آخر الأخبار

جريدة القدس || في الذكرى العاشرة لوفاته.. سميح القاسم: حديث لم ينشر

شارك الخبر

تصرّفَ أبو عمار بحنكة عندما سحبَ مسدسه في جامعة بيت لحم  

المثقف شجاع يعرف كيف يفرض على السياسي والقائد احترامه

رفضتُ أن أقرأ قصائدي في قصرٍ عربيّ فأنا لستُ شاعر قصور

أنا شاعر الهمسة الصغيرة في أعمق أعماق الليل وأبعد أغوار الصحراء

أُحب الحياة بشغفٍ يجمع بين المنطق والعقلانية والقناعة بأننا لسنا مخلدين

الموت صديقٌ حميمٌ لا أخافه فقد مات الكثير من أحبائي

بنيتُ قبري بجوار بيتي لأُدفنَ في الموقع الذي أختاره



هل سبق لمثقف أو شاعرٍ أو فنان أن وقف هذا الموقف؟

لم يسبق هذا في الوطن العربي حسبما أعلم، ولا أريد الادّعاء بأن جبروت الحاكم هو الذي يمنع ذلك، فجبن المثقف هو الذي يمنع ذلك. وقد كتب الإعلام الإسرائيلي حينها واصفًا ما جرى بيني وبين الرئيس بأنه «مشادَّة بين الرئيس والشاعر سميح القاسم»، وحتى بعض الصحف العربية في الخارج كتبت -للأسف- أن ما جرى كان تمثيلية بيني وبين الرئيس... لم تكن مشادة ولم تكن تمثيلية، كانت مصارحة بين أخٍ وأخيه، بين مواطنٍ ورئيس، بين شاعر وقائد، مصارحة...


مصارحة أم مناكفة بين الشاعر والسياسي؟

لا، ليست مناكفة، بل كانت مصارحة دافعها الاحترام والمحبة، فقلت ما قلت وتصرف الرئيس عرفات بذكاءٍ شديد حين قدَّم مسدسه قائلًا: «إن وجدتم فيَّ اعوجاجًا فقوِّموه ليس بأقلامكم فقط، بل بهذا المسدس أيضًا». لقد التزم السياسي أمام الثقافي بضرورة احترام الإنسان والديمقراطية والتعددية. ولكن الثقافي التزم أيضًا بأن يرى الجوهر وألا يغلِّب القشور. ما دام هناك احتلالٌ واستيطان، فلن يتمكن كائنٌ من جرِّي إلى مواجهة مع السلطة الوطنية الفلسطينية، ولا مع الأخ ياسر عرفات، ولا مع مسؤول فلسطيني. حين أسمع عن أي تجاوز أتصل بالرئيس مباشرةً، فأبواب الرئيس والوزراء والمسؤولين الأمنيين مفتوحة، وهم إخوتنا وأصدقاؤنا وشركاؤنا، نستطيع أن نتحدث إليهم بجرأة، وسيحترمون جرأتنا ويتعاملون معها كما ينبغي. سبق لي أن رفضت أن أقرأ قصائدي في قصر في إحدى الدول العربية، وقلت إنني لا أقرأ شعري في القصور، وهذه واقعةٌ معروفة. وإذن فأنا أتحدث عما حدث لا عمّا ينبغي أن يحدث. لا ينبغي لي أن أتعامل مع سياسي وأنا خائف على جلدي ولا على مصلحتي، لأن المثقف الشجاع يعرف كيف يفرض على السياسي احترامه.


علمنا أنك بنيت قبرك إلى جوار بيتك، أكان هذا استحضارًا للموت أم لغرضٍ آخر؟

إن الموت في نظري صديقٌ حميم، لأن كثيرين من أحبَّائي ماتوا، بينهم الرجال والنساء والشيوخ والشباب، وربما كان السبب عملي في غرفة تشريح الموتى. أتعامل مع الموت بطريقةٍ غير مألوفة، فمن مجموعاتي الشعرية: «الموت الكبير»، و«قرآن الموت والياسمين»، و«أحبك كما يشتهي الموت» ... اكتشفت أن الموت يتكرر كثيرًا لفظًا ومعنى في قصائدي. دون أن أكون أسيرًا لأي عاطفة، وبهدوءٍ تام، أردت أن أدفن في الموقع الذي أختاره. يملك أبناء عمومتي موقعًا باهر الجمال على سفح جبل حيدر –أحد أجمل جبال بلادنا- وقدموا لي قطعةً مساحتها ثلاثة دونمات، فيها الزيتون والسنديان والخرّوب والعبهر واللوز. اخترت في هذا الموقع زاويةً، وأحضرت جرافةً مهَّدتُ بها المكان ووضعت الديكور الذي أحبه (يبتسم)، وهناك سأدفن. هو مكان يحبب الناس في الموت، والذي يسكن هناك يحب أن لا ينتقل إلى مكان آخر. مكان جميل، قطعة من جنة الوطن. وأتعامل مع هذا الموضوع –كما قلت- ببرود أعصاب، أنا لا أخاف الموت، صحيح أنني لا أحبه ولا أتعجَّله، بل أحب الحياة بشغف يجمع بين المنطق والعقلانية والقناعة التي مفادها أننا لسنا مخلَّدين، وأحب أن أطمئن إلى موقع إقامتي الدائمة بعد الترحال الطويل في ربوع الوطن وفي هذا العالم.


يقول النقاد إن قصيدتك ذات صليل وإيقاعٍ عال، ظاهرة الموسيقى، قريبة إلى الفهم. لماذا تلجأ إلى هذا الأسلوب الواضح، مع أن الشعراء غالبًا ما يستعملون الرمزية؟ هل هذا الوضوح موطن قوةٍ أم نقطة ضعف؟


هو ليس ضعفًا وليس قوة، والقلة من النقاد التي تتحدَّث بهذا الشكل لا تعرف قصيدتي. لدي أكثر من أربعة آلاف صفحة مطبوعة من الشعر، ولكنهم لا يرون من شعري إلا قصائد مثل: «سأقاوم» -التي كتبتها في العام 1965، ومنها جاءت تسمية «شاعر المقاومة» - و«أتحدى»، و«ليلى العدنية»، و«منتصب القامة أمشي»، و«تقدَّموا»... ولكن هذه القصائد ليست إلا جانبًا من تجربتي الشعرية.


هل أنت شاعر خيل وليل؟

نعم، من دون شك، لكنني أيضًا شاعر الهمسة الصغيرة في أعمق أعماق الليل، وفي أبعد أغوار الصحراء. إنهم يسمعون صهيل الخيل، وصليل اللغة، لأن المظاهرة/المسيرة الشعبية/الأغنية الوطنية اختارت هذا الجانب من قصيدتي، لكن هناك نقادٌ اكتشفوا أمورًا تتعارض مع هذا الطرح تعارضًا تامًّا. مثلًا، كتبت الناقدة الأمريكية «ديريت دي يونج» دراسةً ضخمة عن تجديد الجناس أو تحديث الجناس في شعر سميح القاسم. النقاد الأجانب يسبرون الأعماق، والنقاد الصحفيون يكتفون بقصيدة غناها مارسيل خليفة، أو قصيدة غنتها جوليا بطرس، أو قصيدة رُددت كثيرًا على شاشات التلفزيون أو في الإذاعة. نعم، أنا شاعر النبرة العالية الصعبة، أنا شاعر القصيدة الصعبة والفن الصعب، السهل الممتنع. وفي مواقف الغليان الداخلي والحزن والتأمل الذاتي، أعتقد أنني ذهبت إلى أصقاع لم تطأها قصيدة من قبل. إنها ثقافة الناقد، فالناقد المثقف يعرف أن قصيدتي لا تقتصر على هذا الجرس الذي أعتز به ولن أتخلى عنه، لأن بحور الشعر العربي في لُبِّ كياني ووجداني، وهي ثروة كبيرة، تاجٌ على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى. والذي يتقن عروض الشعر العربي لا يسميه قيدًا.

القدس المصدر: القدس
شارك الخبر

إقرأ أيضا