محمود شقير: النتاجات الفنية والأدبية التي سطّرها الشهداء والشهيدات ستظل خير شهادة ضد العدوان والخسّة والقبح
د. طلال أبو عفيفة: الجرائم الإسرائيلية المتصاعدة تتعمد استهداف مَن يحملون الرواية الفلسطينية للعالم وكل ما يمثّل الحياة
إبراهيم جوهر: اغتيال غسان كنفاني قبل أكثر من خمسين عاماً كان بداية لمسلسل الاغتيالات الثقافية ضد الفلسطينيين
د. منال قادري: الاحتلال قرر متعمّداً قتل الفنّان وطمس صوته وفنّه لأنه الوسيلة الناجعة التي تقتله معنويّاً وتُقزّمه أمام العالم
أسامة نزال: جرائم الإبادة حصدت 21 فناناً ومبدعاً وأكثر من 50 منارة للفنون من مسارح ومعاهد ومراسم وجاليريات
لم تُوفر حرب الإبادة التي تشنها دولة الاحتلال في قطاع غزة للشهر الثالث عشر على التوالي لا صغيراً ولا كبيراً، لا أمراة ولا رجلاً، لا مؤسسة ولا شارعاً، غير أنّ ما كان لافتاً هو الاستهداف غير المسبوق للصحافيين والكُتاب والأدباء والفنانين وأساتذة الجامعة، الذين جرى استهداف الغالبية العظمى منهم مع عائلاتهم.
ويتضح أن هذا الاستهداف كان متعمداًِ ومقصوداً، للخطورة التي يمثلها هؤلاء على المشروع الاستعماري الإسرائيلي على جبهة الرواية والسردية ونقل الحقائق للعالم، وتوثيقها كتابياً أو أدبياً، أو فنياً، وبالتالي التعامل معها كجبهة موازية لجبهة القتال في الميدان، وربما أهم، لذلك كان عدد المبدعين من كُتاب وفنانين وصحافيين ممن استشهدوا مهولاً وغير مسبوق في تاريخ الصراعات.
لكن ما يدعو إلى التساؤل والتعجب ردود الفعل الدولية، ومن المؤسسات والمنظمات ذات الاختصاص، إزاء هذا النوع من الجرائم بحق أُناسٍ لا علاقة لهم بالقتال والعمل المسلح، الذريعة التي تبرر بها دولة الاحتلال حربها الوحشية في القطاع، والتي لم تسلم منها المؤسسات الأكاديمية من جامعات ومعاهد ومدارس، إضافة إلى المؤسسات الثقافية.
"نحن نحترق" آخر أعمال الفنانة التشكيلية محاسن الخطيب
وقال القاص والروائي المقدسي محمود شقير: "وأنا أتابع بحزن وأسى جرائم القتل والمجازر الدموية التي ترتكب كل يوم ضد شعبنا في قطاع غزة، تذكرّت وصف الشاعر محمود درويش لمجزرة صبرا وشاتيلا حين قال في قصيدته: "صبرا هوية عصرنا حتى الأبد".
وتساءل: لو كان محمود درويش ما زال على قيد الحياة، ماذا كان سيكتب شعرًا عن المجازر البشعة التي تحدث كل يوم هناك؟
وأشار شقير إلى أن آخر هذه المجازر هي التي وقعت بتاريخ 18-10-2024 في مخيم جباليا، وكان من بين ضحاياها الفنانة التشكيلية الفلسطينية محاسن الخطيب، التي نشرت آخر أعمالها قبل استشهادها رسمة بعنوان "نحن نحترق"، وشاهدها ما يقرب من خمسة ملايين شخص في العالم.
وأكد شقير أن محاسن الخطيب الشابة، البالغة من العمر 31 سنة، كانت أعلنت أنها مستعدة لتنظيم دورة مجانية لتعليم الرسم، لتبقى صدقة عن روحها إنْ ماتت.
وأوضح أن "استشهاد محاسن ليس الأول وليس الأخير، قبلها مضت قافلة طويلة من الشهيدات والشهداء؛ أذكر الشاعر سليم النفار الذي استشهد قبل أشهر قليلة في حرب الإبادة الراهنة، وقبله استشهدت الشاعرة الروائية هبة أبو ندى مؤلفة رواية "الأوكسجين ليس للموتى"، وإذا أوغلنا أكثر في الماضي نتذكر الشهيد القائد ماجد أبو شرار، صاحب الكتاب القصصي "الخبز المر" والذي اغتاله الموساد عام 1980، وقبله اغتيل الشهيد الشاعر كمال ناصر عام 1973، وقبله اغتيل الشهيد القاص الروائي الفنان التشكيلي غسان كنفاني، وقبله استشهد الشاعر عبد الرحيم محمود، وهو يدافع عن أرض الوطن، علاوة على قائمة طويلة من الصحافيات والصحافيين الفلسطينيين واللبنانيين".
كيف يُسوّغ المحتلون لأنفسهم قتل المبدعات والمبدعين؟
وتابع شقير حديثه: "لكي نفهم كيف يسوّغ المحتلون الإسرائيليون لأنفسهم قتل المبدعات والمبدعين من أبناء الشعب الفلسطيني وبناته، يكفي أن نتذكر مقولة وزير دفاعهم غالانت الذي وصف الفلسطينيين في قطاع غزة بأنهم "حيوانات بشرية"، لتبرير القتل والإبادة الجماعية، فكيف والحالة هذه، وكيف ومنطقهم على هذه الشاكلة يمكن أن يوفروا دماء الفنانين والفنانات والكتاب والكاتبات والصحافيات والصحافيين الذين يدافعون عن شعبهم بالريشة والقلم وبالكاميرا والتقرير الصحافي والتلفزيوني، ويفضحون جرائم الجيش المحتل ضد شعب يعاني من الغزوة الصهيونية منذ ما يزيد عن مئة عام؟!".
وأردف قائلاً: "وهم، أي هذه النخبة من الشهيدات و الشهداء الذين أخذوا على عاتقهم فضح ادعاءات المحتلين الصهاينة الذين يمارسون الكذب للتغطية على جرائمهم بالقول إنهم يدافعون عن أنفسهم، وهم الذين احتلوا الأرض ومارسوا الإبادة ضد عشرات القرى الفلسطينية في دير ياسين والدوايمة والطنطورة وأبو شوشة وغيرها إبان كارثة 1948".
واختتم شقير بالقول: "في ظل التخاذل العربي الرسمي وتواطؤ بعض الدول وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميريكية مع المعتدين، فإن النتاجات الفنية والأدبية والصحافية التي سطرها الشهداء والشهيدات ستظل مع مجموع النتاجات الثقافية الفلسطينية الملتزمة بالولاء للوطن، وبفضح جرائم الحركة الصهيونية ضد شعبنا، خير شهادة ضد العدوان، وضد الخسّة والقبح والبشاعة التي ستُخرج المحتلين الإسرائيليين من دائرة البشر الأسوياء، وستلازمهم من جرّاء شرورهم إلى أبد الآبدين".
تدمير كل ما يُمثّل الحياة
بدوره، قال د. طلال أبو عفيفة، عضو الأمانة العامة للاتحاد العام للكتّاب والأدباء الفلسطينيين: إن الجيش الإسرائيلي، بتوجيه من القيادة السياسية برئاسة نتنياهو ووزيري حكومته بن غفير وسموتريتش، يستهدف من حربه على قطاع غزة القضاء على الإنسان الفلسطيني، سواء أكان مقاتلاً أم مدنياً، وتدمير كل ما يمثّل الحياة، من البشر إلى الحجر والشجر.
وأشار أبو عفيفة إلى أن الهجمات الإسرائيلية تتعمد استهداف المثقفين الفلسطينيين، بمن فيهم الكتّاب والأدباء والفنانين وأساتذة الجامعات، وهم من يحملون الرواية الفلسطينية إلى العالم، حيث بدأت دول كثيرة بالتعاطف مع الشعب الفلسطيني واستنكار الجرائم الإسرائيلية المتصاعدة.
وأوضح أن "آخر ضحايا هذا الاستهداف كانت الفنانة الفلسطينية محاسن الخطيب، التي اغتالها الجيش الإسرائيلي، وقد كانت تساهم برسوماتها في نشر الرواية الفلسطينية عبر رسوماتها وتوعية العالم بحقيقة معاناة شعبها، مما أكسبها شعبية واسعة على الساحة الدولية".
ولفت إلى أن إسرائيل تسعى لتفريغ الأرض الفلسطينية من أصحابها الأصليين للتوسع في مشاريع الاستيطان، تحقيقاً لأهدافها بإقامة "مملكة إسرائيل" التي تمتد من النيل إلى الفرات، وهي مخططات ترسخت منذ عام 1948 بدعم من بريطانيا وأميركا وتواطؤ بعض الأطراف العربية.
وأعرب أبو عفيفة عن أسفه حيال الموقف العربي والإسلامي الذي لا يزال، "في سبات عميق"، مشيراً إلى المقولة الشهيرة: "أُكلتُ يوم أُكِل الثور الأبيض" في إشارة إلى ضرورة اتخاذ موقف موحد قبل فوات الأوان.
اغتيال الكلمة والريشة
من جهته، وصف الأديب المقدسي إبراهيم جوهر استهداف الفنانين والمبدعين الفلسطينيين بأنه "اغتيال للكلمة والريشة"، معتبراً أن هذا القتل يمثل اغتيالاً للحياة نفسها وتطبيقاً عملياً لمقولة وزير الدعاية النازي غوبلز: "ما إن أسمع كلمة ثقافة حتى أتحسس مسدسي".
