خاص الحدث
تواجه السلطة الفلسطينية استحقاقًا ماليًا ثقيلًا لصالح شركة الكهرباء الإسرائيلية، يتم اقتطاعه شهريًا من أموال المقاصة (عوائد الضرائب الفلسطينية) قبل تحويلها إلى خزينة السلطة. قبل الحرب على غزة 2023، كان يصل السلطة الفلسطينية حوالي 750 مليون شيقل شهريًا من أصل متوسط مقاصة شهري 950 مليون شيقل، فيما تحتجز إسرائيل الفرق (نحو 150 مليون شيقل شهريًا) لتسديد ديون مترتبة على الفلسطينيين لشركات إسرائيلية، وعلى رأسها شركة الكهرباء. ومنذ أكتوبر 2023 تصاعدت الاقتطاعات الإسرائيلية إلى ما يقارب 70% من أموال المقاصة؛ إذ تحتجز إسرائيل مبالغ إضافية تُعادل مخصصات الحكومة لقطاع غزة (حوالي 275 مليون شيقل شهريًا)، إلى جانب اقتطاعات الديون الأخرى. هذا الوضع ضاعف الأزمة المالية للسلطة، وحرمها من أغلب إيراداتها الضريبية اللازمة للإنفاق العام.
على مدى أكثر من 15 عامًا، تراكمت ديون ضخمة على السلطة الفلسطينية لصالح شركة الكهرباء الإسرائيلية. بنهاية 2024 بلغ الدين المتراكم حوالي 1.9 مليار شيقل. وترتبت على هذا الدين المتراكم فوائد تأخير عالية (بمعدل سنوي يقارب 10%) فاقمت العبء المالي. وفي مطلع 2025 أعلن وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش خطّة غير مسبوقة لتحصيل كامل هذه الديون من أموال المقاصة الفلسطينية المحتجزة. وتم استخدام الأموال الفلسطينية المجمدة في صندوق خاص بالنرويج (كان يُحول إليه ما يُقتطع لغزة) لتسديد مستحقات الشركة الإسرائيلية. وبحلول يناير 2025 أكدت إسرائيل أنها خصمت 1.1 مليار شيقل إضافية وأتمّت تحويل كامل مبلغ الديون التاريخي لشركة الكهرباء. ورفضت وزارة المالية الإسرائيلية أي إعفاءات أو خصومات على فوائد التأخير – رغم مطالبة أمريكية بذلك – معتبرةً أن الفرد الإسرائيلي لا يجب أن يتحمل تبعات ديون السلطة. وبذلك فُرغت الديون المتراكمة (التي كانت مرشحة لتجاوز 3 مليارات شيقل لو استمرت على حالها)، عبر اقتطاعات قسرية حرمت الجانب الفلسطيني من تلك الأموال.
تُظهر البيانات الرسمية الفلسطينية أن الاقتطاعات لصالح ديون الكهرباء سجّلت رقمًا قياسيًا خلال 2024؛ حيث بلغ مجموع ما اقتطعته إسرائيل من المقاصة على خلفية ديون كهرباء ذلك العام حوالي 1.6 مليار شيقل (نحو 446 مليون دولار). وبهذا يرتفع إجمالي ما سددته السلطة قسرًا من أثمان الكهرباء المتراكمة منذ 2012 إلى حوالي 12.5 مليار شيقل (أي 3.5 مليار دولار). هذه الأرقام الضخمة تشير إلى نزيف مالي مستمر تستغله إسرائيل لتسديد مستحقات شركاتها على حساب الخزينة الفلسطينية.
الاقتطاعات تخلق الأزمة.. لكن ماذا عن البدائل؟
الأزمة المالية التي تعاني منها السلطة بسبب الاقتطاعات لم تكن مؤقتة أو محصورة في تأخر الرواتب، بل تحولت إلى مأزق هيكلي يهدد قدرة الحكومة على الاستمرار في تقديم الخدمات الأساسية. الأزمة المالية تفاقمت بشكل غير مسبوق منذ نهاية عام 2023، نتيجة تصاعد الاقتطاعات الإسرائيلية من أموال المقاصة وتراجع المساعدات الدولية. ومع دخول عام 2025، بدأت ملامح الانهيار تظهر بوضوح، خاصة في القطاعات الحيوية التي تعتمد على انتظام الرواتب والاستقرار الإداري. فخلال شهري أيار/مايو وحزيران/يونيو، عجزت الحكومة عن صرف رواتب أكثر من 140 ألف موظف، بينهم كوادر صحية وتعليمية وأمنية، ما أدى إلى سلسلة من الإضرابات وتقليص الدوام في الوزارات والمدارس والمستشفيات. ومع غياب أفق لحل سياسي أو مالي فوري، بدأت الحكومة في تطبيق إجراءات تقشف اضطرارية، تضمنت تخفيض أيام العمل، ووقف الإنفاق على بنود إدارية، وإمكانية تعليق عمل بعض الدوائر غير الأساسية. لكن هذه المعالجات تبقى ظرفية، وغير قادرة على وقف التدهور البنيوي في مالية الدولة أو إنقاذ ملف الرواتب الذي بات الأكثر حساسية.
في هذا السياق، تبدو الطاقة الشمسية فرصة استراتيجية ليس فقط لتحقيق الانفكاك التدريجي عن الهيمنة الإسرائيلية في قطاع الكهرباء، بل أيضًا كوسيلة عملية لتقليص الأزمة المالية المتفاقمة. تشير التقديرات إلى أن ما يُقتطع شهريًا من أموال المقاصة لصالح شركة الكهرباء الإسرائيلية يصل إلى 150 مليون شيقل، أي ما يعادل ربع فاتورة الرواتب الشهرية لموظفي السلطة. وخلال السنوات الماضية تجاوز مجموع ما سددته السلطة قسرًا بدل أثمان كهرباء ومرافق حوالي 12.5 مليار شيقل. في المقابل، فإن التوسع المنظّم في مشاريع الطاقة الشمسية يتيح للحكومة خفض فاتورتها التشغيلية بشكل ملموس، وشراء الكهرباء بسعر أقل، وتحرير موارد مالية يمكن إعادة توجيهها مباشرة نحو بند الرواتب. وقد أثبتت مشاريع قائمة بالفعل أن نسبة التوفير قد تصل إلى 30–40% من كلفة الكهرباء شهريًا. وإذا ما تم تعميم هذه المشاريع، فإن السلطة يمكن أن توفّر عشرات ملايين الدولارات سنويًا، وهي مبالغ كافية لتغطية فارق خصم الرواتب أو دفع رواتب أشهر كاملة في ظروف التقشف.
وما يعزز جدوى هذا التوجّه هو تراجع كلفة الاستثمار في الطاقة الشمسية عالميًا، وتوفر تمويلات دولية داعمة للمشاريع المستدامة، إلى جانب نجاح تجارب محلية شجعت المدارس والمشافي على التحول للطاقة المتجددة. ومن هنا، يصبح ربط الطاقة الشمسية بملف الرواتب ليس طرحًا نظريًا أو بعيد المدى، بل خيارًا قابلًا للتنفيذ على المدى القريب، إذا ما توفرت الإرادة السياسية وتعاونت المؤسسات المعنية لإنجاحه. فبدلًا من الاعتماد الكلي على المنح أو الاقتراض لتغطية الرواتب، يمكن للحكومة إعادة توجيه الأموال المهدورة على فاتورة كهرباء خاضعة للاحتلال نحو دعم رواتب الموظفين، وخاصة في القطاعات التي تشكّل العمود الفقري للخدمات العامة كالصحة والتعليم. ومع استمرار الأزمة وغياب بدائل خارجية، تتحول الطاقة الشمسية من مجرد مشروع بيئي إلى أداة سيادية مالية، بل وأداة إنقاذ. وفي جوهر الأمر، فإن كل كيلوواط يُنتَج محليًا هو خطوة نحو تقليص الأزمة المالية.
ما يحفز الاتجاه نحو هذا الخيار هو أن كلفة الاستثمار في الطاقة الشمسية باتت منخفضة نسبيًا، خاصة مع توافر دعم دولي للمشاريع السيادية، ورغبة مانحين في تمويل مبادرات ذات مردود طويل الأجل. كما أن البنية التحتية الأولية أصبحت متوفرة، مع وجود أكثر من 500 منشأة تعليمية وصحية مزودة بأنظمة شمسية بالفعل، ما يمهد لتوسعة سلسة. إلا أن هذا المسار يتطلب قرارًا سياسيًا شجاعًا بإعادة هيكلة أولويات الإنفاق، ودفع البلديات وشركات التوزيع على التعاون بدل مقاومة هذا التحول، خشية تراجع أرباحها. في المحصلة، لا تملك الحكومة رفاهية الانتظار أو الاكتفاء بإجراءات تقشفية مؤقتة، بل عليها المضي في بناء نموذج اقتصادي للنزيف المالي، والطاقة الشمسية تمثل أحد أبرز أعمدته. فكل ميجاواط يُنتج محليًا هو ليس فقط وفرة مالية، بل أيضًا خطوة في اتجاه تعزيز السيادة الفلسطينية وتقليص التبعية لاقتصاد الاحتلال. وفي وقت تتآكل فيه قدرة الحكومة على دفع الرواتب، فإن توليد الكهرباء من الشمس قد يتحول من مشروع تنموي إلى ضرورة وطنية.
اعتماد شبه كامل على إسرائيل في الكهرباء
تعكس أزمة فاتورة الكهرباء جانبًا من الاعتماد شبه الكامل للسلطة الفلسطينية على إسرائيل في قطاع الطاقة الكهربائية. فبحسب دراسة صادرة في سبتمبر 2024 عن معهد أبحاث السياسات الاقتصادية (ماس)، 87% من الكهرباء في فلسطين مستوردة من شركة الكهرباء الإسرائيلية. وتؤكد الدراسة أن هذه التبعية العالية تعزز الارتهان الاقتصادي وتثقِل كاهل السلطة، إذ تبقى الإمدادات الكهربائية خاضعة لتحكم الجانب الإسرائيلي الذي يستطيع قطعها أو تقييدها متى شاء. بالفعل، في حالات الخلاف المالي أو التصعيد الأمني، لجأت إسرائيل مرارًا إلى تقليص التيار عن بعض مناطق الضفة الغربية كوسيلة ضغط، مستفيدةً من غياب التوجه الرسمي الفلسطيني إلى بدائل فلسطينية حقيقية. وتغطي إسرائيل بهذا التيار كافة مدن الضفة الغربية تقريبًا عبر 10 خطوط رئيسية بقدرة إجمالية تقدّر بنحو 117 ميجاواط، كما تزود أجزاءً من غزة بنحو 120 ميجاواط (قبل حرب 2023). هذه الهيمنة الإسرائيلية على الإمدادات تجعل هامش المناورة الفلسطيني في قطاع الكهرباء محدودًا للغاية. فعلى سبيل المثال، لا تستطيع السلطة زيادة كميات الاستيراد من الأردن أو مصر بشكل كبير بسبب قيود الربط الشبكي الذي تسيطر عليه إسرائيل. كما أن بناء أي خطوط نقل أو محطات توليد جديدة في الضفة يتطلب موافقة الاحتلال، الذي غالبًا ما يماطل أو يرفض بحجج أمنية وإدارية، خاصة في مناطق “ج” التي تشكل نحو 60% من مساحة الضفة وتقع تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة.
وخلاصة الأمر أن التبعية الفلسطينية كهربائيًا لإسرائيل تبقى شبه مطلقة راهنًا، مما يمنح الاحتلال أداة ضغط دائمة. هذا الواقع دفع للتفكير جديا بضرورة اتخاذ صناع القرار الفلسطينيين خطوات عملية لكسر هذا القيد عبر الاستثمار في البدائل المحلية المتاحة، وعلى رأسها الطاقة الشمسية، كخيار استراتيجي لتحقيق قدر من الانفكاك التدريجي عن هيمنة الاحتلال في قطاع حيوي وحساس كقطاع الطاقة.
الطاقة الشمسية كبديل استراتيجي
تتمتع فلسطين بمقومات طبيعية تجعل الطاقة الشمسية خيارًا واعدًا لتخفيف الاعتماد على إسرائيل وتوفير الإنفاق. فمعدّل سطوع الشمس في الأراضي الفلسطينية يقارب 3000 ساعة سنويًا، وإمكانات توليد الكهرباء من الشمس تُقدَّر بحوالي 4174 ميجاواط وفق دراسات متخصصة. وقد شهدت السنوات الأخيرة اهتمامًا متزايدًا بهذا المجال مدفوعًا بعوامل عدة، منها الجدوى الاقتصادية المتحسنة والتطور التقني، وكذلك دوافع سياسية بعد أحداث مثل الحرب على غزة 2023، حيث أدى قطع التيار عن غزة إلى تنبيه الفلسطينيين لأهمية امتلاك مصادر طاقة مستقلة.
على الصعيد الاقتصادي، تشير الدراسات إلى أن توليد الكهرباء محليًا من الطاقة الشمسية يحقق استفادة مالية أكبر بكثير مقارنة بشرائها من إسرائيل. إذ أنه في حال إنتاج الكهرباء محليًا عبر مشاريع شمسية واتفاقيات شراء طاقة، ستكون إيرادات الاقتصاد الفلسطيني أعلى بـ4.5 ضعف مما هي عليه عند الاستيراد من الشركة الإسرائيلية. ذلك يعني إبقاء جزء كبير من مئات ملايين الدولارات التي تُحوَّل سنويًا لإسرائيل داخل الاقتصاد المحلي، ما ينعكس في حل الأزمة المالية وخلق وظائف جديدة وتنشيط الاستثمار الداخلي بدل تسريب الأموال للخارج. ويتعزز هذا المنطق مع انخفاض تكاليف إنشاء أنظمة الطاقة الشمسية مؤخرًا بحوالي الثلثين، ما جعل مشاريع الطاقة المتجددة أكثر جدوى وربحية سواء للمنازل أو المؤسسات أو المستثمرين.
عوائق داخلية وتراجع الدعم الرسمي لمشاريع الطاقة الشمسية
على الرغم من الخطط الطموحة والتصريحات الرسمية الداعمة للطاقة المتجددة، يواجه المستثمرون عوائق تنظيمية وبيروقراطية تحدُّ من انتشار هذه المشاريع. المفارقة أن جانبًا كبيرًا من هذه العوائق مصدره جهات فلسطينية تخشى تراجع إيراداتها نتيجة توجه المشتركين للاعتماد على الشمس، وجهات رسمية متساوقة ومتواطئة. فقد كشفت تقارير حديثة أن بعض شركات التوزيع توقفت عن منح تراخيص جديدة لأنظمة صافي القياس (Net-Metering). هذا النظام يُتيح للمستهلكين إنتاج الكهرباء عبر الطاقة الشمسية للاستخدام الذاتي وبيع الفائض للشبكة، وهو مربح للمصانع والمرافق الكبرى. إلا أن عددًا من شركات الكهرباء المحلية اشتكى لجهة التنظيم (مجلس تنظيم قطاع الكهرباء الفلسطيني) من أن انتشار هذه الأنظمة يخفض مبيعاتهم من الكهرباء المشتراة من إسرائيل. ولا يزال هناك غياب واضح لمعايير واضحة لقبول أو رفض مشاريع الطاقة.
ومن الواضح أن شركات الطاقة الشمسية تواجه قيودًا كبيرة أعاقت التوسع في مشاريع توليد الكهرباء بسبب العراقيل التنظيمية وضعف البيئة الحاضنة. فمثلا؛ البيئة التشريعية "غير مواتية"، إذ تفرض عبئًا كبيرًا على مطوّري الطاقة المتجددة دون أن تُلزِم شركات التوزيع بتطبيق القوانين. وهذا يكبّد المستثمرين مخاطر إضافية. فمثلًا، القانون الفلسطيني لعام 2015 كان يلزم شركة النقل الوطنية للكهرباء بشراء الطاقة المنتجة من المطورين الفلسطينيين، لكن تعديلًا صدر عام 2022 منح شركات التوزيع حق شراء الكهرباء مباشرة من المطورين. عمليًا، جعل هذا التعديل ترخيص أي مشروع استثماري كبير مرهونًا بموافقة شركات التوزيع نفسها، التي قد لا ترغب بالمنافسة وتضع سقفًا لكمية الكهرباء المسموح إنتاجها بكل منطقة. ونتيجة لذلك، باتت سلطة شركات التوزيع المحليّة كبيرة في تحديد مصير مشاريع الطاقة الشمسية وربطها بالشبكة، ما أضعف موقف المستثمرين وزاد حالة عدم اليقين.
يجادل مراقبون بأن الحكومة الفلسطينية لم تتخذ خطوات حازمة لحل هذا التعارض بين تشجيع الطاقة المتجددة وحماية إيرادات شركات التوزيع. فالدعم اللفظي والخطط الاستراتيجية لم تواكبها إصلاحات فعلية على الأرض لحماية صغار المنتجين أو إلزام الشركات بشراء كامل الكهرباء المعروضة من المصادر النظيفة. حتى صندوق تشجيع الطاقة المتجددة الذي أنشأته الحكومة سابقًا محدود الموارد والتأثير. ومع تغير الحكومة وتولي محمد مصطفى رئاسة الوزراء، شهدنا فتورًا نسبيًا في المتابعة السياسية لمشاريع كبرى كانت مطروحة سابقًا. ويرى خبراء أن المطلوب هو إرادة سياسية لتحفيز الاستثمار في الطاقة الشمسية. بدون ذلك، ستبقى مشاريع الشمس الفلسطينية تعاني من عرقلة مزدوجة: من الاحتلال الذي يسيطر على الأرض والمعابر، ومن بيروقراطية داخلية لا تقل إعاقة. إن استمرار هذه الظروف يعيق جذب الاستثمارات والتمويل لقطاع الطاقة المتجددة، ويهدد بإضاعة فرصة تاريخية لتحقيق انفراجة في معضلة التبعية الطاقية.