ترجمة الحدث
كشفت صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية، في تحقيق استقصائي موسع استند إلى أكثر من 110 مقابلات مع مسؤولين من “إسرائيل”، والولايات المتحدة، ودول عربية، بالإضافة إلى عشرات الوثائق والمحاضر الرسمية، أن رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو أفشل مبادرات التهدئة، وسعى لإطالة أمد العدوان على قطاع غزة، من أجل الحفاظ على موقعه السياسي، ولو على حساب أرواح الأسرى وجنود جيش الاحتلال، ومستقبل العلاقة مع العالم العربي.
في نيسان/أبريل 2024، بعد ستة أشهر من بدء الحرب، أبدى نتنياهو استعدادًا مبدئيًا لوقف إطلاق نار طويل الأمد. وقد أرسل مبعوثًا خاصًا إلى القاهرة يحمل مقترحًا إسرائيليًا يتضمن تهدئة تمتد لستة أسابيع يتم خلالها إطلاق سراح أكثر من 30 أسيرًا، مع إمكانية توسيع الصفقة لاحقًا، إضافة إلى مفاوضات للتوصل إلى تسوية دائمة.
وربطت مصادر سعودية، بحسب التحقيق، بين وقف العدوان وبين إمكانية استئناف مسار التطبيع، الأمر الذي كان من الممكن أن يمنح نتنياهو “إنجازًا تاريخيًا” على المستوى الإقليمي. لكن العقبة الأهم لم تكن خارجية، بل داخلية – فقد اصطدم برفض حاسم من شركائه في الائتلاف، وعلى رأسهم وزير المالية في حكومة الاحتلال بتسلئيل سموتريتش، ووزير “الأمن القومي” إيتمار بن غفير، اللذين هددا بإسقاط الحكومة فورًا إذا تم طرح مبادرة تهدئة، معتبرين أن أي وقف للقتال يُعتبر “استسلامًا” لحركة حماس.
وفي جلسة “الكابينت” الأمني، وبينما كان نتنياهو يتهيأ لعرض المقترح على الوزراء، قاطعه سموتريتش قائلًا: “إذا طُرح اتفاق كهذا، فلن تكون لك حكومة”. فتراجع نتنياهو، وأنكر وجود الخطة، ثم همس لمستشاريه الأمنيين: “لا تُعرضوا الخطة”.
ورغم التدهور الأمني الذي شهده الاحتلال الإسرائيلي يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، فإن نتنياهو سعى منذ اللحظة الأولى لتحويل الفشل الأمني إلى فرصة سياسية. وفي تسجيل مصور ظهر فيه صباح ذلك اليوم، قال: “أصدرت تعليماتي للجيش بالردّ بنيران لم يعرفها العدو”. وحين أخبره رئيس الأركان أن جيش الاحتلال قصف ألف هدف، أجابه مستخفًا: “ألف؟ أريد خمسة آلاف”.
وتأخر نتنياهو ثلاث ساعات في الوصول إلى مقر القيادة العسكرية في “الكرياه” بتل أبيب، بينما كانت الأحداث تتصاعد. وخلال الجلسات الأولى، أدلى وزير المالية في حكومة الاحتلال سموتريتش بتصريح داخلي مفاده: “خلال 48 ساعة سيطالبون باستقالتنا، وهم على حق”.
لكن بدلًا من تقديم استقالته، بدأ نتنياهو بحشد أوراق البقاء السياسي، رافضًا عرضًا من زعيم المعارضة لتشكيل حكومة طوارئ مشتركة بشرط إقصاء بن غفير وسموتريتش. وأصر على إبقاء شركائه اليمينيين المتطرفين لضمان “استقرار سياسي طويل المدى”.
يُظهر التحقيق أن رئيس حكومة الاحتلال لم يضع أي تصور حقيقي لـ”اليوم التالي” في قطاع غزة، رغم الضغوط الأميركية المتكررة. وقال دبلوماسيون أميركيون إن نتنياهو لم يكن وحده من رفض مناقشة مستقبل القطاع، بل إن المسؤولين الإسرائيليين المرافقين له مُنعوا من الخوض في الموضوع.
ونقل التحقيق عن مسؤولين إسرائيليين رفيعي المستوى قولهم إن نتنياهو يخشى أن يؤدي أي بحث جدي في احتمال عودة السلطة الفلسطينية إلى غزة إلى تفكيك حكومته. وقال مستشار إدارة بايدن، إيلان غولدنبيرغ: “نتنياهو عطّل كامل النظام السياسي الإسرائيلي، لأنه يعرف أن الحديث عن سيطرة فلسطينية على غزة سيفكك له الائتلاف”.
بعد اتفاق التهدئة في نهاية تشرين الثاني/نوفمبر 2023، والذي تم خلاله إطلاق أكثر من 100 أسير، ساد شعور دولي بأن الحرب تقترب من نهايتها. لكن نتنياهو، بحجة أن المعركة في خانيونس لم تكتمل، أطاح بالمسار. كما عرقل تحويل الأموال إلى السلطة الفلسطينية، رغم وجود ضمانة نرويجية، ما أثار غضب الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي أنهى مكالمة مع نتنياهو بغضب قائلاً: “إذا كنت لا تثق بالنرويج فلا فائدة من استمرار الحديث”.
وفي مطلع 2024، بدا واضحًا أن الاحتلال يتعمد المماطلة. فكلما اقتربت مبادرة تهدئة، طلبت حكومة الاحتلال “أسبوعين إضافيين”، لكن تلك الوعود تكررت مرارًا دون نتائج.
تشير وثائق التحقيق إلى أن فرصًا عديدة لعقد صفقة تبادل أسرى تم إفشالها بفعل حسابات نتنياهو السياسية. وقد تم التوصل في عدة مناسبات إلى تفاهمات بوساطة مصرية-قطرية-أميركية، لكن نتنياهو أحجم عن الموافقة عليها.
وفي نيسان/أبريل 2024، حين أبدى كل من وزير الجيش، ورئيس الأركان، وأعضاء من “الكابينت” الأمني دعمهم للتهدئة، فضّل نتنياهو مجددًا الإبقاء على تحالفه مع سموتريتش وبن غفير، اللذين هددا مرة أخرى بإسقاط الحكومة في حال قُدّمت مبادرة اتفاق. وأوعز مجددًا لمستشاريه: “لا تعرضوا الخطة”.
ورغم علمه بتآكل قدرة الجيش وتراجع الدعم الدولي، فإن نتنياهو واصل التمسك بشعار “النصر الكامل”، ووجّه المجهود العسكري نحو رفح، رغم أنه كان قد أكد للأميركيين سابقًا أنها ليست هدفًا استراتيجيًا.
ختمت الصحيفة تحقيقها بثلاث خلاصات رئيسية: سياسة نتنياهو تجاه حركة حماس قبل 7 تشرين الأول سهلت لها الاستعداد للهجوم، انشغال حكومته بـ”الانقلاب القضائي” الداخلي شجع حماس على تنفيذ عمليتها في “غلاف غزة” واستمرار الحرب جاء نتيجة قرارات ذات دوافع سياسية – لا أمنية – أبرزها الخوف من انهيار الحكومة.
ورغم أن وزير الجيش، ورئيس الأركان، ورئيس جهاز “الشاباك”، وغيرهم، قدموا استقالاتهم أو أُقيلوا، فإن نتنياهو – المسؤول السياسي الأول – لا يزال في موقعه، يقود أطول حرب في تاريخ الاحتلال، وسط دماء تسيل، وأسرى يُقتلون، وشعب محاصر يدفع الثمن.