آخر الأخبار

متابعة الحدث| "إسرائيل" وتحالف الأطراف: الأقليات كأداة استراتيجية في التفكيك والأمن

شارك

متابعة الحدث

تتكوّن البيئة العربية المحيطة بـ"إسرائيل" من دول يغلب عليها الطابع القومي والديني الأحادي، لكنها تضم في الواقع أقليات عرقية ودينية ولغوية، بعضها مهمّش، ومعظمها لا يحظى بشراكة فعلية في الحكم المركزي. منذ البدايات، أدرك دافيد بن غوريون الإمكانات الاستراتيجية الكامنة في إقامة علاقات مع هذه الأقليات. فقد كان يعتقد أن العالم العربي "المركزي" لن يقبل أبدًا بوجود "إسرائيل"، لكن الأقليات – مثل الدروز، الأكراد، المسيحيين، الموارنة وغيرهم – قد يكونون حلفاء طبيعيين لها، انطلاقًا من حاجتهم للبقاء وتميّزهم عن الأغلبية الحاكمة.

هذا التصوّر، الذي يُطلق عليه أحيانًا "تحالف الأطراف" أو "تحالف المحيط"، استند إلى الفرضية بأن الأقليات المضطهدة ستجد في "إسرائيل" شريكًا في صراعها ضد هيمنة الأكثرية. ومع مرور الزمن، تحوّل هذا النهج إلى مبدأ فعلي في عقيدة المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، التي ترى في العلاقة مع الأقليات أداة ضرورية لتعزيز نفوذها الإقليمي، وكذلك لقدراتها الاستخبارية والدبلوماسية والعسكرية.

أحد الأهداف الاستراتيجية لـ"إسرائيل" منذ تأسيسها كان زعزعة مفهوم "العالم العربي الموحّد والمتماسك". العلاقات مع الأقليات في البيئة العربية شكّلت أداة مركزية في هذا المسعى. فبدلًا من مواجهة "كتلة عربية" موحدة ومعادية، تسعى "إسرائيل" إلى كشف التصدعات الداخلية في الدول العربية، وتشجيع التحالفات مع جماعات لا تنتمي إلى الهيمنة الوطنية أو الدينية الحاكمة. التحالف مع أقليات عرقية مثل الأكراد في العراق أو الدروز فيسوريا، يحمل إمكانية تفكيك داخلي للدول العربية المعادية، أو على الأقل إعادة تشكيل المشهد السياسي بحيث لا يكون كل الفاعلين الإقليميين في صف واحد.

وعلاوة على الهدف الاستراتيجي العام، فإن لهذه العلاقات مع الأقليات غاية عملية فورية: فهي تتيح لـ"إسرائيل" النفاذ إلى نظم اجتماعية مغلقة تعجز الدول العربية عن التحكم بها. تُستخدم هذه العلاقات كوسائل لتقوية مراكز قوى بديلة في مواجهة الأنظمة المعادية، ولفتح قنوات تأثير غير ممكنة عبر الدبلوماسية الرسمية. وبهذا، فإن تنفيذ هذه التحالفات يُضعف الإجماع العربي ضد "إسرائيل"، ويمنحها أدوات لإعادة تشكيل المجال الجغرافي حول حدودها. فلا تعود "إسرائيل" كيانًا معزولًا في مواجهة تكتل عربي، بل قوة قادرة على التنقل بين شقوق البنية المجتمعية في العالم العربي.

التحالفات التي تبنيها "إسرائيل" مع الأقليات في المنطقة ليست مجرد إعلانات سياسية، بل تحمل أهمية عملية مباشرة في مجال الأمن، وخاصة في جمع المعلومات الاستخبارية وتشغيل قوى مساعدة. مثال بارز على ذلك هو التعاون التاريخي مع الأكراد في شمال العراق. فقد زوّد الأكراد "إسرائيل" بمعلومات حيوية حول تحركات الجيوش العربية والإيرانية، بل وتصرفوا كأذرع ميدانية شاركت في عمليات سرية. كما شهدت الحرب في سوريا تواصلاً بين جهات إسرائيلية وقوات كردية وبعض الجماعات المسيحية المستقلة في شمال البلاد.

علاقات مماثلة نشأت مع أقليات أخرى، مثل الدروز في سوريا ولبنان، أو مع مجموعات سنّية ضعيفة في اليمن. هذه الأقليات، التي تسعى لحماية نفسها من الأغلبية الحاكمة، ترى في "إسرائيل" قوة خارجية قادرة على تقديم الدعم والسلاح والتغطية السياسية. وفي المقابل، تحصل "إسرائيل" على وصول مميز إلى الميدان، وإلى معلومات استخبارية حساسة، بل وأحيانًا إلى تعاون عملياتي مباشر. هذا النوع من الشراكة يمنح "إسرائيل" تفوقًا على المستويات المعنوية والتكتيكية والاستراتيجية في آنٍ واحد، ويجعلها لا تكتفي بجمع المعلومات، بل تتدخل أيضًا في التأثير على مجريات الأحداث في الميدان.

وتتيح العلاقات مع الأقليات لـ"إسرائيل" أيضًا صناعة تأثير عميق داخل دول المنطقة، أحيانًا دون الحاجة لحضور ظاهر أو تواصل دبلوماسي رسمي. إنها سياسة "التحالفات الصامتة" التي تُدار بعيدًا عن الأضواء لكنها تؤثر فعليًا على توازنات القوى في الساحة. فعلى سبيل المثال، أقامت "إسرائيل" علاقات ثابتة مع قيادة الطائفة المارونية في لبنان منذ ما قبل الحرب الأهلية، بل وقدّمت في فترات معينة دعمًا عسكريًا وماليًا للميليشيات المسيحية. على نحو مشابه، نشأت قنوات اتصال مع مجموعات بدوية ودرزية على الحدود السورية، خصوصًا في فترات الاضطراب السياسي.

ومن خلال هذه الرافعات، تُنشئ "إسرائيل" دوائر نفوذ تسمح لها بحضور غير مباشر في نقاط استراتيجية. كما تشكّل الأقليات "محطات إنذار مبكر" لـ"إسرائيل"، ففي حال وجود توتر أو خطوات عدائية أو تغييرات داخلية في دولة معينة، فإن هذه المجموعات تُنبه مسبقًا إلى ما يجري. هكذا يتشكل نمط من "السيطرة الناعمة"، لا يُمارَس فيه العنف مباشرة، بل تُدار فيه الوعي والتأثير من خلال شركاء محليين بطريقة مدروسة.

ولا تسعى "إسرائيل" فقط إلى حماية نفسها، بل أيضًا إلى شرعية إقليمية، أي إلى أن تُعترف بها كفاعل شرعي في الشرق الأوسط. وتمنحها علاقاتها مع الأقليات منصة لعرض نفسها كدولة متعددة الثقافات، تعددية ومستقرة، خلافًا للصورة الثنائية التي تسعى الأنظمة العربية إلى ترسيخها.

وفي الوقت نفسه، فإن العلاقات مع الأقليات في الشرق الأوسط تتيح لـ"إسرائيل" الادعاء بأنها تدافع عن قيم حرية الدين وحقوق الأقليات. بهذا المعنى، لا تُعدّ هذه العلاقات مجرد خطوة أمنية، بل أيضًا عملًا من أعمال "الدبلوماسية العامة". وهكذا، لا تُبنى فقط شبكة نفوذ إقليمي، بل أيضًا موقع أخلاقي نسبي تستخدمه "إسرائيل" في معاركها الإعلامية العالمية، خاصة في هيئات مثل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي.

وكثيرًا ما تشكل الأقليات في الشرق الأوسط بيئة خصبة لاختراق قوى معادية لـ"إسرائيل"، وعلى رأسها إيران أو التنظيمات الجهادية العالمية. فالمجموعات المهمّشة، لا سيما في الأطراف والمناطق المهمَلة، قد تنجذب إلى الانخراط في أطر عسكرية أو استخبارية معادية، في سبيل النجاة أو تحقيق مكاسب. وتدرك "إسرائيل" هذا جيدًا، ولذلك تسعى عبر علاقاتها مع الأقليات إلى "تحصينهم" ضد محاولات التجنيد المعادي. مثال على ذلك ما يجري في جنوب سوريا، حيث تعمل "إسرائيل" بنشاط لمنع النفوذ الإيراني إلى البلدات الدرزية القريبة من حدودها. وفي حالات أخرى، تتيح العلاقات مع الأقليات لـ"إسرائيل" إنشاء خطوط مراقبة داخل أراضي العدو. وهذا يشكّل عنصرًا محوريًا في استراتيجيتها الأمنية، مراقبة دائمة لمناطق غير مستقرة، باستخدام قوى محلية قد تُسهم في وقف التهديدات الاستراتيجية قبل أن تتفاقم.

إلى جانب الأبعاد الجيوسياسية، فإن لسياسة "إسرائيل" تجاه الأقليات خارج حدودها تأثيرات مباشرة على علاقاتها مع الأقليات داخل أراضيها. فمثلًا، الدروز في "إسرائيل"، الذين يشكّلون جزءًا لا يتجزأ من المنظومة الأمنية، ينظرون بإيجابية إلى العلاقات التي تقيمها الدولة مع دروز سوريا. هذه العلاقات تخلق إحساسًا بالتضامن العابر للحدود، وتعزز انتماء الدروز في الداخل إلى الدولة. وهكذا، تتكامل الاعتبارات الأمنية الخارجية مع الاندماج الاجتماعي الداخلي.

الحدث المصدر: الحدث
شارك

الأكثر تداولا اسرائيل سوريا أمريكا دمشق

حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا