الحدث - سجود عاصي
العدد 185 من صحيفة الحدث الفلسطيني
منذ اندلاع الحرب على غزة في أكتوبر 2023، ظل إدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع واحدة من أعقد الأزمات وأكثرها إثارة للجدل؛ فبينما يقف أكثر من مليوني فلسطيني على حافة المجاعة اليوم، محاصرين وسط دمار غير مسبوق، تُطرح عمليات "الإسقاط الجوي" للمساعدات كحل إسعافي طارئ، وإن كان مثيراً للجدل.
تتضمن الطرود التي يتم إسقاطها عبر الطائرات؛ أدوية، حليب أطفال، طحين قمح، معكرونة، وبذور الحلبة التي يُعتقد محلياً أنها تساعد على استمرار إنتاج الحليب لدى الأمهات المرضعات.
هذه العمليات، التي تنفذها طائرات عسكرية تابعة للأردن ودول أخرى في بعض الأحيان بشكل غير منتظم مثل الإمارات، ألمانيا، فرنسا، إيطاليا، بلجيكا، وإسبانيا؛ تُقدَّم على أنها شريان حياة في لحظة الاختناق، لكنها في الوقت نفسه تعكس المأزق السياسي والإنساني الذي يفرضه الحصار الإسرائيلي المستمر؛ فمن ناحية، تبدو المشاهد مبهرة مظلات تهبط من السماء محمّلة بمساعدات غذائية، ومجوّعين يركضون نحو الطرود بحثاً عن فرصة للبقاء، لكن من ناحية أخرى، يصف خبراء الإغاثة هذه العمليات بأنها "استعراضية" أكثر مما هي إنسانية، فهي مكلفة، محدودة الفاعلية، وتحمل مخاطر جسيمة وصلت حدّ مقتل عدد من الفلسطينيين جراء سقوط الطرود أو غرقوا في البحر وهم يحاولون التقاطها.
وفي الوقت الذي تصف فيه الأمم المتحدة الإسقاطات الجوية بأنها "خيار الملاذ الأخير"، تقف المئات وربما الآلاف من شاحنات المساعدات عند المعابر، في انتظار قرار سياسي إسرائيلي حصري يفتح الطريق أمام استجابة حقيقية على قدر حجم الكارثة. وبين مشهد الطائرات التي تحلّق في سماء غزة كلما اشتدت الأزمة والطرود التي تهبط في مشاهد درامية، تبقى الحقيقة الصادمة أن هذا الأسلوب الطارئ لا يعالج المشكلة ولا حتى يخفف من حدتها، بل يزيد الأمر صعوبة عندما يذهب الفلسطيني من أجل إطعام أولاده فيعود شهيدا أو جريحا.
التقت صحيفة الحدث الفلسطيني، بالصحفية الفنلندية، كارولينا كنوتي، التي كانت على متن واحدة من رحلات الإسقاط الجوية، التابعة لسلاح الجوّ الأردني، والتي أكدت أن دخول الصحافة الدولية إلى غزة، أمر أساسي لتدفق المعلومات بحرية، معتبرة أن مثل هذه القيود على وصول الصحفيين استثنائية، ويجب على وسائل الإعلام أن تتكاتف للضغط على الاحتلال من أجل السماح للصحفيين بدخول غزة، لأنه بهذه الطريقة فقط "يمكننا نحن الصحفيين أن نضمن موثوقية مصادرنا وأن ننقل تقاريرنا بمصداقية كاملة".
وعن تجربتها على متن "رحلات" المساعدات الجوية، وصفت كنوتي، تجربتها بالمؤثرة والمهيبة والتي لا تنسى، وقالت: "تابعت الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي كصحفية منذ عشر سنوات، لكن بسبب القيود المختلفة لم أتمكن أبداً من الاقتراب من غزة إلى هذا الحد. في الجو، شعرت بصدمة عميقة من حجم الدمار الذي خلفه القصف، وكذلك بحزن لأنني لن أستطيع أبداً، ولا حتى الآن، أن أرى غزة كما كانت قبل هذا القصف".
وتروي كنوتي عن تجربتها قائلة: حين حلّقنا على ارتفاع منخفض فوق غزة، ألصقت أنفي بالنافذة طوال الوقت، التهمت المشهد بعينيّ، أردت أن أرى كل شيء. وقد فعلت، مررنا على طول الشريط بأكمله من الشمال إلى الجنوب. كان مؤثراً أن أتمكن من رؤية المنطقة بعينيّ. التقط المصوّر صورة تُظهر أشخاصاً عند الشاطئ وشخصاً على دراجة هوائية. في تلك اللحظة، اغرورقت عيناي بالدموع من شدّة التأثر.
وأضافت الصحفية الفنلندية: لكن، قبل كل شيء، كان الأمر مهماً بالنسبة لي مهنياً؛ فالصحفي يجب أن يبقى دائماً ناقداً تجاه جميع المعلومات. لقد رأيت الدمار في الصور، لكن سؤالاً أساسياً يظل عالقاً: ماذا يوجد خارج إطار الصورة؟ إذا أظهرت صورة ما هذا الحيّ المدمر، فماذا يحدث في الحيّ المجاور؟ هل يجلس أحدهم هناك يتناول فطوره بسلام على شرفة؟. عندما رأيت غزة بشكل شبه كامل بعيني، عرفت الحقيقة: كل شيء تقريباً قد دُمّر. لم يعد هناك صور سوى صور الدمار. حجم الدمار والخراب هناك هائل.
ووفق كنوتي، فإن أصعب جزء من المهمة كان الوصول إلى الأردن، وعن ركوب الطائرة فتطلب الأمر الكثير من الإقناع في فنلندا، وحتى في المطار قيل لنا ربما لن يُسمح لنا بالصعود في النهاية، وبعد الرحلة، كتبت تقريري حولها بسرعة، في حوالي أربع ساعات فقط، أردنا نشره بسرعة. إضافة إلى ذلك، شعرت وكأنه كُتب بنفسه مباشرة من عقلي الباطن خلال الرحلة.
ورغم التنسيق الذي يجري مع الاحتلال لطائرات الإسقاط الجوي؛ إلا أن كنوتي كانت تعتقد أن أي استهداف لطائرة إلقاء المساعدات من قبل الاحتلال سيشكل فضيحة دولية.
وعن دور العمليات الجوية في التخفيف من المعاناة اليومية في غزة، أكدت كنوتي: يجب أن يكون دور الإسقاطات الجوية محدوداً للغاية، ويفضّل ألا تُستخدم أبداً. فهي مكلفة، خطيرة، غير فعّالة، وملوِّثة. يتم استخدامها لأنها استعراضية؛ عرض دعائي. طالما أن الشاحنات متوقفة عند الحدود، فهي أفضل من لا شيء لكن لا ينبغي أن يكون الأمر هكذا.
وفي وقت سابق، ذكرت صحيفة "هآرتس" العبرية، أن جيش الاحتلال شدد على عدم السماح للصحفيين بتصوير مشاهد الدمار خلال رحلات الإسقاط الجوي، وهدد بوقف هذه العمليات إن نُشرت فيديوهات أو صور توثق حجم الكارثة في القطاع. وأكدت كنوتي في هذا السياق، أنها سمعت مسبقا أن التصوير سيكون مقيدا، ولكنها لم تتلق تعليمات واضحة بالتقييد على الإطلاق، وتعتقد أن سلاح الجوّ الأردني "أراد لنا أن نرى".
وأكدت الصحفية الفنلندية، أنه لو أُتيح لها الدخول إلى غزة أثناء الحرب لتغطية الأحداث ستذهب غدا بلا تردد، وقالت: أبذل جهدي لضمان نقل معلومات عن وضع الفلسطينيين إلى العالم. وكإنسان، أقول: أنا آسف لأن العالم قد خذل الفلسطينيين بهذه الطريقة.
عن رحلة الانطلاق
تقول كنوتي، إنها نقلت بوساطة شاحنة "بيك أب" عبر أرض يغمرها الرمل، ذهبت أولاً إلى طائرة، ثم إلى أخرى، وعادت إلى الأولى، حتى حلقت طائرات سلاح الجو الأردني باتجاه غزة دون أن تعرف شيئا عن مسار الطائرة، وتروي: نحن أتينا لننظر لغزة وننقلها للأخرين.
وتضيف: نتابع الرحلة من النافذة وباستخدام بوصلة. أولاً، نرى البحر الميت. بعد أكثر من نصف ساعة طيران، يظهر مطار بن غوريون في الأراضي المحتلة أسفلنا. ثم، بوضوح، شواطئ تل أبيب وناطحات السحاب اللامعة، نواصل الطيران غرباً فوق البحر. نحلق قليلاً فوق الزرقة، ثم نميل، ثم أسفلنا: غزة. ثم تُفتح فجأة فتحة ضخمة في مؤخرة الطائرة. أنظر مباشرة إلى أسفل من طائرة مائلة بحدة على ارتفاع مئات الأمتار.
وتشير إلى أن "طاقم الطائرة مربوط بالأرضية؛ نحن غير مربوطين. أمسك بكاميرا الفيديو بيدي اليمنى، وباليسرى أتشبث بأي شيء أجده وأضغط بقوة، يشير أحد أفراد الطاقم بأصابعه العد التنازلي: خمسة، أربعة، ثلاثة، اثنان…، وعندما يُطبق كفه، تسقط المنصات من الطائرة واحدة تلو الأخرى. تفتح المظلات المثبتة على المنصات عبر آليات مشدودة بالسقف، أطنان من المساعدات تهبط من الطائرة إلى مكان ما على أطراف مدينة غزة في شمال القطاع، والفقدان المفاجئ للوزن يجعل الطائرة تهتز، ثم تميل.
وتضيف: نحن نلتف. نحن لا نعود مباشرة فوق البحر، بل نبدأ بالتحليق جنوباً، يريدون لنا أن نرى، عمليات الإسقاط الجوي استعراض مدهش، مشيرة إلى إسقاط المساعدات في القطاع يكلف 42 ضعف تكلفة إيصالها عبر الشاحنات. منوهة في الوقت ذاته إلى أن عددا من الفلسطينيين لقوا حتفهم عندما سقطت عليهم طرود ثقيلة، كما وردت تقارير عن غرق آخرين عندما هبطت الطرود في البحر وحاول الناس السباحة لاسترجاعها.
وتذكر أن غزة ليست معزولة بسبب جغرافيا طبيعية، بل بسبب حصار الاحتلال، وبينما ندور في السماء، تنتظر آلاف الشاحنات على الحدود، حيث سيكون إدخال المساعدات أرخص وأكثر أماناً. ومع ذلك، طالما أن الشاحنات متوقفة، فإن الطعام الذي يسقط من السماء أفضل من لا شيء لأهل غزة، وعندما سألت قائد الطائرة عن رأيه بعمله، يضع يده على قلبه.
تقول كنوتي: رأينا كل شيء بوضوح على طول القطاع كله من الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي، بيوت، أشجار، طرق، خيام. لقد رأيت صور الأقمار الصناعية، وقرأت التقارير قبل الرحلة، لكن لا شيء أعدّني لما شعرت به وأنا أحلّق فوق كل ذلك، وأرى المشهد عن قرب بعينيّ. يبدو وكأنه لا يوجد مبنى واحد سليم بالكامل. في كل مكان حطام، غبار، بيوت منهارة، رمادية، فراغ، دمار. ومنذ أكتوبر 2023، لم يتمكن أي صحفي دولي من دخول غزة لتغطية الحرب، ولن نقترب أكثر من هذا أيضاً، لكن هذا يكفي ليُظهر كل شيء.
يذكر أن كنوتي وزملاؤها، كانوا على متن طائرة الإسقاط الأردنية، في اليوم ذاته الذي أعلن فيه الاحتلال الموافقة على اقتراح رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو احتلال غزة، وذلك يوم 7 أغسطس 2025، يوم إعلان قرار إبادة.