وقال جوهر "ان الكلمة تقاتل وكذا الريشة لذا يغتالها أعداء الحياة والحرية"، مضيفاً: "إن الأعداء يخشون الوعي الذي يزرع مقاوماً للظلام لذا تراهم يشجعون على الاكتفاء بفلسفة الحيوان البهيم الذي يعيش ليأكل لا يأكل ليعيش".
وأشار جوهر الى أن الفلسطينيين خبروا طوال تاريخهم اغتيال رجال العلم والثقافة والمبدعين الذين يرى الأعداء في نتاجهم الفني ما يوازي كتيبة من المقاتلين.
وذكر أن "اغتيال غسان كنفاني برفقة ابنة شقيقته قبل أكثر من خمسين عامًا كان بداية لمسلسل الاغتيالات الثقافية ضد الفلسطينيين، وتلاه اغتيال المبدعين ماجد أبو شرار، وعز الدين القلق، وكمال ناصر، وكمال عدوان، وناجي العلي، وغيرهم من المثقفين الفلسطينيين والعرب الذين قاوموا بالكلمة والريشة".
وسلط جوهر الضوء على الشاعر الفلسطيني الشهيد عبد الرحيم محمود من عنبتا، الذي جسّد كلماته على أرض الواقع باستشهاده في معركة الشجرة، قائلاً: "لقد عاش عبد الرحيم محمود بشعره وكلماته التي قال فيها: سأحمل روحي على راحتي وألقي بها في مهاوي الردى، فإما حياة تسرّ الصديق وإما ممات يغيظ العدا".
وأكد الأديب المقدسي جوهر أن اللوحة، والنشيد، والكلمة هم رموز مقاومة تؤرق راحة الطامعين، وتُذكّرهم دوماً بوجود شعب مقاوم. ويرى أن استهداف المبدعين ليس سوى محاولة بائسة لإفساح الطريق أمام آلة الموت الاحتلالية.
القضاء على الأدوات الفنية والثقافية
من جانبها، أكدت الدكتورة منال قادري، أستاذة علم الاجتماع بجامعة تونس، أن استهداف إسرائيل للفنانين والشعراء ورسامي الكاريكاتير الفلسطينيين يعكس رغبة الاحتلال في القضاء على الأدوات الفنية والثقافية التي تحمل رسائل مقاومة وتوثيق للذاكرة الفلسطينية الجماعية.
وقالت قادري: "عادة ما تتزامن أوقات الحروب مع التطورات الكبرى في الفنّ، فالفنان يصبح أكثر حريّة في تسجيل رؤيته الشخصية بعيداً عن ما تفرضه السلطة سواء دينيّا أو أمنيّا أوسياسيّا. ومعلوم أنّ اللوحات الفنية لا ولم ولن توقف الصواريخ من السقوط، والموسيقى لن تهوّن من معاناة أصحاب الأرض ولن توقف تهجيرهم وقتلهم بأبشع الصور، صورا تعرض أمام الجميع. وبالرغم من ذلك تبقى الثقافة قوة عظمى حافظة للذاكرة الجماعية رغم قتامتها منذ طوفان الأقصى".
وأوضحت قادري أن "الأعمال الفنية تأتي نتيجة تعبير فني للفنان، هي أعمال فنية بذاتها، ولا تحمل أجندة خاصة بها، حينها يصبح العمل الفني قيّما في عالم يتجاوز التواصل والتزكية بشكل مباشر. فبدلاً من رسم المعارك ومصائبها مباشرة، يبدو الأمر كما لو أن الألوان نفسها تقاتل في الحرب وتفرض نفسها بخوض المعركة ولو ضمنيّاً، فيها إخراج عميق لصورة العدوّ وصورة الضحيّة".
وترى قادري أن "الفنان والشاعر ورسّام الكاريكاتير، جميعهم ساهموا في المقاومة وفق أشكال وآليات مقاومة رأوا فيها وسيلة لصدّ الاحتلال، فأوجعت بعض الأعمال الفنية الاحتلال الإسرائيلي حتى أن صفحات تواصلهم الاجتماعية أغلقت، ولوحق آخرون، بل وقتل بعض الفنانين قتلاً رأوا فيه فناء أعمالهم لكن هيهات، فالاحتلال يجهل أن كل ما ينشره الفنّان هناك على تلك الأراضي الزكية بدماء شهدائها هو متزامن مع انتشاره بكل العالم، فقوّة السوشل ميديا فيها حفظ كبير وعميق لتلك الذاكرة الجماعية التي يطمح الغزّاويّ إلى حمايتها وحفظها جيلا بعد جيل".
الاحتلال قتل ودمر الكلّ ولا يبالي بحقوق إنسانية
وأشارت إلى أن الاحتلال الاسرائيلي قتل الكلّ، ودمّر الكلّ، ولا يبالي بحقوق إنسانية ولا بمعاهدات دولية، فهو الذي قرّر بدوره قتل الفنّان وطمس صوته وفنّه ومحتواه، لأنه الوسيلة الناجعة التي تقتله معنويّاً وتقزّمه أمام العالم.
وأوضحت قادري أن "الاحتلال كا ....