آخر الأخبار

مشروع العصابات المسلحة المدعومة إسرائيليا في غزة.. لماذا فشل النموذج؟

شارك

خاص الحدث

خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، شرعت إسرائيل بمبادرة غير مسبوقة؛ تسليح عصابات ومجموعات محلية في غزة والاعتماد عليها كقوة محلية بديلة عن حكم حماس. وقد أُديرت هذه المبادرة – التي جرت معظمها بسرية – بهدف تفكيك مراكز القوى في غزة، وإنشاء كيانات مسلحة محلية تشكّل وزناً موازياً لحماس، وتمكين أبناء المنطقة من إدارة بعض المناطق تحت رعاية إسرائيلية، وقد أطلق عليها إسرائيليا "مشروع العائلات".

في المراحل المتأخرة من الحرب، بدأت إسرائيل تدعم تسليح وتشغيل مجموعات وعصابات ينتمي أفرادها إلى عائلات كبيرة وذات نفوذ في القطاع، بهدف معلن هو إيجاد بديل لحكم حماس في المناطق التي كانت تحت سيطرة جيش الاحتلال مؤقتاً. الفكرة كانت خلق قوة محلية "أصيلة" ظاهرياً من عائلات قوية تتحمل مسؤولية حفظ النظام وتوزيع المساعدات الإنسانية وحماية السكان، بدلاً من إدارة حماس. ووفق تقارير إسرائيلية، استندت الفكرة إلى فرضية أن "العائلات المؤثرة" يمكن أن تشكل حاجزاً أمام حماس، إذ يُفترض أن الحركة ستحجم عن الصدام المباشر مع عشائر كبيرة ومسلحة ذات مكانة اجتماعية.

كما أملت إسرائيل أن تساعد هذه العصابات في الإدارة المدنية البسيطة داخل مناطق وجودها، وأن تعمل كقوة محلية داعمة لجيش الاحتلال الإسرائيلي – مثل تأمين قوافل المساعدات. وقد أقرّ رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو علناً بأن "إسرائيل فعّلت عائلات في غزة تعارض حماس"، وهو ما يعدّ اعترافاً رسمياً بالمشروع الذي أدارته أجهزة الشاباك بالتنسيق مع المستوى السياسي والعسكري الأعلى في إسرائيل.

قدّمت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية السلاح والمال والمعدات لعدة مجموعات مسلحة مكوّنة من أبناء عائلات معروفة في القطاع. تضمّن التسليح أسلحة خفيفة وبنادق هجومية، بعضها جرى الاستيلاء عليه من مقاتلين استشهدوا أثناء القتال ونُقلت إلى العصابات بموافقة رسمية. تركّز المشروع في البداية في جنوب القطاع، وكانت أول عصابة كشف عنها هي عصابة أبو شباب في رفح بقيادة ياسر أبو شباب، شاب في الثانية والثلاثين من عمره معروف بتاريخه الإجرامي وتجارته بالمخدرات وسجنه سابقاً لدى حماس، قبل أن يفرّ أثناء قصف إسرائيلي على مقرات الحركة في رفح.

بعد فراره، أنشأ عصابة مسلحة باسم "القوات الشعبية"، وقدّمها كقوة محلية للدفاع عن السكان وتوزيع المساعدات. على الأرض، عملت عصابته بتنسيق علني مع جيش الاحتلال الإسرائيلي في شرق رفح قرب معبر كرم أبو سالم، حيث أقام عناصره حواجز ورافقوا شاحنات المساعدات، بل سيطروا على مناطق محلية تحت حماية الجيش. لاحقاً انضمت عصابات أخرى من خانيونس ومدينة غزة ومناطق أخرى للمشروع، وتلقّت من إسرائيل دعماً مالياً وتسليحاً شمل عشرات المركبات والآليات. وفي موازاة ذلك، أُنشئ جهاز جديد لتوزيع المساعدات الإنسانية بتمويل دولي من خلال ما سُمّي "الصندوق الإنساني لغزة (GHF)"، بهدف تجاوز آليات حماس وتوزيع المساعدات عبر الميليشيات المسلحة. أحد الأهداف المعلنة لهذه الشراكة مع العصابات كان منع حماس من السيطرة على قوافل الإغاثة، عبر تمكين رجال العصابات من توزيع المساعدات في مناطق نفوذهم.

اعتُبرت مبادرة "العصابات" من قبل قيادة حماس ومعظم سكان القطاع عملاً من أعمال التعاون مع العدو ومحاولة إسرائيلية لتطبيق سياسة "فرّق تسد". اتهمت المقاومة الفلسطينية ياسر أبو شباب وأتباعه علناً بأنهم "عملاء جندتهم إسرائيل لنشر الفوضى في القطاع"، وأعلنت المقاومة هذه الميليشيات "أعداءً مباشرين"، ونشرت مقاطع تظهر استهداف مقاتلي أبو شباب بعبوات ناسفة، تماماً كما تُهاجم جنود الاحتلال. وبذلك أكدت حماس وجود هذه القوة واعتبارها تهديداً فعلياً. مع تقدم الحرب، ثم بعد أولى فترات الهدوء، شنّت حماس حملة واسعة لاستعادة السيطرة الداخلية، فداهم مقاتلوها مواقع تابعة للعصابات المشاركة في المشروع، واعتقلوا عشرات منهم، وصادروا أسلحة ومعدات.

ووفق تقارير أمنية إسرائيلية، فإن الانسحاب التدريجي لجيش الاحتلال الإسرائيلي من مناطق القتال أعاد لحماس السيطرة على عشرات المركبات ومئات البنادق التي زوّدت بها إسرائيل العصابات، وبذلك فشل المشروع وانتهى بنتائج عكسية إذ عزّز القوة العسكرية لحماس بدلاً من إضعافها.

قوبلت هذه العصابات المسلّحة باستهجان وازدراء شعبي واسع. فقد تبرأت شخصيات محلية وأقارب من المشاركين فيها علناً، بل نشرت عائلة أبو شباب بياناً تعلن فيه البراءة من ياسر أبو شباب ونبذه اجتماعياً بعد ثبوت تعاونه مع إسرائيل، في خطوة غير مألوفة تهدف إلى حماية سمعة العائلة وأفرادها من الانتقام الشعبي. كما اتُهم عناصر العصابات بعمليات نهبٍ منظمٍ لشاحنات المساعدات وفرض الإتاوات على المواطنين، أحياناً تحت أنظار جيش الاحتلال الإسرائيلي. وذكرت الأمم المتحدة اسم أبو شباب في مذكرة داخلية بوصفه مسؤولاً عن نهب واسع للمساعدات الإنسانية.

كل ذلك عزّز صورة تلك المجموعات بوصفها عصابات إجرامية تعمل لمصلحة إسرائيل وتلاحق الربح الشخصي على حساب أبناء شعبها. حاول أبو شباب في مرحلة لاحقة تبييض صورته، فنشر مقطعاً قال فيه إنه يعمل "تحت الشرعية الفلسطينية"، زاعماً أن ميليشياته "طهّرت شرق رفح من حماس" ودعا السكان للعودة إلى بيوتهم واعداً إياهم بالأمن والغذاء. لكن هذه التصريحات لاقت سخرية عامة، إذ سارعت السلطة الفلسطينية إلى نفي أي صلة بها، فيما رفض الشارع الغزي تصديق أن شخصاً يعمل بتنسيق علني مع الاحتلال يمكن أن يمثل "مشروعاً وطنياً" من أي نوع.

تكرّر في غزة ما حدث في تجارب سابقة: مشروع إسرائيلي قائم على وهم إمكان خلق "حكم بديل" يفشل بمجرد غياب الجيش الداعم له. النموذج الأوضح على ذلك هو جيش لبنان الجنوبي بقيادة أنطوان لحد، الذي اعتمد على الدعم الإسرائيلي الكامل وانهار فور انسحابها من الجنوب عام 2000. كذلك كان حال "روابط القرى" التي حاولت إسرائيل من خلالها تفكيك منظمة التحرير الفلسطينية، لكنها واجهت مقاطعة شعبية شاملة وانتهت مع اندلاع الانتفاضة الأولى. في كل مرة، تتجاهل إسرائيل الحقيقة البسيطة: لا يمكن لأي سلطة تنشأ في ظل الاحتلال أن تحظى بشرعية حقيقية بين أبناء الأرض المحتلة.

لقد بدأ "جيش لبنان الجنوبي" كتجربة عسكرية مباشرة لإدارة الاحتلال بالوكالة. أنشأته إسرائيل في أواخر السبعينيات من ضباط لبنانيين سابقين برئاسة سعد حداد، ثم تولى قيادته أنطوان لحد لاحقًا. كان الهدف إقامة منطقة أمنية جنوب لبنان تفصل إسرائيل عن المقاومة، وخلق سلطة محلية شكلية تبرر وجود الاحتلال. حصل الجيش على تمويل وتسليح وتدريب كامل من إسرائيل، واعتمد عليها في الرواتب والذخيرة وحتى الغذاء. لكنه لم يمتلك في أي لحظة شرعية لبنانية حقيقية، إذ اعتبره السكان أداة عميلة. ومع أول انسحاب إسرائيلي من الجنوب عام 2000، انهار الكيان بأكمله، وفرّ أفراده نحو الحدود أو إلى أوروبا، تاركين وراءهم نموذجًا صارخًا لوكالة لا حياة لها خارج ظلّ القوة التي أنشأتها. ما يجري في غزة اليوم يكرّر المنطق ذاته: تشكيل قوة محلية مزيّفة تعتمد على المال والسلاح الإسرائيليين، وتنهار لحظة انسحاب الجيش الداعم.

