على وقع التصعيد العسكري في منطقة الكاريبي، تتجه الأنظار نحو تصريحات الرئيس الأميركي ترامب الخطيرة بشأن فنزويلا، والذي وحده يعلن قرارات الخطوة القادمة، وسط صمت غريب يلف البيت الأبيض والبنتاغون.
ورغم تسارع المستجدات التي بدأت بتحريك الآلة العسكرية الأميركية الضخمة على تخوم المياه الإقليمية الفنزويلية مؤخرا، وصولا إلى إغلاق المجال الجوي الفنزويلي وحديث عن إمهال رئيسها أسبوعا لمغادرة البلاد، تتعالى الأصوات المحذرة من إعادة سيناريو غزو العراق والإطاحة بالرئيس الراحل صدام حسين، بناء على أسباب "واهية"، والتحضير لمصير مماثل لفنزويلا.
في الحقيقة، لم تكن قرارات الرئيس الأميركي ترامب أحادية الجانب، بشأن فنزويلا محل استغراب في هذه الفترة، فالرجل لم يُخف مخططه الذي بدأه خلال فترته الرئاسية الأولى من 2017 إلى 2021، لكن يبدو أن أولويات الحرب على غزة وأوكرانيا، أجلت العودة إليه في مستهل فترته الرئاسية الحالية.
ورغم أنها جاءت متأخرة نسبيا، فإن تسارع قراراته في ملف فنزويلا، بقدر ما أثار انتقادات واسعة لأداء الرئيس ترامب، فإنه طرح التساؤل الملح عن مدى تطابق صورة الولايات المتحدة كدولة "قانون ومؤسسات" مع ما يحدث الآن؟
لم يعد من المستبعد أن التحذير اللفظي من الطرف الأميركي سيخلفه تحرك عسكري، إن لم يتم بالفعل بعد كتابة هذه السطور
فالرئيس ترامب أعلن عن قرار بحجم إغلاق المجال الجوي لدولة أجنبية، عبر تغريدة على حسابه في شبكة التواصل الاجتماعي التي يملكها، وكان قد سبق هذا القرار قرارات أخرى لا تمت إلى القانون بصلة، وعلى رأسها استبدال اسم وزارة الدفاع بوزارة الحرب، وإعلان الرئيس مادورو "رئيس عصابة مخدرات لوس سوليس" دون عرض حُجج دامغة، وتصفية أشخاص على متن مراكب في منطقة الكاريبي بحجة أنهم مهربو مخدرات، دون أي إثباتات على تورطهم في ذلك.
واستنادا إلى هذه القرارات وغيرها، يؤكد الرئيس ترامب من جديد، أُسس فهمه للقضايا الشائكة، والتي تعكس ثقافة سطحية موجهة، أوهمته بأنه مستوعب جيد للمشهد السياسي والاقتصادي والتاريخي، إلى درجة تؤهله لنيل جائزة نوبل للسلام.
وبنفس هذا المنطق، يرى ترامب، ويصرح دون حرج، أن الرئيس الفنزويلي يجب أن يتنحى عن منصبه، ويسمح للمعارضة بتولي الأمور بعده.
ووفق المستجدات الأخيرة من الجانب الأميركي، لم يعد من المستبعد أن هذا التحذير اللفظي سيخلفه تحرك عسكري، إن لم يتم بالفعل بعد كتابة هذه السطور، حيث قامت وزارة الخارجية يوم الاثنين الماضي، بتفعيل "إعلان كارتل دي لوس سوليس" كمنظمة إرهابية دولية، وهي الأداة القانونية والعسكرية التي تمنح إدارة ترامب حق نقل العمليات العسكرية من منطقة البحر الكاريبي والمحيط الهادئ إلى الأراضي الفنزويلية، في خطوة تعفيها من الحاجة لموافقة البنتاغون.
وفي الوقت الذي يرى فيه ترامب أن النظام الحالي في فنزويلا يفتقر إلى الشرعية الانتخابية، من خلال التشكيك في نزاهة الانتخابات الأخيرة، من ناحية، واتهام الرئيس مادورو بترؤُسه "كارتل دي لوس سوليس" لتجارة المخدرات التي تهدد مواطني الولايات المتحدة، وفق تصريحاته، تواجهه الآرء المعارضة بمواقفه المتناقضة تجاه بلدان أخرى.
فالرئيس ترامب، متهم في نظر منتقديه، بأن اتهام الرئيس الفنزويلي بتزعم "كارتل دي لوس سوليس"، هو مُجرد "مسرحية وهمية" من تأليف الرئيس ووزير خارجيته روبيو؛ لإيجاد مبرر مُقنع للإطاحة بخصمهما، بالإضافة إلى أن هذه العصابة غير موجودة أصلا في عالم عصابات المخدرات.
وفي الوقت الذي يقدم فيه الرئيس ترامب نفسه في صورة الزعيم المتصدر للحرب على المخدرات، تفاجأ الرأي العام اللاتيني هذا الأسبوع، وتحديدا مساء موعد الانتخابات الرئاسية في هندوراس، بتغريدة له أعلن فيها عن عفو قريب من جانبه عن رئيس هندوراس السابق خوان إيرنانداس، الذي يقبع في سجن أميركي امتثالا لعقوبة بـ45 سنة سجنا جراء تورطه في قضايا مشهورة عالميا بتهريب المخدرات من بلده نحو الولايات المتحدة، مع أفراد من أسرته.
ولم يكتفِ الرئيس ترامب بذلك، بل إنه نشر تغريدة أخرى أعرب فيها عن تشجيعه مرشح حزب إيرنانداس، نصري عصفورة (فلسطيني الأصول) ووعده بالدعم اللامشروط، ما دفع هذا الأخير إلى مبادلة التغريدة بـ"ألطف" منها، وسط توجس شعبي كبير من إمكانية فوزه، وهو الأقرب إلى التحقق.
على صعيد آخر، وفيما يتعلق بحرص ترامب على نزاهة الانتخابات في فنزويلا، وفق ما يُبديه، فإنه لم يعد يرى أي حرج في الجهر بتدخل إدارته السافر في العمليات الانتخابية في بلدان أميركا اللاتينية، بل إنه يستند في ذلك إلى جوهر "عقيدة دونرو" (التي أطلقها بنفسه كتطور لعقيدة مونرو القائلة إن "أميركا للأميركيين")، والقائمة هذه المرة على مكافأة الحكومات التي تساير واشنطن، ومعاقبة تلك التي تتحداها، مستندة إلى مزيج من القوة الاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية، بهدف ترسيخ الهيمنة الأميركية في "الجوار" لمواجهة التمدد الصيني في المنطقة.
لقد رأت صحيفة نيويورك تايمز أن هذا التوجه يمثل قطيعة واضحة مع العقود السابقة من الانخراط الأميركي التقليدي في المنطقة، إذ لم يعد الهدف تعزيز الديمقراطية أو دعم التنمية، بل فرض الهيمنة والمكاسب الجيوسياسية بشكل لا غبار عليه.
ولعل تصريح الرئيس ترامب منذ شهر عند لقائه الرئيس الأرجنتيني في البيت الأبيض، خير دليل على ذلك، حيث ذهب الرئيس الأرجنتيني في إطار محاولة للحصول على قرض يمنح بلاده الغارقة في الديون جرعة أكسجين، فما كان من الرئيس ترامب إلا أن ساوم الأرجنتينيين على الهواء، ووعدهم بقرض بقيمة 20 مليار دولار في حال صوتوا لحزب الرئيس في انتخابات العاصمة، خلال ذلك الأسبوع، وبعد أن استجابوا، تراجعت البنوك الأميركية عن الاتفاق.
ورغم أن السياق يحول دون التطرق إلى أمثلة أخرى كثيرة في المنطقة، فإن تربص الرئيس ترامب بالنظام الفنزويلي الحالي والعمل على تقويضه، لم يهدأ يوما، ولعل أغلبنا يذكر اعترافه رسميا برئيس البرلمان الفنزويلي خوان غوايدو في يناير/كانون الثاني 2019، رئيسا بالنيابة لفنزويلا، بعد إعلان البرلمان عدم شرعية مادورو، وبالتالي شغور منصب الرئيس.
وكذلك اعترافه بعد ذلك بفوز إدموندو أوروتيا على مادورو في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، ودعمه الكبير لزعيمة المعارضة والفائزة مؤخرا بجائزة نوبل للسلام.
واستنادا إلى كل هذا، يرى منتقدو الرئيس ترامب أن التهديدات الأخيرة للنظام الفنزويلي ولرئيسه تحديدا، تهدف بالأساس إلى سحب بساط الهيمنة على ثروات البلاد منهم، واستعادة الولايات المتحدة حقَ الاستفادة منها، كما كانت الأمور تُدار قبل وصول الزعيم الراحل شافيز إلى الحكم في 1999 وتأميمه القطاعات الإستراتيجية مثل النفط والكهرباء والاتصالات والمصارف، وغيرها في 2001.
وهي أطماع قد تبدو مفضوحة إذا أخذنا بعين الاعتبار تصدر فنزويلا قائمة أكبر احتياطي نفطي في العالم بـ300 مليار برميل.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
المصدر:
الجزيرة