مرّ أكثر من عام على سقوط نظام بشار الأسد، فيما لا يزال أكثر من ألفي سجين سوري في السجون اللبنانية يرزحون تحت وطأة الانتظار خلف القضبان، مترقّبين مصيرهم في ظل مسار تفاوضي لم يُحسم بعد.
بين هؤلاء من أُوقفوا في إطار قضايا ذات خلفيات سياسية أو بسبب مشاركتهم في الثورة السورية، ليواجهوا يومياً ظروفاً إنسانية قاسية، على أمل اتخاذ خطوات رسمية قد تفتح باب الحرية أمامهم.
وبين جنائيين ومعتقلي رأي من جهة، وقوانين واتفاقيات عالقة من جهة أخرى، يعيش السجناء السوريون حالة من القلق والترقب، فيما تضغط عائلاتهم على السلطات اللبنانية والسورية للإفراج عنهم أو على الأقل تسريع البتّ بأوضاعهم القانونية، في ظل مسار تفاوضي لم يفضِ حتى الآن إلى نتائج ملموسة.
أما المستجد الأهم في الملف فيتمثل في إعلان الحكومة اللبنانية أن رئيس الجمهورية جوزاف عون وجّه العمل على صيغة قانونية تسمح بالمضي باتفاق مع سوريا لمعالجة هذا الملف. وأكد نائب رئيس الحكومة طارق متري ، في 19 ديسمبر، أن الهدف من ذلك هو “تعزيز الثقة وبناء أفضل العلاقات مع سوريا، مع إيجاد سند قانوني لترجمة هذه الإرادة السياسية وتوسيع التعاون بين البلدين”.
توجيهات رئيس الجمهورية اللبنانية جاء بعدما فشلت زيارة الوفد القضائي اللبناني إلى دمشق، في 11 ديسمبر، في التوصل إلى اتفاق قضائي ينظم آلية تسليم السجناء السوريين، نتيجة تباين في مقاربة الطرفين لبنود مشروعه.
الكاتب والمحلل السياسي يوسف دياب يشير إلى أن اللقاء الأخير “لم يتجاوز الساعة، نتيجة غضب الجانب السوري من مشروع الاتفاقية اللبنانية، الذي اعتبره مجحفاً ويحتوي على شروط قاسية”.
ويضيف دياب في حديث لموقع “الحرة” إن “مساعي إبرام اتفاقية لتسليم نحو 700 محكوم سوري تصطدم بخلافات جوهرية، إذ يرفض لبنان تسليم من ارتكبوا جرائم خطيرة، بينما تصر دمشق على استلام جميع الموقوفين والمحكومين، مع خلاف حول شرط عدم منح المُسلَّمين أيّ عفو فور عودتهم، الذي تعتبره دمشق انتقاصاً من سيادتها”.
ويؤكد دياب أن الاجتماع انتهى “دون تحديد موعد جديد، وسط حديث عن احتمال تدخل أطراف إقليمية، مع الإشارة إلى دور سعودي محتمل في المرحلة المقبلة”.
وفي أكتوبر الماضي، سلّم لبنان سوريا مسودة أولى خلال زيارة وزير العدل السوري مظهر الويس إلى بيروت، لكنها لم تلقَ قبولاً من الجانب السوري، إذ كان تنفيذها يتطلب وقتاً، وإقرارها من قبل مجلس النواب اللبناني، وفق ما أوضح متري في تصريح صحفي لاحقاً.
رغم ذلك، أكد الويس حينها خلال مؤتمر صحفي مع نظيره اللبناني عادل نصّار، إحراز تقدم في النقاشات حول الملف، موضحاً أن وجهات النظر بين البلدين متقاربة وأن الأمور تسير في إطارها القانوني الصحيح. وبدوره، أكد نصّار أن مناقشة صياغة الاتفاقية قطعت خطوات كبيرة نحو إنهاء نصها القانوني.
واليوم تنتظر بيروت من دمشق إعداد اقتراحات لتعديل مشروع الاتفاقية الثانية، على أن تُقرّ حصراً في مجلس الوزراء، وفق متري .
داخل سجن رومية، يعيش السجناء السوريون على خلفيات سياسية مفارقة لافتة. ففي وقت تُعاد فيه العلاقات الرسمية بين بيروت ودمشق، ويصافح رئيس الجمهورية اللبنانية نظيره السوري أحمد الشرع، لا يزال هؤلاء خلف القضبان بتهم تتعلق بالانتماء إلى “جبهة النصرة” التي كان الشرع يقودها سابقاً، أو بالمشاركة في الحرب في سوريا، التي تدخّل فيها حزب الله.
وقبل الثامن من ديسمبر 2024، تاريخ سقوط نظام الأسد، كان الموقوفون يرفضون أيّ حديث عن تسليمهم إلى دمشق، خوفاً من مصير مجهول. أما اليوم، وبعد تبدّل المعادلات، فقد انقلب المشهد: باتوا يحلمون بالتسليم، لا كمساجين، بل كعائدين إلى بلد شاركوا في تغيير مصيره.
الناشطة الحقوقية والمحامية ديالا شحادة أكدت أن الموقوفين أو المحكومين في سياق سياسي “معظمهم ممن قاتلوا نظام الأسد أو أوقفوا للاشتباه بأفعال أمنية”، مشيرة إلى أن “عدداً من هذه القضايا شابته خروقات جسيمة في التحقيق والمحاكمة، بينها انتزاع إفادات تحت التعذيب، ما يجعل كثيرين منهم مظلومين إجرائياً أو أبرياء”.
في المقابل تستبعد شحادة، في حديث مع موقع “الحرة”، طلب سوريا استرداد أشخاص محكومين بجرائم اغتصاب في لبنان، مؤكدة أن “هذه الجرائم لا يمكن التفاوض بشأنها، كونها ارتُكبت على الأراضي اللبنانية، وتترتب عليها حقوق شخصية وعقوبات لا يجوز إسقاطها أو تجاوزها، إلا إذا كان الفعل قد حصل داخل سوريا”.
وتشير إلى أن غالبية الملفات المطروحة تتعلق “بجرائم القتل أو محاولة القتل في سياق أحداث أمنية، مثل معارك عرسال، أو مداهمات وضبط مجموعات مسلحة”. وتوضح أن هذه الملفات “لا يمكن ببساطة الهروب منها قانونياً، بل تحتاج إلى معالجة دقيقة، تبدأ بالحقوق الشخصية وتنتهي بالتشريع”.
وفي السياق، أكد وزير العدل عادل نصّار أن الاتفاقية التي تتم مناقشتها لا تشمل المتورطين بجرائم القتل أو الاغتصاب.
سبق لمنظمات حقوقية أن دقّت ناقوس الخطر حيال أوضاع السجناء السوريين في السجون اللبنانية، ولا سيما في سجن رومية، مشيرة إلى سوء المعاملة، وطول فترات التوقيف الاحتياطي، وبطء المحاكمات، إضافة إلى الإهمال الصحي وغياب الرعاية الطبية، ما أدى إلى تفشّي أمراض ووفاة بعض السجناء.
وتميّز شحادة قانونياً بين المحكومين والموقوفين قيد المحاكمة، موضحةً أن “القانون اللبناني لا يجيز تسليم محكوم صدر بحقه حكم نهائي، إلا ضمن اتفاق يضمن تنفيذ العقوبة المتبقية، مع وجود عائق إضافي يتمثل بالحقوق الشخصية غير المسدّدة”. وتشير إلى أن دمشق “لن تبدي غالباً استعداداً لاستلام محكومين لتنفيذ أحكام لبنانية، ولا سيما تلك ذات الطابع السياسي التي تعتبرها غير عادلة، وهو ما تؤيده تقارير منظمات حقوقية ومحامين”.
أما الموقوفون قيد المحاكمة، “فيمكن تسليمهم بشروط نصّت عليها الاتفاقية القضائية، أبرزها أن يكون الجرم قد ارتُكب كلياً أو جزئياً على الأراضي السورية، وهو شرط لا ينطبق على عدد كبير من الموقوفين السوريين في لبنان”.
ويقوم الطرح السوري، كما يقول مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان، رامي عبد الرحمن، على “استعادة المواطنين السوريين المحتجزين في السجون اللبنانية، سواء لاستكمال محاكماتهم أو لتنفيذ الأحكام الصادرة بحقهم داخل سوريا”.
ويشرح عبد الرحمن، في حديث لموقع “الحرة”، أنه “في حين يتمسك الجانب اللبناني بالسيادة القضائية والهواجس الأمنية، ترى دمشق أن هذه المبررات تُستخدم لتعطيل التسليم. وبذلك يطغى البعد السياسي والأمني على الملف، مع تهميش واضح للجانب الحقوقي وضمانات المحاكمة العادلة”.
العائق الأساسي أمام حلّ هذا الملف “قانوني بحت”، كما تقول شحادة، ويتمثل “بالقوانين اللبنانية الناظمة لتسليم المطلوبين، ولا سيما قانون الاسترداد”، مشيرة إلى وجود اتفاقية تعاون قضائي بين البلدين موقّعة منذ خمسينيات القرن الماضي.
وتوضح شحادة أن تجاوز العوائق القانونية أمر ممكن “عبر التشريع، سواء بتعديل القوانين النافذة، أو إصدار قانون خاص يطبق لمرة واحدة، أو تعديل الاتفاقيات القضائية والأمنية، شرط توافر الإرادة السياسية”.
كذلك يعتبر دياب أن تعثر تسوية الملف يعود بالدرجة الأولى إلى “التعقيدات القانونية والبيروقراطية اللبنانية”، إذ لا يسمح القانون الحالي، كما يقول، “بتسليم أيّ موقوف إلى دولة أخرى دون إقرار قانون خاص، وهو أمر صعب في ظل الانقسام السياسي الراهن”.
لكن مؤيّدي تسليم السجناء السوريين يرون أن القانون يُستخدم ذريعة لتأجيل الحسم، مستندين إلى سوابق جرى فيها تجاوز الاعتبارات القانونية، أبرزها صفقة عام 2017 بين حزب الله و”جبهة النصرة”، التي أفضت إلى خروج مقاتلين ومتورّطين بقتل جنود لبنانيين من بلدة عرسال في تسوية ذات طابع سياسي ــ أمني.
وفي هذا السياق، يعزو عبد الرحمن تعثّر التوصل إلى آلية واضحة لتسليم السجناء السوريين إلى تداخل العوامل السياسية والأمنية مع القانونية، معتبراً أن “الملف يُدار بحسابات داخلية في لبنان واعتبارات أمنية تتعلق بتوصيف عدد من المعتقلين كخطرين أمنياً، أكثر مما يُنظر إليه كقضية حقوقية وإنسانية”.
ويتحدث عبد الرحمن عن “دور للنفوذ الأمني والسياسي لحزب الله في تعقيد الملف، ولا سيما أن بعض القضايا تمت في سياقات أمنية وأُحيلت إلى القضاء العسكري، ما جعلها رهينة توازنات سياسية”.
في المقابل، يرى المدير التنفيذي لـ”مركز جسور للدراسات” وائل علوان أن العوائق ناتجة عن “تداخل قانوني ــ سياسي مع غلبة للبعد القانوني، في ظل انتقال متزامن في لبنان وسوريا إلى مراحل إعادة بناء مؤسسات الدولة، ما يفسّر بطء المعالجة من دون اعتباره متعمّداً أو ناتجاً عن خلفيات سياسية”، ورغم ذلك يشير علوان، في حديث لموقع “الحرة”، إلى تأثير غير مباشر لحزب الله على الملف.
أما شحادة، فتؤكد أن الملف يُدار اليوم “في إطار سياسي مرتبط بتغيّر الواقع السوري ورغبة لبنان في إعادة ترتيب العلاقات مع دمشق”، مشددة على أن القانون يجب أن يكون في خدمة العدالة”.
من جهته يشير دياب إلى أن الانقسام اللبناني الحاد حول الملف، “بين من يطالب بتسليم نحو 2300 موقوفا ومحكوما لتخفيف الضغط عن السجون ومن يرفض ذلك دفاعاً عن سيادة القضاء، يزيد تعقيده، إضافة إلى دور حزب الله الذي يرى أن غالبية الموقوفين أوقفوا لأسباب سياسية مرتبطة بمناهضتهم له أو بانتمائهم للجيش السوري الحر”.
رغم الوقت الطويل الذي استغرقه البحث في هذا الملف من دون نتائج حاسمة، شدّد متري على أن الدولة اللبنانية لا تعتمد سياسة المماطلة. وقال، في منشور على منصة “ إكس ” إن “لبنان ملتزم حلّ المشكلة بالتفاهم مع سوريا، ونسعى جدياً لإيجاد صيغة قانونية تسمح بذلك في أقرب فرصة ممكنة، رغم كلّ التعقيدات”.
استمرار التعثر في هذا الملف سيؤدي وفق عبد الرحمن “إلى مزيد من التوتر في العلاقات اللبنانية – السورية، ويعمّق حالة انعدام الثقة بين الطرفين. كما أن بقاء آلاف السوريين في السجون اللبنانية دون حلول واضحة يزيد من الضغط الشعبي والحقوقي، ويجعل هذا الملف من أبرز العوائق أمام أي محاولة جدية لتنظيم العلاقات الثنائية”، يضيف.
فضلاً عن ذلك، يشدد عبد الرحمن على أن “تجاهل البعد الإنساني قد يحوّل القضية إلى أزمة سياسية وحقوقية مفتوحة في المرحلة المقبلة، داخل لبنان وعلى مستوى الرأي العام السوري”.
المصدر:
الحرة