وفي الضفة الغربية، حاولت إسرائيل خلال أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات خلق بديل سياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية عبر مشروع "روابط القرى". ضمّ هذا المشروع وجهاء محليين وشخصيات عشائرية أُعطيت صلاحيات محدودة لإدارة الشؤون المدنية في القرى مقابل التنسيق مع الإدارة العسكرية الإسرائيلية. كانت الغاية المعلنة "تمكين الفلسطينيين من إدارة حياتهم اليومية"، أما الغاية الفعلية فكانت فصلهم عن التمثيل الوطني وتطبيع الاحتلال في الحياة اليومية. إلا أن الشعب الفلسطيني قاطع تلك الروابط بالكامل، واعتبرها امتدادًا لسلطة الاحتلال، ولم تستطع أن تفرض وجودها خارج حماية الجيش. ومع اندلاع الانتفاضة الأولى، تفككت الروابط وانهارت تمامًا، وأصبح أعضاؤها منبوذين اجتماعيًا، شأنهم شأن كل من تعاون مع الاحتلال. المشترك بينها وبين "مشروع العائلات" في غزة هو الفكرة ذاتها: هندسة واجهة محلية تمنح الاحتلال غطاءً اجتماعيًا، لكنها تنهار عند أول مواجهة مع الوعي الجمعي للمجتمع الخاضع للاحتلال.

المقارنة بين هذه النماذج تُظهر تشابهًا بنيويًا مذهلًا: في لبنان، في الضفة الغربية المحتلة، وفي قطاع غزة، اعتمدت إسرائيل على قوى محلية مرتبطة بها عسكريًا أو ماليًا لتعمل كبديل سياسي وأمني. في الحالات الثلاث، لم تملك هذه القوى أي قاعدة شعبية، وكانت رهينة حماية الاحتلال. ومع كل انسحاب إسرائيلي، كانت النتيجة واحدة: انهيار فوري وتفكك داخلي وتحول تلك القوى إلى عبء على مشغّلها. والمفارقة أن كل تجربة من هذه التجارب انتهت بتعزيز الطرف الذي أرادت إسرائيل القضاء عليه. فانسحاب عام 2000 جعل من حزب الله قوة مركزية في لبنان، وسقوط روابط القرى أعاد الاعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية، وفشل مشروع "العصابات" عزّز صورة حماس كحركة وحيدة تحظى بشرعية المقاومة.

بهذا المعنى، لم يكن مشروع تسليح العصابات في غزة مجرد فشل تكتيكي، بل تكرار واعٍ لنموذج استعماري يربط السيطرة بالوكلاء المحليين. يعكس هذا الفشل عجز المؤسسة الإسرائيلية عن فهم طبيعة المجتمعات التي تحاول إخضاعها، إذ لا يزال التفكير الأمني فيها أسير فرضية قديمة ترى في القوة العسكرية والمصالح الفردية أدوات كافية لإعادة تشكيل الوعي الجمعي. لكن الواقع يثبت العكس: كل محاولة لبناء سلطة تحت الاحتلال تولّد مقاومة مضادة أقوى وأكثر رسوخًا. فالمجتمع الذي يُستهدف بالاختراق يتوحد، والشرعية التي تحاول إسرائيل صناعتها بالمال والسلاح تتحطم أمام فكرة الانتماء والكرامة الوطنية.

لقد انتهى مشروع تسليح العصابات في غزة إلى عكس ما خُطط له. فبدلاً من تقليص نفوذ حماس، عزّز مكانتها بوصفها الجهة الوحيدة التي لم تنكسر ولم تتورط في التعاون مع الاحتلال. تحولت العصابات إلى رمز للخيانة، بينما خرجت حماس بصورة “المدافع عن الكرامة الوطنية”. بهذا المعنى، كان المشروع بمثابة فشل إسرائيلي جديد، إذ فضح عجزها عن فهم البنية الاجتماعية والسياسية لقطاع غزة، وأكد أن أي محاولة لتكرار تجربة الوكلاء المحليين ستنتهي إلى النتيجة ذاتها: الفشل، ثم الارتداد المعاكس.
يُظهر هذا الفشل أن إسرائيل لم تتعلم من تجاربها التاريخية ولا من صدمة السابع من أكتوبر، حين انهارت منظومة ردعها الأمنية في ساعات. لا تزال تعتمد المنطق ذاته الذي يرى في القوة العسكرية وسيلة لإدارة مجتمع معقد ومتجذر في هويته الوطنية. لكن "مشروع العائلات" كشف مجددًا أن "الهندسة الاجتماعية" التي تحاول إسرائيل فرضها على غزة تصطدم بجدار وعي جمعي عميق، لا يمكن اختراقه بالدولارات ولا بالبنادق. إن الاحتلال يستطيع أن يزرع الفوضى، لكنه لا يستطيع أن يخلق شرعية. والنتيجة أن كل محاولة إسرائيلية لتأسيس قوة بديلة عن المقاومة تتحول، في نهاية المطاف، إلى شهادة جديدة على عمق عجزها وفشل نموذجها الأمني في التعامل مع الواقع الفلسطيني.

الحدث المصدر: الحدث
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا