الحدث - سجود عاصي
منذ 21 ينايركانون الثاني 2025، تشن قوات الاحتلال الإسرائيلية عملية عسكرية واسعة النطاق في مدينة جنين ومخيمها بالضفة الغربية المحتلة، مستهدفةً ما تصفه بـ"البنية التحتية للمقاومة الفلسطينية"، وتُعد هذه العملية الأكبر من نوعها منذ عام 2002، وقد أسفرت عن ارتقاء عشرات الشهداء والجرحى، بالإضافة إلى تدمير واسع في الممتلكات والبنية التحتية.
وانتهجت قوات الاحتلال في عمليتها العسكرية الأخيرة والمستمرة على جنين ومخيمها سياسة هدم وقصف وتفجير المنازل الفلسطينية، حيث شملت 120 منزلًا بشكل كامل، بالإضافة إلى تضرر عشرات المنازل الأخرى جزئيًا، مما أدى إلى نزوح ما يقارب 15,000 شخص من منازلهم قسرا.
ولم تقتصر الأضرار على المنازل فحسب، بل طالت البنية التحتية الحيوية في المدينة، وقامت قوات الاحتلال بتجريف الشوارع الرئيسية، بما في ذلك المدخل المؤدي إلى مستشفى جنين الحكومي، مما أعاق وصول المرضى والجرحى إلى الخدمات الطبية الضرورية. كما تم قطع الخدمات الأساسية مثل المياه والكهرباء عن أجزاء واسعة من المدينة، مما زاد من معاناة المواطنين.
وتُظهر العملية العسكرية الإسرائيلية في جنين نهجًا استراتيجيًا متعدد الأبعاد، يتجاوز الأهداف الأمنية المعلنة ليعكس توجهات أيديولوجية وسياسية أعمق. ففي الوقت الذي تسوّق فيه إسرائيل عمليتها على أنها "محاربة الإرهاب" و"تفكيك بنية المقاومة"، يكشف الواقع الميداني عن سعي حثيث لإعادة رسم الخريطة الديمغرافية والسياسية للمخيمات الفلسطينية. يتضح ذلك من محاولات ترسيخ واقع جديد يستند إلى تهجير السكان وتفكيك البنى الاجتماعية والاقتصادية، بهدف تقويض أي حاضنة شعبية للمقاومة.
كما يتجلى البعد السياسي لهذه العملية في مساعي الاحتلال لإعادة تعريف الوضع القانوني لمخيمات اللاجئين عبر دمجها بالمدن المجاورة، وهو ما يعكس نية صريحة لتصفية قضية اللاجئين وإسقاط حق العودة. بهذا، لا تقتصر أهداف الاحتلال على القضاء على التهديدات الأمنية المباشرة، بل تمتد إلى إعادة هيكلة الواقع الفلسطيني بأبعاده المختلفة، في خطوة استراتيجية لفرض حل أحادي الجانب يتناغم مع الرؤية الإسرائيلية لمستقبل الضفة الغربية.
وأثارت العملية العسكرية انتقادات واسعة من قبل منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية، التي أعربت عن قلقها إزاء استخدام القوة المفرطة والتأثير السلبي على المدنيين. ودعت هذه المنظمات إلى وقف فوري للعمليات العسكرية وتقديم المساعدات الإنسانية العاجلة للمتضررين، وضمان حماية المدنيين وفقًا للقانون الدولي الإنساني.
استمرار التوتر وتصاعد الأوضاع
مع دخول العملية أسبوعها الخامس، لا تزال الأوضاع في جنين متوترة، وسط مخاوف من تصاعد العنف الإسرائيلي وامتداده إلى مناطق أخرى في الضفة الغربية، ويستمر النازحون في مواجهة ظروف معيشية صعبة، في ظل نقص المساعدات والإمكانات المحدودة. وفي الأيام الأخيرة، شهدت مدينة جنين ومخيمها دخول الدبابات الإسرائيلية لأول مرة منذ سنوات، في تصعيد عسكري غير مسبوق. واستخدمت قوات الاحتلال الإسرائيلية الدبابات لاقتحام الأحياء السكنية، ما أدى إلى تدمير واسع في الطرق والمنازل. ويعتبر هذا التصعيد تحولًا كبيرًا في أسلوب العمليات العسكرية، إذ لم تُستخدم الدبابات في اقتحام المدن الفلسطينية منذ اجتياحات عام 2002.
إعادة هندسة المخيم
ويمكن الاستنتاج أن العملية العسكرية لجيش الاحتلال في مخيم جنين ومخيمات شمال الضفة الغربية بشكل عام تتجاوز الهدف المعلن بمحاربة مجموعات المقاومة التي نشأت على مدار السنوات القليلة الماضية هناك، أو منع مفاجآت كتلك التي حدثت في السابع من أكتوبر 2023، إذ يتضح أن الهدف هو إعادة هندسة المخيم الفلسطيني ديمغرافيا وجغرافيا وسياسيا؛ وهو ما يتضح من تصريح وزير جيش الاحتلال يسرائيل كاتس بأن 40 ألف فلسطيني نزحوا عن مخيمات جنين وطولكرم ونور شمس ولن يسمح لهم بالعودة.
ويقول الكاتب والمحلل السياسي ورئيس مركز القدس للدراسات أحمد رفيق عوض في لقاء خاص مع "صحيفة الحدث"، إن الاحتلال الإسرائيلي يريد عمليا أن يثبت وضعا جديدا في شمال الضفة الغربية المحتلة يقوم على فرض السيادة والضم وتهجير الفلسطينيين من المخيمات وتدمير المخيمات في شمال الضفة المحتلة وذلك في مسيرة قد لا تكون طويلة لتدمير حل الدولتين وإضعاف السلطة الوطنية الفلسطينية إلى حدّ كبير.
وأضاف عوض، أن ما يجري في شمال الضفة وخاصة مخيم جنين، خطير جدا، خاصة وأن هذه الحرب جزء كبير منها إعلامي بسبب عدم وجود جبهة عسكرية في الضفة الغربية المحتلة، وفق المحلل السياسي. مشيرا إلى أن الاحتلال الإسرائيلي يقول إن ما يجري هو حرب في الضفة من أجل تحقيق أهداف سياسية إسرائيلية.
ورأى عوض، أن الاحتلال الإسرائيلي بعمليته العسكرية في شمال الضفة الغربية المحتلة؛ يعيد هندسة المخيم ديمغرافيا وجغرافيا ويعمل على تغيير مكانته القانونية بزعم أنه لم يعد مخيما وأنه حي من أحياء المدينة يتبع للبلدية، وتريد أن تفصله بشكل تام عن الأونروا التي تم حظر نشاطاتها بقرار إسرائيلي بمزاعم إسرائيلية حول المنظمة، كما تعيد إسرائيلي هندسة المخيم بطرد الفلسطينيين وإعادة تشكيل شوارع وبنايات المخيم وتعيد تركيبه بمزاعم القضاء على المقاومة وإنما يهدف الاحتلال في حقيقة الأمر إلى القضاء على فكرة اللاجئين بشكل نهائي.
ووفق الكاتب والمحلل السياسي أحمد رفيق عوض، فإن الاحتلال الإسرائيلي عمل على مدار 67 عاما، على حل القضية الفلسطينية بالقوة وحتى اللحظة، نحن في المربع الأول، وما زال الاحتلال يعلن حروبا كثيرا من أجل الاعتراف به والاستيلاء على الأراضي الفلسطينية، وهذا كله كلام سيذهب كما كل المحاولات التي ذهبت، وحظر الأونروا في الضفة والقدس المحتلتين لا ولن يلغي حقّ العودة على الإطلاق. وأردف: نحن في إحدى جولات الصراع مع المحتل.
ولا يخفي الاحتلال الإسرائيلي نواياه المستقبلية لفرض واقع جديد في مدينة ومخيم جنين على سبيل المثال، في خطوة تمثل جزءًا من مخطط أوسع لتصفية قضية اللاجئين وإعادة تشكيل الحياة اليومية في الضفة الغربية. يتضمن مخطط الاحتلال إنهاء عمل مؤسسات الأونروا، بما في ذلك المدارس والخدمات الأخرى، ودمج مخيم اللاجئين في مدينة جنين، ليصبح تابعا لها من حيث التعليم والمساعدات والخدمات، مما يعكس نية تصفية قضية اللاجئين وطمس هويتهم.
ووفق محللين سياسيين، فإنه لا شك أن الإجراءات والقوانين التي سنها الاحتلال ضد الأونروا هي وسيلة تضاف للوسيلة العسكرية لتصفية قضية اللاجئين. يسعى الاحتلال إلى تصفية القضية، وتعويد السكان على وجود جيش الاحتلال الإسرائيلي، مع تعزيز الحصار الاقتصادي الذي يساهم في خلق بيئة يفقد فيها الفلسطينيون أي أمل في الحياة داخل الضفة الغربية. هذا الوضع قد يدفعهم إلى الهجرة الطوعية. كما يهدف الاحتلال إلى تدمير الحاضنة الشعبية للمقاومة، من خلال القضاء على أي مكان يحتضن المقاومين أو يدعم المقاومة.
وفيما يتعلق بتصريح كاتس عن وجود طويل داخل مخيمات اللاجئين في شمال الضفة الغربية، فإن ذلك يعني تعزيز وجود جيش الاحتلال الإسرائيلي في المنطقة ليصبح أمرًا واقعًا، حيث ستكون العمليات العسكرية جزءًا من الحياة اليومية، وستنفذ عندما يشعر الاحتلال بأي "خطر" أو عند اعتبار أن هناك "هدفًا"، دون الحاجة لتبرير موسع. هذا يعني عمليا إلغاء آخر الاعتبارات لوجود السيطرة الفلسطينية في تلك المناطق.
ورغم أن العمليات العسكرية للاحتلال في جنين لا تستدعي من الناحية العملية استقدام دبابات، إلا أن دخولها للمنطقة كانت له أهداف عدة تتجاوز الهدف العسكري. فهي تريد أن تعيد للأذهان مشاهد الانتفاضة الثانية والاجتياح الذي جرى في خضمها وما كان له من تبعات، وكأن الاحتلال يريد أن يقول للفلسطينيين إن ثمن المقاومة كبير. ويسعى كذلك إلى القضاء على الكيانية السياسية الفلسطينية وجعلها أكثر هشاشة. وكذلك في ضوء تحرير أعداد كبيرة من أسرى الضفة الغربية ممن لهم دور في الانتفاضة الثانية ويفترض الاحتلال أن يكون لهم دور مقاوم، فهو يريد أن ينقل رسالة واضحة لهم أن الواقع تغيّر ونسبة نجاح أي حالة مقاومة تكاد تكون معدومة.
إلى جانب الأبعاد العسكرية والسياسية، تكشف العملية في جنين عن استراتيجية إسرائيلية تهدف إلى كسر إرادة المقاومة من خلال خلق حالة من الرعب والاضطراب بين سكان المخيمات. فدخول الدبابات للمرة الأولى منذ سنوات يعيد إلى الأذهان مشاهد الانتفاضة الثانية، في رسالة واضحة بأن الاحتلال مستعد لاستخدام أقصى درجات القوة للقضاء على أي تهديد لمصالحه.
وفي هذا السياق، لا يمكن إغفال البعد الإعلامي للعملية، إذ يسعى الاحتلال إلى فرض روايته للأحداث على المجتمع الدولي، مبررًا هجماته بأنها تستهدف "مكافحة الإرهاب". ويأتي ذلك في إطار مساعٍ أوسع لتشويه صورة المقاومة الفلسطينية، ما يعكس محاولات لخلق شرعية دولية للتحركات العسكرية الإسرائيلية.
ويتزامن هذا التصعيد العسكري مع توترات سياسية داخلية في إسرائيل، ما يثير تساؤلات حول استغلال المسؤولين الإسرائيليين للوضع الأمني في جنين لتعزيز مواقفهم السياسية. فمن خلال التصعيد في الضفة الغربية، تسعى الحكومة الإسرائيلية إلى كسب دعم اليمين المتطرف، وإظهار قوة الردع العسكرية كوسيلة لتعزيز شعبيتها في الداخل بعد الفشل المدوي في السابع من أكتوبر.