آخر الأخبار

الرمزية السياسية والدينية في مواقع انعقاد جلسات حكومة الاحتلال في شرق القدس بذكرى احتلالها

شارك

الحدث - سوار عبد ربه

من داخل نفق ضخم يمتد من منطقة سلوان وصولا إلى أسفل المسجد الأقصى المبارك، ظهر رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، للمرة الأولى في هذا الموقع، مؤكدا تمسكه بوحدة مدينة القدس، ومتعهدا بعدم تقسيمها وتعزيز ما وصفه بسيادة إسرائيل عليها. وأشار نتنياهو إلى أنه "قدّم إلى الحكومة سلسلة قرارات تهدف إلى تطوير القدس في جميع أجزائها"، مستندا في ذلك إلى ما أسماه بـ "الحق التاريخي" في المدينة.

جاء هذا التصريح المصوّر متزامنا مع اقتحامات واسعة شهدتها مدينة القدس، حيث تجمّع مستوطنون من مختلف مناطق الأراضي المحتلة حاملين الأعلام الإسرائيلية، مرددين الأناشيد ذات الطابع القومي والصلوات التلمودية، وجابوا شوارع المدينة، بما في ذلك منطقة حائط البراق وساحات المسجد الأقصى، وذلك إحياءً لما يُعرف إسرائيليا بـ "يوم توحيد القدس"، الذي يوافق وفق التقويم العبري ذكرى احتلال الشطر الشرقي من المدينة في عام 1967.

إن اختيار نتنياهو الظهور من هذا الموقع بالتحديد لم يكن عفويا أو خاليا من الدلالات الرمزية، سواء كانت دينية أو سياسية، بل يأتي في سياق استراتيجية ممنهجة تهدف إلى تكريس مشروع استيطاني متكامل، يسعى إلى تعزيز سياسات التهويد والسيطرة المكانية على القدس ومحيطها.

سلوان كموقع رمزي

وفي هذا السياق، أوضح الباحث المتخصص في شؤون القدس والمسجد الأقصى، الدكتور عبد الله معروف، في تصريح خاص لـ" صحيفة الحدث"، أن اختيار بعض المواقع في شرقي مدينة القدس، وتحديدا في بلدة سلوان، لعقد جلسات سياسية وتصوير المواد الدعائية لرئيس حكومة الاحتلال في خضم العدوان المتواصل على قطاع غزة، يحمل أبعادا رمزية كبيرة تتصل بطبيعة المكان وسياقات الادعاء الإسرائيلي المرتبط به.

وأضاف معروف أن منطقة سلوان، حيث تم تصوير المقطع المصور لنتنياهو، تمثل في الوعي الإسرائيلي الموقع الذي يُزعم أنه شهد أول عاصمة يهودية داخل حدود القدس، والمعروفة لديهم باسم "مدينة داوود". إلا أن الحفريات الأثرية التي أجراها باحثون إسرائيليون أنفسهم، مثل إيلاك نزار، أظهرت أن هذه المدينة تعود إلى فترة تسبق النبي داوود عليه السلام بما لا يقل عن 1500 عام.

وفي المقطع المصور ظهر نتنياهو وهو يخاطب مصوره قائلا: "نحن في شارع "عولي هريغيل" في مدينة داوود.. قصة مذهلة انظر أيضا إلى البلاط تحت أقدامنا، هذا هو البلاط الذي وطأته أقدام أجدادنا كان اليهود هناك عند بركة سلوان، يغتسلون، ثم يصعدون عبر هذا الشارع إلى الأعلى إلى جبل الهيكل، ليصلوا في الهيكل".

وبحسب معروف، فإن توظيف هذا الموقع يحمل بعدا أيديولوجيا يسعى إلى إعادة إنتاج التاريخ بصورة انتقائية، تدعم سردية الاحتلال بأن القدس "مدينة يهودية منذ الأزل"، ويؤكد في ذات الوقت على تجديد "العهد القومي" بالسيطرة عليها، خاصة في ذكرى احتلال شطرها الشرقي.

من جانبه، أوضح الباحث المتخصص في شؤون القدس، مازن الجعبري، في لقاء مع "صحيفة الحدث"، أن أهم دلالات عقد اجتماع حكومة الاحتلال في هذا الموقع تتمثل في تكريس رسالة سياسية مفادها أن حكومة الاحتلال تعتزم الاستمرار في التوسع الاستيطاني، لا سيما في مدينة القدس، وبشكل خاص في أحيائها القديمة. وأشار الجعبري إلى أن هذا التوسع يتم من خلال سياسات ممنهجة تشمل هدم المنازل، ومصادرة الممتلكات الفلسطينية، ودفع السكان الأصليين إلى الهجرة القسرية، في إطار حملة منظمة تشارك فيها الأجهزة الأمنية، وميليشيات المستوطنين، والجمعيات ذات الطابع الفاشي. وأكد أن القدس القديمة تمثّل "قلب وروح المشروع الاستيطاني في فلسطين"، لما تحمله من رمزية دينية وتاريخية وموقع استراتيجي.

وكانت حكومة الاحتلال قد دأبت على عقد جلسات رسمية لها في مواقع تحمل دلالات رمزية داخل مدينة القدس، بهدف ترسيخ سرديتها السياسية والدينية. ففي عام 2011، عُقدت إحدى جلساتها في قلعة القدس، الواقعة قرب باب الخليل، وهو أحد الأبواب التاريخية للبلدة القديمة. وفي عامي 2017 و2023، اختارت حكومة الاحتلال عقد جلساتها داخل الأنفاق المحيطة بالمسجد الأقصى وحائط البراق.

المكان كأداة سردية

وفيما يتعلق بالبعد الرمزي لاختيار مواقع معينة لعقد جلسات حكومة الاحتلال، وانعكاس ذلك على السردية الصهيونية المرتبطة بمفهوم "القدس الموحدة"، أوضح الباحث عبد الله معروف أن هذا الاختيار يعكس مسعى صهيوني واضح لإعادة تشكيل الوعي العام تجاه مدينة القدس، وتحديدا فيما يتعلق بربطها بقيام "الدولة الإسرائيلية". وأشار معروف إلى أن الاحتفالات بما يسمى "عيد الاستقلال"، الذي يُقام سنويا في الشهر الذي يسبق "يوم القدس"، لا تشمل القدس كمكوّن أساسي في رمزية تأسيس الدولة، وذلك لأن القسم الغربي من المدينة لا يحمل ذات البعد الروحي والديني الذي يتمتع به القسم الشرقي، الذي يضم المسجد الأقصى، والذي تدّعي سلطات الاحتلال أنه مقام على أنقاض "المعبد المزعوم".

وأضاف معروف أن حكومة الاحتلال تسعى، من خلال احتفالات "يوم القدس"، إلى ربط الرمزية القومية لقيام الدولة مع الرمزية الدينية والسياسية لاحتلال الشطر الشرقي من المدينة، في محاولة لدمج هذين الحدثين ضمن سردية واحدة توحي بأن ما جرى عام 1967 ليس احتلالا بل "توحيدا"، على حد وصف الخطاب الإسرائيلي. وبهذا، يحاول الاحتلال إضفاء شرعية على وجوده في شرقي القدس، التي لم يحظَ احتلالها بأي اعتراف دولي، عبر تقديم ذلك الوجود كامتداد طبيعي لما تسميه بـ "عاصمتها الموحدة"، بما يخدم مساعيها في فرض سيادة أحادية على المدينة وتقويض الرواية الفلسطينية.

من جانبه، أشار الباحث مازن الجعبري إلى أن عملية طوفان الأقصى التي اندلعت في 7 أكتوبر 2023 شكلت نقطة تحول فارقة في البنية السردية الصهيونية التوراتية، التي طالما تمحورت حول فكرة أن "إسرائيل" أُنشئت لتكون ملاذا آمنا لليهود، وأن فلسطين تمثل "الأرض الموعودة" لهم إلى الأبد. وأوضح الجعبري أن هذه السردية تعرضت لتحديات بنيوية أضعفت من حضورها في الخطاب السياسي الصهيوني، وأدخلت التيارات الصهيونية في أزمة تاريخية تتعلق بمدى الشعور بالأمن والاستقرار الوجودي في فلسطين. وضمن هذا السياق، سعت حكومة الاحتلال إلى ترميم هذا الشعور بالأمان لدى المجتمع الإسرائيلي عبر توظيف رمزية دينية توراتية مكثفة، تمثلت في تنظيم "مسيرة الأعلام" وعقد جلسة الحكومة في سلوان، باعتبار أن هذه الرموز تُسهم في إعادة إنتاج وعي قومي يهودي يقوم على أولوية البقاء وشرعية استعمار فلسطين.

رسائل متعددة الاتجاهات من جلسات الحكومة في القدس

وفي إطار توظيف الرمزية السياسية للمواقع المختارة لعقد جلسات حكومة الاحتلال، أوضح الباحث عبد الله معروف أن هذا التوجه يمثل جزءا من استراتيجية اتصالية متعددة الأبعاد، تهدف إلى إرسال رسائل سياسية واضحة ومباشرة لعدة أطراف: أولا للفلسطينيين، لتأكيد أن لا مجال لتحقيق تطلعاتهم في إقامة دولة مستقلة عاصمتها القدس، وثانيا للمجتمع الدولي، حيث تسعى إسرائيل إلى التأكيد من خلال هذه الإجراءات أنها لا تعير أهمية للاعتراف الدولي بسيادتها على المدينة المقدسة، وتتعامل مع القدس كعاصمة "أبدية" للدولة الإسرائيلية، بغض النظر عن المواقف الدولية الرافضة لذلك.

بدوره، أشار البحث مازن الجعبري إلى أن اختيار حكومة الاحتلال عقد جلستها الوزارية في بلدة سلوان المحتلة، وداخل بؤرة استيطانية، تزامنًا مع الذكرى السنوية لاحتلال الشطر الشرقي من القدس عام 1967، يحمل دلالات رمزية عميقة. فعلى المستوى الداخلي، هدفت الحكومة المتطرفة، التي تهيمن عليها تيارات دينية قومية، إلى التأكيد على وحدة موقفها وتمسكها بمدينة القدس كعاصمة أبدية، كما أرادت من خلال هذا الفعل أن تبعث برسالة إلى المعارضة والمحتجين في الداخل الإسرائيلي مفادها أنها حكومة مستقرة ومتماسكة ومؤمنة بالروح الصهيونية الدينية القومية.

أما على المستوى الخارجي، فإن لهذا الحدث دلالة مختلفة، إذ يأتي في سياق عزلة سياسية متزايدة تتعرض لها "إسرائيل" على خلفية جرائم الحرب المرتكبة في غزة والضفة الغربية، إلى جانب التصعيد المتنامي في لهجة الانتقاد الدولي، وقرارات الاعتراف المتتالية بالدولة الفلسطينية من قبل دول مثل إسبانيا، النرويج، وإيرلندا، مع إشارات فرنسية مشابهة. وبهذا المعنى، فإن عقد الجلسة في سلوان جاء كرسالة سياسية تؤكد رفض حكومة الاحتلال الاعتراف بالحقوق الوطنية الفلسطينية، أو القبول بفكرة الدولة الفلسطينية.

وفيما يخص الرسائل الموجهة إلى الفلسطينيين، فقد أوضح الجعبري أن حكومة الاحتلال تسعى إلى ترسيخ قناعة مفادها أن مشروع الاستيطان والاحتلال مستمران بلا توقف، وأن القوة العسكرية هي الوسيلة الأساس لفرض الأمر الواقع. وتُستخدم هذه الرمزية لإيصال رسالة واضحة مفادها أن النكبات المتتالية هي الأداة التي ستستمر في استخدامها لتفكيك الحلم الفلسطيني، وأن ما يجري في قطاع غزة من إبادة جماعية وتطهير عرقي يمثل النموذج الذي ينتظر الفلسطينيين إن استمروا في التمسك بحقوقهم الوطنية والتاريخية على هذه الأرض.

الأعياد الدينية والقومية كأداة لتكريس السيطرة على القدس والأقصى

لا تقتصر ممارسات الاحتلال في القدس على الجوانب الرمزية والدعائية، بل تمتد لتشمل توظيفا عمليا للأعياد اليهودية والدينية والقومية كمناسبات استراتيجية لتعزيز السيطرة على المدينة، لا سيما في محيط المسجد الأقصى. وتبدأ هذه السياسات بإعدادات وتحضيرات مسبقة، سواء على المستوى الرسمي أو الشعبي، تعكس توجها واضحا نحو فرض وقائع ميدانية جديدة، وتكثيف الوجود الأمني والعسكري في المدينة.

وفي هذا السياق، يشير الباحث المختص في شؤون القدس، فخري أبو ذياب، في لقاء مع "صحيفة الحدث"، إلى أن الأعياد اليهودية تحوّلت إلى كابوس دائم بالنسبة لمدينة القدس وسكانها، وخاصة المسجد الأقصى المبارك. إذ تشهد المدينة خلال تلك المناسبات حالة من العسكرة الشاملة، مع انتشار كثيف لقوات الاحتلال والشرطة، التي تعمل على تشديد الخناق على الفلسطينيين في القدس، وتفرض قيودا صارمة على حركتهم، تصل إلى إغلاق طرق رئيسية لتأمين تحركات المستوطنين، ولا سيما في طريقهم إلى البلدة القديمة وحائط البراق، وكذلك خلال اقتحاماتهم المتكررة للمسجد الأقصى.

وقد رافق ما يُسمّى بـ "يوم توحيد القدس" هذا العام اقتحام جماعي للمسجد الأقصى، إذ دخل 2092 مستوطنا إلى ساحات المسجد تحت حماية مشددة من قوات الاحتلال، عبر باب المغاربة الذي يسيطر عليه الاحتلال منذ عام 1967. وتُظهر إحصائيات دائرة الأوقاف الإسلامية في القدس تصاعدا مستمرا في أعداد المقتحمين في هذا اليوم تحديدا، حيث بلغ العدد 1601 عام 2024، و1262 عام 2023، ما يعكس استغلال الاحتلال لهذه المناسبة لفرض وقائع جديدة داخل المسجد.

ويضيف أبو ذياب أن هذه الاقتحامات تأتي ضمن استراتيجية تهدف إلى تقليص الوجود الفلسطيني في المدينة خلال فترة الأعياد، عبر التضييق عليهم، ومحاصرتهم، وإبعادهم عن الأماكن المقدسة، ما يكرس واقعا ميدانيا يجعل من القدس مدينة طاردة لأهلها، مقابل توفير بيئة آمنة ومشجعة للمستوطنين، وكأن المدينة تخضع بشكل كامل للسيادة الإسرائيلية.

وينفذ هذا المخطط تدريجيا، وفق ما يوضحه أبو ذياب، بدءا من منع الفلسطينيين من الوصول إلى المسجد الأقصى من خلال الحواجز والمتاريس العسكرية، مرورا بفرض قيود على الفئات العمرية المسموح لها بالدخول، وانتهاء بالاعتداءات على المتواجدين داخل المسجد وإبعادهم قسرا، وذلك بهدف إخلاء المسارات أمام المستوطنين المتطرفين، ومنع أي رد فعل احتجاجي من المصلين على الانتهاكات التي يتعرض لها المسجد.

الحدث المصدر: الحدث
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا