنسبة لإسرائيل، كان الاتفاق فرصةً لالتقاط الأنفاس وإعادة بناء الردع، ولإعادة تقييم «المفهوم الأمني» برمّته.
من الحسم إلى إدارة الصراع
خرجت إسرائيل من الحرب وقد فقدت شيئًا من ثقتها القديمة بنفسها؛ لم تعد قادرة على الحديث عن «نصرٍ مطلق» كما في ١٩٦٧ أو حتى ١٩٨٢. تحوّلت فلسفتها الأمنية من البحث عن الحسم إلى إدارة الصراع: هدفها ليس إنهاء العدو، بل إضعافه ومنع تَناميه. هذه هي خلاصة نظرية «قصّ العشب» التي كانت يومًا مجرّد توصيفٍ تكتيكي وأصبحت الآن سياسة دولة.
لكن المفارقة أن هذا التحول لم يكن ضعفًا فحسب، بل اعترافًا واقعيًا بأنّ الحروب الحديثة لا تُحسم بالسيوف بل بالوقت والإدارة. أصبحت إسرائيل تُدرك أن النصر السياسي يحتاج إلى هندسةٍ مدنيةٍ واقتصاديةٍ موازية، وأنّ القوة بلا سياسة تخلق فراغًا سرعان ما يملؤه العدو نفسه.
في المقابل، أدركت الفصائل الفلسطينية واللبنانية أن الردع المتبادل صار أكثر تعقيدًا: فإسرائيل قد لا تنتصر، لكنها تستطيع أن تُدمّر؛ وهم قد لا يُهزمون، لكنهم عاجزون عن تحقيق إنجازٍ سياسي حقيقي. هكذا وُلد توازنٌ جديد، هشّ لكنه مستمر، عنوانه «اللاحرب واللانصر».
إعادة تعريف النظرية الأمنية
بعد عامين من الحرب، أعادت المؤسسة العسكرية الإسرائيلية صياغة عقيدتها على أسسٍ جديدة. أولًا، أن الردع لم يَعُد حالةً ثابتة بل عمليةٌ مستمرة تحتاج تغذيةً استخبارية ونفسية ودبلوماسية. ثانيًا، أن الإنذار لا يعني امتلاك المعلومة بل فهمها في سياقها. ثالثًا، أن الدفاع — المدني والعسكري — هو الجدار الأخير الذي لا يقل أهميةً عن الهجوم. وأخيرًا، أن الحسم لا يمكن فصله عن السياسة، وأنّ النصر لم يعد يُقاس بالسيطرة المكانية بل بتغيير وعي الخصم واتجاهاته.
هذه المراجعة الفكرية جعلت إسرائيل أكثر حذرًا في استخدام القوة، لكنها أيضًا أكثر اعتمادًا على أدواتٍ غير عسكرية: الحرب السيبرانية، الإعلام، الاقتصاد، والتحالفات الإقليمية. وبهذا المعنى، تحوّل مفهوم الأمن القومي من رؤيةٍ عسكريةٍ محضة إلى منظومةٍ شاملة تتعامل مع التهديد باعتباره سياسيًا–اجتماعيًا بقدر ما هو عسكري.
نهاية أسطورة النصر
حين أُعلن عن اتفاق غزة في تشرين الأوّل/أكتوبر ٢٠٢٥، كان كثيرون في إسرائيل يدركون أن «الانتصار» الذي وُعدوا به قبل عامين لم يتحقق، وأن الحرب التي بدأت بوصفها معركة وجود انتهت بتفاهمٍ مؤقت. لكنّ ما حدث لم يكن هزيمةً كاملة ولا نصرًا كاملاً، بل تحوّلٌ تاريخي في الوعي الإسرائيلي.
للمرة الأولى، تتعامل إسرائيل مع نفسها كدولةٍ ليست قادرة على فرض إرادتها بالكامل، بل على إدارة حدود قوتها ضمن شبكةٍ معقّدة من الردع الإقليمي والدولي. لم تعد تبحث عن سلامٍ بالمعنى الكلاسيكي، بل عن استقرارٍ هشّ يمكن أن يدوم بقدر ما يتيح لها الوقت للاستعداد للجولة القادمة.
وهكذا، يمكن القول إنّ حرب ٧ أكتوبر لم تنتهِ في غزة ولا في لبنان، بل انتهت في عقل المؤسسة الإسرائيلية نفسها. هناك فقط تبدّلت اللغة: من «الردع المطلق» إلى «التكيّف الذكي»، ومن «الحسم النهائي» إلى «الهندسة المستمرة»، ومن «النصر» إلى «النجاة». تلك هي خلاصة حربٍ أعادت تعريف معنى القوة في الشرق الأوسط: أن تنتصر قليلًا وتخسر قليلًا، وأن تبقى واقفًا وسط العاصفة، لا لأنك أقوى، بل لأنّ لا أحد بعد الآن قادرٌ على أن ينتصر تمامًا.
المصدر:
الحدث