آخر الأخبار

تحليل الحدث| صراع الذاكرة والنجاة: معركة إيران و"إسرائيل" من منظور الهوية العميقة

شارك

تحليل الحدث

لا يُختزل الصراع بين إيران و"إسرائيل" في كونه خلافا سياسيا أو مواجهة عسكرية تقليدية. فالمعادلة هنا أكثر تعقيدا وتُدار ضمن طبقات عميقة من اللاوعي الجمعي والتاريخي والديني. ما نشهده هو صراع هويات ورؤى كونية، حيث يتقاطع الخوف من الإبادة مع الحنين للخلاص، وتُروى المعارك بالقذائف والصواريخ كما تُروى بالرموز والذاكرة والأساطير.

فكل طرف في هذا الصراع يتكئ على روايته الخاصة للتاريخ، ويستمد منها مشروعية وجوده واستمراره. وعلى الرغم من أن الجغرافيا السياسية والسياسات الدولية تلعب دورا مهما، فإن الأساس الحقيقي لهذا التوتر المتصاعد ينبع من روايتين متقابلتين: رواية الخوف من التكرار في الحالة الإسرائيلية، ورواية التحرر من الطغيان في الحالة الإيرانية.

في الحالة الإسرائيلية، تشكل سردية الاضطهاد والشتات حجر الزاوية في العقيدة الأمنية والسياسية للدولة. هذه السردية لا تقتصر على كتب التاريخ أو المناهج الدراسية، بل تتغلغل في البنية المؤسساتية، وأبرزها الجيش. فبحسب وثائق منشورة على الموقع الرسمي لجيش الاحتلال، يُدرّب الجنود على فهم ما مرّ به الشعب اليهودي من مآس، وعلى رأسها الهولوكوست، كجزء من صقل وعيهم الأمني. الهدف من هذا التعليم ليس التثقيف فقط، بل خلق جندي يرى في كل تهديد خارجي شبحا لهلاك جماعي محتمل.

هذا التكوين المعرفي يعيد إنتاج خوف وجودي دائم يجعل من أي صراع عسكري مع جهة معادية، وخاصة إيران، صراعا مع شبح المحو، وليس مجرد مواجهة جيوسياسية. لذلك لا عجب أن يُكرر المتحدث باسم الجيش أفيخاي أدرعي، في كل مناسبة تقريبا، الحديث عن مأساة اليهود، سواء في خطاباته السياسية أو حتى في منشوراته الإعلامية الموجهة للعالم العربي.

هذا التكرار ليس فقط لتبرير سياسات الاحتلال، بل أيضا لإقناع الجمهور الإسرائيلي بأنهم دائما في حالة دفاع عن النفس، مهما كانت قوة "إسرائيل" الفعلية.

أما على لسان القادة السياسيين، فلا يختلف الأمر كثيرا. بنيامين نتنياهو، على سبيل المثال، لا يتردد في تصوير الصراع مع إيران بوصفه حرب الشعب اليهودي من أجل البقاء، ومعركة وجود لا خيار فيها. هذه المفردات لا تُستعمل عبثا، إنها امتداد لمخيال تاريخي يعتبر أن العالم الخارجي يترصد "إسرائيل"، كما كان الحال في أوروبا قبل الحرب العالمية الثانية. هذه الاستعارة التاريخية تتحول إلى سياسة أمنية هجومية تُبرر على أساس أن أي تساهل يعني عودة قطار الموت من جديد.

في المقابل، تُبنى الرواية الإيرانية من طين مختلف، لكنها تحمل نفس العمق التاريخي والرمزي. فوعي القيادة الإيرانية وشريحة واسعة من المجتمع يتغذى من مصدرين متداخلين: شعور قومي طويل بالاستهداف والغزو والاستعمار، وشعور مذهبي ديني يستند إلى مظلومية كربلاء التي تجسد قمة مواجهة الظلم وطلب العدل. ومن هنا، تتحول المقاومة بالنسبة لإيران إلى قيمة وجودية لا مجرد خيار سياسي.

هذا البعد الرمزي يتجلى بوضوح في لحظات المواجهة. فعند إطلاق الصواريخ، لا تكتفي إيران بعرض صور الأسلحة أو مواقع القصف، بل تُرفق ذلك بشعارات دينية عميقة مثل "يا صاحب الزمان"، و"يا حسين"، و"يا زهراء". هذه النداءات تُستحضر من عمق التاريخ الشيعي لا كزينة لغوية، بل كمفاتيح تعبير عن معركة مستمرة ضد الظلم، تبدأ في كربلاء ولا تنتهي إلا بسقوط ما يُعتبر رمزا للطغيان العالمي، أي "إسرائيل" والغرب الداعم لها.

من وجهة نظر إيران، لا تُحارب "إسرائيل" ككيان سياسي فقط، بل كممثل لحضارة تُجسد الغطرسة الغربية والاستعمار الحديث. ولذلك، يُصوّر استهداف تل أبيب على أنه ليس مجرد رد عسكري، بل جزء من مهمة روحية وحضارية لتحرير "المستضعفين" في الأرض. هذه العقيدة هي ما يربط بين الصاروخ المنطلق وصيحة "يا مهدي"، وبين المعركة والصلاة.

في ضوء ذلك، يبدو واضحا أن هذا الصراع يتجاوز مصالح الدولة التقليدية. فـ"إسرائيل" ترى في إيران تهديدا يعيد إلى السطح أسوأ فصول التاريخ اليهودي، بما في ذلك الإبادة الجماعية، في حين ترى إيران في "إسرائيل" تجسيدا لقوى الظلم التي يتوجب مقاومتها باسم الثورة والمقدسات والعدالة الإلهية. من هنا، يمكن فهم لماذا يخشى الطرفان تكرار التاريخ. فـ"إسرائيل" تخشى نكبة يهودية جديدة على يد عدو عقائدي لا يكل، وإيران تخشى سحق مشروعها التحرري وإعادة إنتاج الهزيمة أمام القوى العالمية. هذا التوتر النفسي العميق، المغذى بالتجارب التاريخية والأساطير المؤسسة، يجعل كل مواجهة أكثر من مجرد صدام مصالح، إنها معركة على المعنى والذاكرة وتفسير الماضي.

ولعل ما يجعل هذا الصراع صعبا وقابلا للاشتعال في كل لحظة هو أن منسوب القلق فيه لا يُقاس فقط بحجم الأسلحة أو التحالفات، بل بمدى تشبع الوعي الجمعي لدى كل طرف بهاجس الفناء أو الغدر أو الهزيمة المتكررة. فطالما ظل الجيش الإسرائيلي يدرب جنوده على تلاوة دروس المحرقة، وطالما ظلت منصات إطلاق الصواريخ في إيران تصدح بـ"يا حسين"، فإن المنطقة ستبقى رهينة لمعادلة خطيرة: صراع على الوجود يُغذيه صراع على التاريخ.

الحدث المصدر: الحدث
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا