آخر الأخبار

الصهيونية الدينية بين “المأساة” و”التحول السياسي” بعد خطة الانسحاب من غزة

شارك

الحدث الإسرائيلي

يكتب الصحفي يائير شليغ في صحيفة مكور ريشون، وهو أيضًا باحث في معهد شالوم هرتسمان، أن الصهيونية الدينية عشيّة “فك الارتباط” عن قطاع غزة (2005) كانت تُعَدّ “المكوّن الأكثر ولاءً للدولة في إسرائيل”. بالنسبة لهذا التيار، كما يوضح، الدولة ليست مجرد إطار سياسي، بل لها قداسة دينية.

ويستشهد شليغ بالحاخام تسفي يهودا كوك، الأب الروحي لتيار “غوش إيمونيم” الاستيطاني، الذي كان يكرر أنّ “الزي العسكري لجيش الاحتلال مقدّس، والدولة نفسها هي بداية عملية الخلاص التي تحدّث عنها أنبياء إسرائيل”. هذه الرؤية التي جمعت بين “القومية” و”الدين” واجهت أقسى اختبار لها مع قرار حكومة أرئيل شارون تفكيك مستوطنات غوش قطيف.

منذ عقود، قادت الصهيونية الدينية مشروع الاستيطان في الضفة الغربية وقطاع غزة باعتباره خطوة تمهيدية لفرض السيادة وضم الأراضي. لكن حين أعلن شارون، الذي كان يُلقب بـ”أبو الاستيطان”، خطته لإخلاء مستوطنات القطاع، أصيب جمهور هذا التيار بصدمة كبيرة. المستوطنون والمتدينون القوميون كانوا يتوقعون من ممثليهم في الحكومة، ولا سيما من “المفدال” (الحزب الديني القومي التقليدي)، أن ينسحبوا فورًا من الائتلاف لإسقاط القرار، لكن معظمهم بقي حتى تمرير الخطة في الكنيست. وهنا بدأ الشرخ في الثقة ليس فقط بشارون بل أيضًا بالقيادة السياسية الخاصة بهم.

مع بدء التعبئة ضد الخطة، انقسم التيار بين من دعا إلى مواجهة عنيفة أو “رفض أوامر الجيش”، كما فعل الحاخام أبراهام شابيرا، وبين من حذّر من الانزلاق إلى صدام دموي ودعا إلى احتجاجات غير عنيفة، مثل الحاخام شلومو برين. وفي صيف 2005، بلغ الانقسام ذروته في أحداث “كفار ميمون”، حين حاول عشرات الآلاف من المستوطنين اختراق الحواجز والتوجّه نحو غوش قطيف، لكن قيادات “مجلس يشع” (مجلس المستوطنات) رفضت ذلك تحت ضغط الحاخامات، فشعر الشباب بأن القيادة “استسلمت” وبأن المعركة خُسرت ليلتها.

أحداث الانسحاب عمّقت فجوة بين المتدينين القوميين والجمهور العلماني. يوضح شليغ أن هذا التيار كان يرى نفسه شريكًا طبيعيا مع الصهيونية العلمانية، التي بادرت إلى الاستيطان منذ بدايات المشروع الصهيوني. لكن في لحظة الانسحاب، تراجع الجمهور العلماني، بل أبدى البعض شماتة أو لامبالاة. الصحفي عمِيت سيغال يستذكر كيف كان الإسرائيليون منشغلين بنهائي برنامج غنائي تلفزيوني أكثر من انشغالهم بمصير مستوطني غزة، الأمر الذي عمّق لدى الصهيونية الدينية شعور العزلة والخيانة.

إلى جانب ذلك، فقد التيار الثقة بالمؤسسات: فالمحكمة العليا لم تدافع عن المستوطنين، والإعلام لم يهاجم رئيس الحكومة المتهم بالفساد، والجامعة والنخب الثقافية تبنّت موقفًا رسميًا مؤيدًا للانسحاب. هذا الشعور بالخذلان تحوّل إلى قناعة بضرورة اقتحام هذه المؤسسات بدل البقاء خارجها.

أدى الانسحاب إلى تحولات جوهرية في الخريطة السياسية للصهيونية الدينية. فمنذ 1956 مثّلها حزب واحد هو “المفدال”، لكن بعد 2005 اتجه كثير من الناشطين إلى الانخراط في حزب الليكود نفسه، من خلال الانتخابات الداخلية، بهدف منع أي قرار مشابه مستقبلًا. وبرزت شخصيات مثل تسيبي حوتوبلي وزئيف إلكين وغيرهما.

في المقابل، ظهرت محاولات لإعادة بناء قوة حزبية جامعة، تجسدت في صعود نفتالي بينيت عام 2012 إلى قيادة حزب “البيت اليهودي”. بينيت سعى إلى تجاوز الإطار المذهبي الضيق، فخاطب جمهورًا أوسع من المتدينين التقليديين والعلمانيين المحافظين، وطرح نفسه كحزب “قومي ـ إسرائيلي” لا يقتصر على جمهور المستوطنين.

يرى شليغ وسيغال أن آثار الانسحاب لم تتوقف عند حدود صدمة 2005، بل تواصلت وصولًا إلى العقدين الأخيرين. إذ فُقدت “المهابة” تجاه قرارات الدولة، وأصبح هناك استعداد لمواجهتها إذا مست بمشروع الاستيطان. كذلك وُلدت قناعة بضرورة السيطرة على مؤسسات القضاء والإعلام والأكاديمية، ما مهّد، برأيهم، لخطوات مثل “الثورة القضائية” التي يقودها وزراء من التيار ذاته مثل بتسلئيل سموتريتش وسمحا روتمان.

لكن هذا التطور عمّق أيضًا انقسامات داخلية: بين تيار متشدد يرى أولوية في “أرض إسرائيل الكاملة” ولو على حساب وحدة المجتمع، وبين تيار آخر أكثر “مؤسساتية” يسعى إلى الموازنة مع العلمانيين ويحافظ على ما يسميه “روح الدولة”. وهذا الانقسام انعكس على التمثيل البرلماني، حيث باتت أحزاب الصهيونية الدينية تكافح أحيانًا لعبور نسبة الحسم.

بعد مرور عشرين عامًا على خطة فك الارتباط، ما تزال الجراح حاضرة. فشعور الخيانة من الدولة والمجتمع لم يتلاشَ، لكنه تحول إلى طاقة سياسية وتنظيمية غيّرت مكانة التيار في إسرائيل. الصهيونية الدينية اليوم ليست تلك التي سبقت 2005: أكثر حضورًا في مؤسسات الدولة، لكنها أيضًا أكثر انقسامًا داخليًا وأكثر ريبةً في “الشريك العلماني”.

الانسحاب من غزة، بالنسبة لهم، لم يكن مجرد حدث سياسي عابر، بل محطة مفصلية أعادت صياغة علاقتهم بالدولة وبالمجتمع الإسرائيلي ككل، ورسخت قناعة أن المعركة على الاستيطان وعلى هوية الدولة لم تحسم بعد.

الحدث المصدر: الحدث
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا