آخر الأخبار

رأي.. إردام أوزان يكتب: الثقة كبنية تحتية.. دروس 2025 وتصميم 2026

شارك
مصدر الصورة Credit: Gettyimages

هذا المقال بقلم الدبلوماسي التركي إردام أوزان، سفير أنقرة السابق لدى الأردن، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN .

أتقن الشرق الأوسط إدارة القوة عبر الردع، والاستراتيجيات العسكرية، ودبلوماسية الممرّات، والتفاوض التكتيكي، والتحالفات القائمة على الصفقات. لكن عام 2025 كشف شيئاً أبسط وأعمق، إذ تحت كل هذه “الآلات” ينقصنا الأساس الذي يجعل أي نظام قابلاً للحياة. ينقصنا الثقة، لا كعاطفة، بل كـثقة مؤسسية تجعل الاتفاق التزاماً، وتحوّل الإطار إلى بنية ثابتة لا تنهار مع أول اختبار .

هذه هي المفارقة ونحن ندخل 2026. كثيرون يريدون “نظاماً أمنياً جديداً” في الشرق الأوسط، لكن قلّة تؤمن أن الآخرين سيلتزمون عندما تهدأ الضجة الإعلامية. القوة موجودة، لكن قابلية التنبؤ بآثارها صعبة. تُعلن مبادرات ثم تختفي، تُوقَّع هدنات، تُرصد أموال، تُنشأ لجان… ومع ذلك يبقى التقدّم المستدام استثناءً. كأن المنطقة تبني كل شيء فوق أرض رخوة .

ففي 2025 لم تغيّرنا حادثة واحدة، بل ظهر نمط يتكرر بأدواته من ردع بلا اطمئنان، وتحالفات بلا يقين، واتفاقات بلا إنفاذ فعلي. وصارت الهدنات “استراحات تكتيكية”، وبقيت آليات المراقبة على الورق. وصحيح أنه تُطلق ضمانات، لكنها تُضعف تدريجياً بصمت. وكل طرف يتصرف وكأن الآخرين يلتفون على النظام، أو يراهنون على تصعيد لاحق، أو يستعدون لتحوّل سياسي قادم .

المنافسة بين إسرائيل وإيران أبرزت ذلك بوضوح، فضعف نفوذ وكلاء إيران في بعض الساحات كان مؤثراً جداً، لكن قلة اعتقدت أن هذا الضعف سيستمر. وفي المقابل، تبدّلت “ الخطوط الحمراء” الإسرائيلية كثيراً حتى صار تفسيرها صعباً حتى على الحلفاء. وفي بلاد الشام، غيّرت التحولات السياسية في سوريا ملامح الإقليم، لكن أحداً لم يثق بالنظام الجديد بما يكفي ليراهن عليه باستثمارات كبيرة. وحتى الولايات المتحدة—وسيط الأزمات التقليدي—بدت أقل قدرة على تقديم ضمانات ثابتة عبر الإدارات المتعاقبة فكانت تمنع الانفجار، لكنها لم تضمن الاستقرار .

ولم ينتهِ 2025 بهدوء حتى في أسبوعه الأخير. فقد أظهر حادث طيران مفاجئ في تركيا كيف يمكن لواقعة واحدة أن تتحول سريعاً إلى ساحة صراع على المعنى، وشائعات، ورسائل، وروايات متنافسة. لأن عندما تكون الثقة هشّة، لا تبقى الأحداث معزولة، وتصبح مادة للمزايدة والضغط. والغموض يتحول إلى أداة سياسية. وفي منطقة يقوم أمنها على ضبط التصعيد، فإن هذا الغموض لا يربك الناس فقط، بل يغيّر الحسابات الاستراتيجية أيضاً. لذلك فالثقة ليست قيمة أخلاقية فحسب؛ إنها بنية تحتية. الأزمات ستقع دائماً، لكن الأنظمة المتماسكة تمنع الأزمات من أن تتحول تلقائياً إلى وقود للشك .

الاقتصاد بدوره قال الشيء نفسه بلغة أخرى. لم يتراجع المستثمرون بسبب نقص الفرص، بل بسبب عدم اليقين. أعلنت صناديق سيادية خليجية شراكات كبيرة، لكن مشاريع كثيرة تعثرت وسط لوائح غير واضحة وتطبيق متبدّل. تقدّمت مسارات إصلاح، لكن الخدمات بقيت بطيئة. استمر الحديث عن التنويع، لكن المصداقية لم تواكب الوعود. وحين تكون الحوكمة معتمة، تصبح الثقة مكلفة .

حتى دبلوماسية الطاقة، التي كان يُفترض أن تجمع دخلتها الشكوك. خطوط الأنابيب والربط الكهربائي بدت أحياناً أدوات نفوذ أكثر من كونها مصالح مشتركة. دول توقّع اتفاقات مشاركة، ثم تبني مسارات بديلة تحسباً لانكفاء الشريك. ووُعدت أموال لإعمار سوريا وغزة مراراً، لكن التنفيذ كان متقطعاً. المانحون يخشون المخاطر الأمنية، وواشنطن تؤيد “من حيث المبدأ” لكنها تتردد في الالتزام دون ضمانات لا يستطيع أحد توفيرها بثبات، وغالباً ما تجاوزت الإعلانات ما تحقق فعلاً .

ومع الوقت، تحوّل عجز الثقة إلى ضعف جيوسياسي. وعندما يشك اللاعبون الإقليميون في نوايا بعضهم، تتسع مساحة تدخل القوى الخارجية في رسم القواعد والتوقيتات. وتقبل دولٌ نصائح الخارج لا لأنها تثق بالخارج، بل لأنها تثق ببعضها أقل .

إذا كان 2025 قد كشف حدود “إدارة الأزمات”، فقد يكون 2026 فرصة لـ " التصميم". ليس المطلوب انسجاماً مثالياً، بل قدر من التوقع المنظم، وأن تتحول التوقفات إلى التزامات، وأن تُدار المنافسة بقواعد قابلة للقياس والتحقق. بمعنى آخر، أن نتعامل مع الثقة كأنها بنية تُبنى بآليات وحوافز وشفافية، لا بخطابات فقط .

أجندة عملية لـ2026 يمكن أن تبدأ من الهدنات: نعم، الهدنة تنقذ أرواحاً، لكنها وحدها لا تبني نظاماً. الأهم هو ربطها بترتيبات تحقق واضحة، وضمانات محددة، ومسارات إعادة إعمار مرتبطة بالامتثال. لأنه عندما تصبح الالتزامات قابلة للقياس، يصعب التلاعب بتفسيرها .

الركيزة الثانية هي حوار إقليمي مؤسسي. دول الخليج وتركيا ومصر وإيران لا تحتاج أن تتفق وجدانياً كي تتعاون في الأساسيات، لكنها تحتاج قنوات ثابتة لا تنهار مع كل أزمة أو تغيير قيادة. تفاهمات حول إدارة الردع، والإشارات في لحظات التصعيد، والعمليات السيبرانية، وسلوك الوكلاء، كل ذلك يقلل الارتجال. لأن الارتجال يولّد سوء تقدير، وسوء التقدير ينسف الثقة .

الركيزة الثالثة: حوكمة اقتصادية موثوقة. الشفافية والإصلاح الواسع ليسا ترفاً تنموياً؛ إنهما شرط أمن. لا تتوسع الثقة في أنظمة تتبدل فيها القواعد ويُطبَّق القانون بانتقائية. المستثمر يحتاج توقعاً بقدر ما يحتاج طموحاً .

الركيزة الرابعة: تنسيق الطاقة. ترابط الشبكات والممرات في المنطقة يجعل “الحكم عبر الضغط” غير كافٍ. نحتاج لمعايير مشتركة، وآليات تسوية نزاعات، وحماية أقوى للمشاريع العابرة للحدود، كلها تخفف الخشية من تحويل البنية التحتية إلى سلاح. ويصبح الإعمار ممكناً أكثر حين يُربط بتعهدات أمنية قابلة للتحقق وبقواعد قابلة للإنفاذ .

وأخيراً: إعادة ضبط دور الخارج. عندما تتأرجح سياسة واشنطن بين التدخل المفرط والإرهاق، يتضاعف عدم اليقين. يمكن للولايات المتحدة أن تبقى مؤثرة إذا انتقلت من إدارة أزمات متقطعة إلى دعم أطر مسؤولية مشتركة تمنع عودة الأزمات بأشكال جديدة .

لا أحد يستطيع أن يَعِد بالاستقرار. لكن هذا المسار يخرجنا من دائرةٍ صارت مألوفة: قوة وفيرة، وثقة شحيحة. مرة أخرى لقد كشف 2025 أن الضعف الأعمق ليس نقص النفوذ، بل نقص الثقة. الردع جمّد الصراعات دون حلّها. التحالفات أرسلت إشارات اصطفاف دون التزام. الإصلاحات وعدت بتحوّل، لكنها كثيراً ما انتهت إلى هشاشة .

في 2026 نحتاج رؤية مختلفة، أن تصبح الثقة أساساً استراتيجياً، والقاعدة التي يقوم عليها أي بناء. إذ أن المفارقة واضحة، المنطقة بارعة في إدارة التهديدات، لكن مستقبلها يتوقف على تعلّم إدارة التوقعات وبناء قواعد تجعل السلوك قابلاً للتنبؤ .

عندها فقط يمكن أن يولد نظام أمني جديد. وعندها فقط تنتقل المنطقة من “استراحات تكتيكية” إلى استقرار استراتيجي.

سي ان ان المصدر: سي ان ان
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا