في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
باريس- لم يعد الصراع حول الحرب على قطاع غزة محصورا في الميدان أو في أروقة السياسة، بل تمدّد بوضوح ليصل إلى قلب المنظومة القضائية الدولية، ففي منتصف ديسمبر/كانون الأول الجاري، أدرجت واشنطن القاضيين في المحكمة الجنائية الدولية الجورجي غوتشا لوردكيبانيدزه، والمنغولي إردينيبالسورين دامدين، على قائمة العقوبات الأميركية.
وبفرض هذه العقوبات الجديدة، تكون الولايات المتحدة قد انتقلت خطوة أبعد من الاعتراض السياسي إلى ممارسة ضغط مباشر على القضاة أنفسهم، في سابقة تعيد طرح سؤال جوهري: إلى أي حد يمكن للعدالة الدولية الاستمرار في عملها حين تصطدم بضغوط القوى الكبرى؟
ولعلّ ما لم يُخفَ بين سطور القرار الأميركي هو أن القاضيين كانا جزءا من الهيئة التي رفضت اعتراضات إسرائيلية، هدفت للطعن باختصاص المحكمة أو تعليق مسار التحقيق.
وبمعنى أدق، لم تُفرض العقوبات لأن القاضيين خالفا القانون الدولي ، بل لأنهما لم يستجيبا للضغوط القانونية الإسرائيلية، وسمحا للمسار القضائي بالاستمرار، ليتحول القاضي في هذه الحالة من فاعل قانوني مستقل إلى هدف سياسي، ويصبح القرار القضائي نفسه سببا للعقاب.
يرى عضو الفريق القانوني عبد المجيد مراري أن "العقوبات فاقدة لكل شرعية قانونية" وأن القضاة أصبحوا يُحاكمون بمنطق السياسة لا بمنطق القانون، بتهمة أدائهم واجبهم الأخلاقي كقضاة داخل المحكمة واتباعهم مبادئ القانون الدولي، خاصة نظام روما ، وقانون الإجراءات الداخلية للمحكمة، و اتفاقية جنيف ، وقواعد القانون الدولي الإنساني .
ووفق التبرير الأميركي الرسمي، فإن القاضيين "شاركا بإجراءات قضائية تستهدف مواطنين من دولة غير عضو في المحكمة"، في إشارة صريحة إلى إسرائيل، وهو ما اعتبره مراري تبريرا "يدفع إلى السخرية"، لأن واشنطن قالت إن القاضيَين ساهما أو صوّتا لصالح قرار يضر ببعض الحلفاء أو بمواطنين أميركيين.
وأوضح للجزيرة نت أن هذا القرار يخصّ "رفض الطعون التي تقدمت بها إسرائيل لإسقاط مذكرات الاعتقال بشأن الاختصاص والإخطار"، ولذا، "لم يأتِ هذا القرار بوصفه إجراء تقنيا أو قانونيا بحتا، بل جاء محمّلا برسائل سياسية واضحة، تتصل مباشرة بملف التحقيقات الجارية حول الحرب الإسرائيلية على غزة" حسب قوله.
وأكد أن العقوبات لن تؤثر على مسار ملف غزة في المحكمة، "بدليل أن الغرفة الاستئنافية أيدت -الاثنين الماضي- قرار الغرفة التمهيدية الأولى، الرافض للطعن الذي تقدمت به إسرائيل في مسألتي الاختصاص والإخطار"، معتبرا أن "هذه الخطوة تؤكد مدى استماتة المحكمة وقضاتها في الدفاع عن العدالة".
ولا يمكن فصل هذه العقوبات عن مسار بدأ سابقا، حين وقّعت الإدارة الأميركية أمرا تنفيذيا يتيح معاقبة مسؤولين في الجنائية الدولية، لتتوسع القائمة بشكل تدريجي وتشمل مدعين وقضاة وموظفين كبارا، إلى أن بلغ عدد المشمولين بالإجراءات الأميركية 11 شخصا.
ويشير المحامي في القانون الجنائي من بلجيكا عيسى غولتاسلار، إلى أن أولى العقوبات التي فُرضت تدريجيا بدأت عام 2020، واستندت فيها أميركا على مرسوم رئاسي يشكل الأساس الذي تُعاقِب بموجبه دولا معينة تعتبرها "مارقة"، مما يؤدي إلى نوع من المساواة بين قضاة الجنائية الدولية الذين يؤدون واجبهم، وبين دول تُعد إجرامية.
ووصف غولتاسلار -وهو عضو أيضا في الفريق القانوني- في حديث للجزيرة نت، العقوبات بـ"الإجراءات القسرية" ضد الجنائية الدولية، وأنها تهدف لعرقلة عملها وتقويض مصداقيتها، والتشكيك في المبدأ الأساسي لمكافحة الإفلات من العقاب، فضلا عن تجريم عمل المحكمة والقضاة أنفسهم بشكل مباشر.
وأضاف "يُمارس ضغط على الجنائية الدولية لتحييد الخصوم أو الأشخاص الذين يُصوَّرون أعداء، ولكن على العكس من ذلك، عندما يتعلق الأمر بالحلفاء، فإنها تُطبِّق بشكل منهجي نفس المعايير المزدوجة".
وأعلنت إدارة ترامب أن العقوبات ستطال ليس فقط أعضاء الجنائية الدولية وجميع من عملوا في التحقيق وإصدار مذكرات التوقيف، بل أيضا بعض المنظمات غير الحكومية، ولذلك، انسحبت بعض المنظمات غير الحكومية خوفا من الانتقام والعقوبات.
ويتفق الخبيران في القانون الدولي على أن العقوبات الأميركية تُظهر أن المحكمة تسير على الطريق الصحيح، مؤكدين أنها ستواصل عملها ولن تخضع لأي ضغوط، حتى وإن أعاق ذلك مسؤوليها عمليا واقتصاديا، إذ تؤدي العقوبات لتجميد الأصول وصعوبة استخدام أنظمة الدفع والحسابات المصرفية.
وأشار المحامي غولتاسلار إلى أن بعض الأعضاء الأميركيين في المحكمة أو أعضاء من جنسيات أخرى تلقوا تهديدات بالاعتقال إذا وصلوا أميركا أو كانوا بطريقهم إليها، ما دفع بعضهم للانسحاب أو الاستقالة.
وذكر جانبا ترهيبيا آخر لا يمكن تجاهله، قائلا إن "إجراءات تجميد الأصول، وهي إجراءات تُتخذ بحق الأشخاص المدرجين على قوائم الإرهاب أو المصنفين كإرهابيين، فهذا يعني أنه لم يعد بإمكان المعاقب الوصول إلى حساباته، أو إجراء تحويلات مالية، أو حتى استلام رواتب".
وحول ذلك، شدّد المحامي مراري على ضرورة تحمل الدول التي يحمل هؤلاء القضاة جنسياتها المسؤولية، لأن لها القدرة على ذلك، مضيفا "يجب أن تُفعّل إجراءات يسمح بها القانون الدولي لتوفير الحماية لمواطني تلك الدول والسماح لهم بكسر العقوبات المالية التي تؤثر سلبا على حياتهم الخاصة".
ومن بين هذه الإجراءات العملية، ذكر مراري -الذي يشغل أيضا مدير قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منظمة "أفدي" الدولية- إمكانية إنشاء آلية للمعاملات البنكية يستفيد منها القضاة، لخلق بدائل تسهّل عمليات السحب والحصول على الرواتب، "لأن بيانات الإدانة لن تنفع القاضي عندما يجد نفسه في أزمة مالية" حسب قوله.
ويكشف هذا التدرج في العقوبات أن الأمر لا يتعلق برد فعل ظرفي، بل بإستراتيجية ضغط ممنهجة، هدفها إضعاف قدرة المحكمة على الاستمرار في الملفات التي تعتبرها واشنطن خطا أحمر لا يمكن تجاوزه، وفي مقدمتها الملف الإسرائيلي.
وكمثال على ذلك، قال غولتاسلار، إنه "بالرغم من أن أميركا ليست عضوا في نظام روما الأساسي ولا موقعة عليه، ولا تلتزم بقواعد المحكمة الجنائية الدولية، فقد قدمت التشجيع الرمزي والسياسي والدبلوماسي لبعض الإجراءات والتحقيقات التي أجرتها المحكمة، لا سيما فيما يتعلق بروسيا ".
وتابع "الأمر المثير للسخرية هو أنه من جهة، تمت الموافقة مبدئيا على عمل الجنائية الدولية فيما يتعلق بالمواطنين الأميركيين وما قامت به أميركا ب أفغانستان ، وفي الوقت نفسه حظي عمل المحكمة بدعم وتشجيع ضمني، وتحديدا عملها الذي يستهدف سلوكيات وأفعال حركة طالبان ".
كما استنكر المتحدث غياب أي إدانة صريحة من الاتحاد الأوروبي ، الذي اكتفت بعض دوله باستخدام نفس اللغة المتحفظة ضد هجوم مباشر على مؤسسة في أراضيها هدفها مكافحة الإفلات من العقاب، وهو هدف يُقدَّم في هذه الديمقراطيات نفسها كمبدأ أساسي من مبادئ الديمقراطية.
بدوره، يعتقد المحامي مراري أن سبب العقوبات يعود إلى موقف القضاة الثابت في إنفاذ القانون، مفسّرا ذلك بالقول "عدم وجود أي بند قانوني واضح تنبني عليه هذه العقوبات يجعلها مدفوعة بالمزاجية والضحك على الذقون، بغرض تقويض مسار العدالة"، متأسفا في الوقت ذاته على رغبة أميركا في الانتصار للجناة ولمجرمي الحرب.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة