آخر الأخبار

الخوتسبا الصهيونية.. الوقاحة كسلاح ردع!

شارك

في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي

"بالدم والنار سقطت يهودا.. بالدم والنار ستنهض يهودا"

كان هذا شعار جيش "بار جيورا" الذي تأسس في سبتمبر/أيلول 1907 على يد اليهودي الروسي يتسحاق بن تسفي، الذي سيصبح فيما بعد الرئيس الثاني لدولة إسرائيل. لاحقاً سيتحول "بار جيورا" إلى مستوطنة "هاشومير" التي تتكفل بحراسة 14 مستوطنة أخرى، قبل أن يؤسس بعض المتطوعين من "هاشومير" عصابة " الهاغانا " (الدفاع) النواة الأولى لما سيُعرف لاحقاً "بجيش الدفاع الإسرائيلي".

منذ البداية اختارت إسرائيل لنفسها "الدفاع"، بينما كان سياق ولادتها استعمارياً أي هجومياً، وهذه "وقاحة"، لكن في العقيدة اليهودية الصهيونية الأمرُ مختلف تماماً، إذ تصبح هذه "الوقاحة" سمة ثقافية، ومكونا هوياتيا، وسرا من أسرار ما يُسمى "التفوق اليهودي"، وبالعبرية تعني "الخوتسبا"، أي بالعربية: الجرأة حد الوقاحة.

اقرأ أيضا

list of 2 items
* list 1 of 2 قرى محصّنة.. كيف تشكلت العقيدة الأمنية لإسرائيل وماذا بقي منها اليوم؟
* list 2 of 2 الطريق إلى الغثائيّة.. تأريخٌ لفكرة الهوان end of list

يقول عنها أحد الحاخامات: "طالما بقيت الخوتسبا، ستظل إسرائيل قادرة على مواجهة المستحيل". هذا الربط بين القدرة على مواجهة المستحيل، والاحتفاظ بالوقاحة اليهودية، هو ما تسعى المقالة للخوض فيه، وذلك من خلال قراءة للعمليات الخاصة للجيش الإسرائيلي التي تظهر فيها روح "الخوتسبا" من حيث إتقانها وفعاليتها ورمزيتها، بنفس الوقت التي تُظهر العمليات ذاتُها "وقاحة" استثنائية، تتجاوز فيها إسرائيل القانون الدولي، والأعراف الأخلاقية والإنسانية، إلى الحد الذي تنفذ فيه إبادة جماعية بحق الفلسطينيين في غزة. وبالتالي يمكن أن توفر لنا معرفة "الخوتسبا" بنية تحتية معرفية حول السلوك الإسرائيلي الإجرامي.

كيف حول الجيش الإسرائيلي عملياته القاتلة إلى أفكار إبداعية؟

كان الفشل الاستخباراتي الإسرائيلي يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 فشلا غير مسبوق، إذ استطاعت المقاومة الفلسطينية في غزة بعد 17 عاماً من الحصار، أن تنفذ هجوما بريا وجويا وبحريا متقنا، أخرج "فرقة غزة" عن الخدمة، وأسر عددا من الجنود والمستوطنين، بهدف تنفيذ صفقات تبادل، إلى جانب برهنة أن "الجيش الذي لا يُقهر" يمكن هزيمته.

إعلان

كشف أحد الدارسين للسلوك الإسرائيلي بعد 7 أكتوبر، أن إسرائيل لم تعد تكتفي بإضعاف خصومها، بل باتت أكثر استعدادا لتوظيف القوة العسكرية من أجل تشكيل نظام جديد يحمي مصالحها الوطنية، أو "شرق أوسط جديد" يضمن تفوقها، وهي اللازمة الخاصة برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو منذ إعلانه الحرب على غزة. ولم تَعُد إسرائيل تلتزم "بالخطوط الحمراء" التي كان جيرانها يعتقدون أنها لن تتجاوزها. وبات الاستعداد المتزايد لاستخدام القوة لمنع الأعداء من تطوير قدرات تُهدّد إسرائيل، أحد الأعمدة الجوهرية في استراتيجية الأمن القومي الإسرائيلية الجديدة.

في تمام الساعة 3:30 من عصر يوم الثلاثاء 17 سبتمبر/أيلول 2024، تحولت العاصمة اللبنانية بيروت إلى مسرح لأكبر عملية استخباراتية تكنولوجية في العصر الحديث تحت إشراف الموساد الإسرائيلي، وما تزال تفاصيلها غامضة برغم كل ما كُشف حتى اللحظة. فقد تحولت أجهزة اللاسلكي إلى عبوات ناسفة مفخخة تنفجر بين الحين والآخر، وأغرقت منصات التواصل الاجتماعي بفيديوهات مريبة تظهر أناسا يتساقطون في الشوارع والمحال التجارية، بينما النار تخرج من أجسامهم.

كان الأمين العام السابق لحزب الله اللبناني حسن نصر الله ، قد دعا في وقت سابق إلى ترك الهواتف المحمولة باعتبارها أجهزة تنصت. وقد اتفق الحزب على استعمال جهاز لاسلكي "البيجرز"، لذلك سمت إسرائيل العملية "البيجرز". استغلت إسرائيل هذه الدعوة، وبدأت بقرصنة خطوط الإمداد والتصنيع لهذه الأجهزة.

وكانت الرسائل التي وصلت عناصر حزب الله عبر جهاز النداء "البيجر" إيذاناً ببدء الهجوم. كشفت صحيفة الغارديان أن شهود عيان أفادوا بأن الجهاز أصدر صفيرًا، ثم توقف للحظة، ثم انفجر، وذلك ليتيح للمستهدف وقتًا كافيًا لرفعه قريبًا من وجه صاحبه، ولهذا أبلغ الأطباء اللبنانيون عن معالجة إصابات في اليدين والعيون بعد الانفجار. لم ينته الأمر هنا، ففي اليوم التالي، انفجرت الأجهزة اللاسلكية "ووكي توكي"، لتندفع إسرائيل بكامل عنجهيتها وإجرامها، إلى جانب تغييرها لمعادلات الحروب السيبرانية.

قتلت إسرائيل 12 شخصًا وأصابت نحو 2800 آخرين في انفجارات اليوم الأول، بينما قُتل 14 آخرون في موجة ثانية من الانفجارات وقعت يوم الأربعاء عندما بدأت أجهزة "ووكي توكي" بالانفجار، كما تفيد الغارديان، التي نقلت عن محللين من المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية "أن حجم التدمير والدقة في الهجوم يوحيان بعملية معقدة استغرقت شهورًا من التحضير".

لا تُقرأ عملية "البيجر" بمعزل عن تطور وتحول مُهم حدث داخل أروقة مؤسسة الجيش الإسرائيلي، وهذا الحدث هو تسلّم أفيف كوخافي رئاسة هيئة أركان الجيش في يناير/كانون الثاني 2019، بعد مسيرة بدأها في العام 1998 كقائد للفرقة الشرقية التابعة لوحدة الارتباط في لبنان.

مصدر الصورة رئيس الأركان الإسرائيلي أفيف كوخافي (رويترز)

ولمع نجمه مع فكرته "العبور من خلال الجدران" أثناء عملية الهجوم على حي القصبة بمخيم بلاطة في نابلس، أثناء عملية " السور الواقي " في أبريل/نيسان 2002، بعدما قرر "النجم" (معنى كوخاف) أن استخدام الجنود شوارع البلدة القديمة وأزقة المخيم للتقدم؛ سيجعلهم أهدافاً سهلة لإطلاق النار والعبوات الناسفة، ولذلك أصدر أوامره بالتقدم من خلال تحويل البيوت إلى ممرات للجنود عبر شق فتحات في الجدران الجانبية والعلوية والسفلية للبيوت المتلاصقة. وكان هذا الحدث المؤسس والمكثف الذي تحول فيه كوخافي إلى "القائد المبدع".

إعلان

يكمن "الإبداع" في فكرة كوفاخي في أنه سيمكن قواته من اقتحام المنازل الفلسطينية، والوصول إلى المقاومين، دون تعرض الجيش لأي خطر، وهو ما اعتبر "تفكيراً خلاقاً" في الحروب الحديثة.

وللإبداع قصة مع العقلية الصهيونية، إذ تمثل اللحظة التي يعجز فيها العقل الصهيوني على الإبداع -خصوصاً في المجال العسكري- ما يعادل الخراب، أي نهاية وجود الشعب اليهودي. فالإبداع مسألة وجود في الجيش الإسرائيلي الذي هو حصن الدولة والمجتمع الصهيوني، كما يحكي خالد عودة الله في مقالته على "باب واد" بعنوان: "أفيف كوخافي.. أسطورة عبور الجدران والإبداع في مواجهة غزة".

بعد عام على تسلمه رئاسة هيئة الأركان عام 2019، نشر كوخافي خطته "تنوفا" التي تهدف إلى "جعل الجيش أكثر تكنولوجياً وأشدّ فتكاً". ويعتبر كوخافي أن دور الجيش لا يقتصر على توفير الأمن، بل يشمل أيضًا توفير الإحساس بالأمن.

بثت أفكار كوخافي دماء جديدة في عروق المنظومة العسكرية الإسرائيلية، وأحالت الجيش إلى منظومة قتل سريعة من خلال "مصنع الأهداف"، وهو ما يعني "إبادة". في العام 2019، أنشأ الجيش مركزاً جديداً يهدف إلى استخدام الذكاء الاصطناعي في توليد الأهداف، تصل إلى 100 هدف في اليوم، وهو ما لجأت إليه إسرائيل في حربها على غزة بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.

كشف تحقيق صحفي إسرائيلي أن الجيش لجأ في حربه على غزة " السيوف الحديدية " إلى برنامج مبني على الذكاء الاصطناعي "هبسبورا" لتوليد "أهداف تنطوي على قوة" كما يسميها الجيش الإسرائيلي. ويهدف البرنامج بشكل أساسي إلى الإضرار بالمجتمع المدني الفلسطيني لخلق صدمة من شأنها أن تقود -من بين أمور أخرى- إلى ظهور واقع جديد يقود المدنيين في غزة للضغط على حماس، وهو ما عبّر عنه أحد الضباط المتحدثين لمعدي التحقيق أن هذا "مشروع للاغتيال الجماعي".

تتموضع "الخوتسبا" بين القتل الجماعي والتوظيف التكنولوجي، فهي تعبير عن جرأة إسرائيلية على القتل "الضرر وليس الدقة" كما وصف الناطق باسم الجيش الإسرائيلي الهجمات الإسرائيلية العنيفة على غزة في اليوم الأول للحرب. وهي في الوقت نفسه، تعبير عن جرأة إسرائيلية على الابتكار والإبداع في مجال التكنولوجيا العالية "الهايتك"، إذ تعتبر إسرائيل "أمة الشركات الناشئة" (Start-UP Nation) لاحتوائها على أكبر عدد من مشاريع "الستارت آب"، إذ صنّف مؤشر الابتكار العالمي لعام 2023 إسرائيل في المرتبة 14 عالميًا والأولى في منطقتها.

ثمة علاقة شديدة الصلة بين التكنولوجيا وإسرائيل، اهتم بها المؤسس الأول للحركة الصهيونية ثيودور هرتزل، بل وافتتن بها منذ صغره، كما ورد في سيرته الذاتية. كما تمثل روايته الشهيرة "ألتنويلاند" هذا الافتتان، إذ ترى السيطرة التكنولوجية المركزية هي الشكل الأرقى للسلطة السياسية، أي أن بناة الدولة هم التكنوقراطيون أي التقنيون، وليس السياسيين. يعبّر أحد الباحثين الإسرائيليين عن تلك العلاقة بقوله: "لولا العلم والتكنولوجيا لما استطاعت إسرائيل النوم ليلاً".

شهد قطاع التكنولوجيا ازدهاراً في إسرائيل، نتج عن علاقة وثيقة بين العمل في الاستخبارات العسكرية "أمان" وتحديداً وحدة 8200، وبين الاستثمار في قطاع التكنولوجيا، إذ يتوجه الضباط الذي ينهون خدمتهم في الوحدة 8200 للاستثمار في مجال الشركات الناشئة "الستارت آب".

أصالة الوقاحة الصهيونية

صعدت الجندية السابقة في الجيش الإسرائيلي الريادية أنبار أريئيلي على مسرح "تيد إكس" ودعت إلى إدخال عقلية القوات الخاصة في الجيش الإسرائيلي إلى الشركات الابتكارية.

بعد انتهاء خدمتها في الجيش، قررت أريئيلي دخول عالم ريادة الأعمال، وأسست مركز "الخوتسبا". وفي الإجابة عن السؤال: لماذا يُعد عقل "الخوتسبا" أمراً جوهرياً في الريادة والابتكار؟ تدعي أريئيلي "أن الاعتقاد السائد أن الجيش الإسرائيلي هو السبب وراء عقلية ريادة الأعمال السائدة في البلاد؛ صحيح جزئياً، ولكن هناك العيش بعقلية الخوتسبا التي تقوم على الإبداع والمجازفة والاعتماد على النفس والعمل الجماعي".

إعلان

"الخوتسبا" (חוצפה) كلمة تعود إلى العبرية القديمة، وهي من الأصل الثلاثي "חצף" بمعنى يكشف أو يعرّي. .تترجم إلى حالة من الغطرسة الذاتية والصفاقة، أو الوقاحة الجريئة. يخبرنا الكاتب الأميركي ليو روستن في كتابه "مسرّات اللغة اليديشية"، أن "الخوتسبا" هي تلك السمة المتجسدة في رجل قتل أمه وأباه ثم طلب من المحكمة الرحمة لأنه يتيم.

يحكي الحاخام إدوارد فنشتاين في كتابه "ضرورة الخوتسبا.. تمكين اليهود من أجل حياة ذات معنى"، أن تعلم "الخوتسبا" جوهر الرسالة اليهودية، والمشروع الأبدي لليهودية، وهي كذلك إعادة تأكيد المثال التوراتي عن إمكانات الإنسان ومسؤوليته في هذه الحياة.

وتتقاطع "الخوتسبا" مع مفهوم يهودي آخر "تيكون هعولام" (إصلاح العالم)، ففي كتابه "سيرة الله" يتحدث الكاتب الأميركي جاك ميلز أن "محاكاة الله" فكرة محورية في الدين اليهودي. فاليهودي يسعى إلى بلوغ محاكاة الله في صفات أساسية كالرحمة والعدل والإحسان، وذلك في سبيل "الحفاظ على الحياة بدلاً من تدميرها"، فالإنسان مطلوب منه مدّ يده لمساعدة الآخرين حتى لو كلفه ذلك تعرض حياته للخطر. ففي التقاليد اليهودية يكسي الله العريان، ولكن من يؤمّن له الثياب؟ هنا يظهر العنصر البشري في عملية تأمين الثياب، وهو الدور المنوط باليهودية.

استدعت الصهيونية هذا الفهم اليهودي للعالم، باعتبار استعمار فلسطين واستيطانها وطرد أهلها منها، هو كذلك من صلب الدين

مصدر الصورة وزير المالية الإسرائيلي اليميني المتطرف بتسلئيل سموتريتش (وكالة الأناضول)

اليهودي، أي الجمع بين القومية والدين اليهودي، وهو الذي أنتج "الصهيونية الدينية" التي يتبنى فكرها سموتريتش، الذي يعكف ليل نهار على طرد الفلسطينيين، ووزير التراث الإسرائيلي الذي لا يكف عن الدعوة إلى إلقاء قنبلة نووية على غزة.

الخوتسبا.. استراتيجية عسكرية

في ظهر يوم الثلاثاء 9 سبتمبر/أيلول 2024، أطلقت طائرات مقاتلة إسرائيلية 10 قذائف على مبنى في العاصمة القطرية الدوحة في غضون ثوانٍ معدودة، كما أفادت وسائل إعلام إسرائيلية.

في ذلك الحين، كانت تناقش قيادة حركة حماس مقترح الرئيس الأميركي دونالد ترامب حول وقف الحرب في غزة، قبل أن تباغتهم الضربة الإسرائيلية، التي راح ضحيتها ستة شهداء، أحدهم عنصر أمن قطري. وأعلن الجيش الإسرائيلي وجهاز الأمن الداخلي "الشاباك" في بيان لهما أنه جرى تنفيذ ضربة دقيقة استهدفت قيادة حماس.

وتعتبر الدوحة "الوسيط" الذي يستضيف المفاوضات حول وقف الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وبالتالي تتواجد فيها قيادة حركة حماس، الأمر الذي أثار استهجان العالم الذي أدان الهجوم.

وخلال المؤتمر الصحفي المشترك بين رئيس الوزراء الإسرائيلي المطلوب لمحكمة العدل الدولية لارتكابه جرائم حرب وبين وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، تبنّى نتنياهو الضربة ووصفها بالقانونية، قائلًا "بعد أحداث 11 سبتمبر، أصدر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة القرار رقم 1373 الذي ينص على أنه لا يجوز إيواء أو توفير ملاذ آمن أو تمويل أو التخطيط أو السماح لمثل هذه الأعمال للإرهابيين". وأضاف أن الولايات المتحدة لاحقت تنظيم القاعدة وأسامة بن لادن، وقصفت باكستان وأفغانستان، ولم تكن هناك إدانات.

هذه الرغبة الإسرائيلية في إيهام العالم بالقدرة على قصف أي مكان وأي ملاذ يُعتقد أنه آمن، يأتي في سياق صياغة جديدة للمنظومة الردعية الإسرائيلية التي تهشمت يوم 7 أكتوبر، لذلك امتزجت الرغبة في صياغة ردع متماسك مع "الخوتسبا" اليهودية، التي تدفع بالصياغة الردعية إلى مداها الأقصى، بقصف دولة الوساطة.

لا يكف نتنياهو في أي مناسبة عن توعد إيران بالقصف، باعتبار حركة حماس ذراعا لطهران، وأن الحرب الحالية تمثل عدوانا إيرانيا. برغم ذلك، أرسل ترامب رسالة إلى المرشد الأعلى الإيراني علي خامئني للتفاوض، وعقدت الجلسة الأولى يوم 12 أبريل/نيسان 2025 في عُمان، إلا أنه بعد 5 جولات، تعثرت المفاوضات، وهو ما كان إيذاناً ببدء فصل جديد من الصراع الإسرائيلي – الإيراني.

فجر الجمعة 13 يونيو/حزيران 2025، أعلنت إسرائيل عن توجيه ضربة استباقية لإيران أسمتها " الأسد الصاعد "، أدت إلى مقتل قيادات إيرانية أبرزها: رئيس الحرس الثوري حسين سلامي، ورئيس الأركان بالقوات المسلحة، محمد باقري.

ردت حينها إيران بضربات صاروخية استهدفت العمق الإسرائيلي، ووصلت إلى مبان عسكرية وحكومية، قبل أن يعلن الرئيس الأميركي أن الاتفاق يقضي بوقف الحرب بعد 12 يوما من تبادل الضربات الصاروخية.

إعلان

أرادت إسرائيل من خلال تلك الضربات إسقاط النظام الإيراني، واستهدفت منشآت نووية إيرانية، ومباني مدنية وحكومية، ويمكننا هنا استعارة المصطلح العسكري المستخدم في غزة "أهداف تنطوي على قوة"، أي أن إسرائيل استهدفت مباني داخل العاصمة الإيرانية طهران، بهدف تأليب المجتمع الإيراني على النظام.

وذكرت وسائل إعلام أن الضربة الإسرائيلية نفذت من داخل الأراضي الإيرانية، وكانت السلطات الأمنية ألقت القبض على عدد من العملاء التابعين لهيئة الاستخبارات والمهمات الخاصة "الموساد" الذين شاركوا في توفير معلومات استخباراتية ساهمت في نجاح العملية باغتيال قيادات إيرانية.

تنتمي عملية "الأسد الصاعد" إلى سجل حافل من العمليات العسكرية الخاصة التي شارك فيها جهاز "الموساد" واعتبرت "ناجحة" لكونها حققت هدفها العسكري المتمثل في اغتيال شخصيات أو تدمير منشآت. وبدأت الهالة حول الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية وجهاز الموساد، في 4 يوليو/تموز 1976 حين تمكن عناصر من النخبة العسكرية الإسرائيلية " سيريت متكال " من استعادة طائرة إسرائيلية كانت في طريقها من تل أبيب إلى باريس، اختطفها مقاومون في صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، واقتادوها إلى مطار عنتيبي في أوغندا، قبل أن يباغتهم عناصر الوحدة باقتحام الطائرة وقتل الخاطفين واستعادة الطائرة.

شكلت حينها المعاني الرمزية للعملية ركيزة أساسية في بناء الهوية الإسرائيلية حول القوة العسكرية وممارستها، كما ساعدت في تحويل آثارها الجمالية إلى سرديات أسطورية، استُخدمت جيدًا لاستقطاب مستوطنين جدد. كما تغذّي تصوّرًا عن الجيش الإسرائيلي بأنه لا يُقهَر، حسبما يذكر الباحث عبد الجواد عمر في مقالته التحليلية عن التحولات في العمليات العسكرية الإسرائيلية، إذ يرى أن العمليات العسكرية -مثل عنتيبي- امتازت بالصدمة، مما أعطاها تلك المعاني، بينما امتازت العمليات بعد 7 أكتوبر بالرعب الذي تولده آلة القتل الصهيونية.

في عملية وصفها وزير الدفاع الإسرائيلي السابق، يوآف غالانت، بأنها واحدة من أكثر العمليات الاستثنائية التي شهدها في مسيرته العسكرية الطويلة، ووصفتها مصادر عسكرية بأنها "مشابهة لعملية عنتيبي"، بدأ الجيش -في وقت سابق لتنفيذ الهجوم- شن غارات شرق البريج وشرق دير البلح، لتشتيت المقاومين وقطع خطوط الإمداد. وفي تمام الساعة 11 من صباح السبت 8 يونيو/حزيران 2024، اقتحمت وحدة "اليمام" من الشرطة الإسرائيلية، مخيم النصيرات في خانيونس جنوبي قطاع غزة. تنكرت الوحدة في سيارة مدنية فلسطينية تحمل عائلة نازحة، قبل أن يجري اقتحام المنازل التي كانت تؤوي الأسرى الأربعة. وسميت العملية "بذور الصيف"، إلا أنه بعد مقتل أحد الضباط المشاركين جرى تغيير اسمها إلى "عملية أرنون".

مصدر الصورة صورة من الدمار لآلة الحرب الإسرائيلية في غزة (الجزيرة)

وحول قدرة الجيش الإسرائيلي على التكيف تحت نار المقاومة الفلسطينية في غزة، يحكي الباحث رفائيل ماركوس من مجموعة أبحاث التمرد في قسم دراسات الحرب بكلية كينغز لندن في المملكة المتحدة، في دراسة بعنوان "التعلّم تحت النار.. التكيّف العسكري الارتجالي لإسرائيل مع حرب أنفاق حماس"، أن الفضل في هذا التكيف يعود إلى الثقافة التنظيمية المنفتحة والديناميكية لدى الجيش الإسرائيلي وعقليته العملية المنجزة، التي شجعت -تاريخياً- التعلم في الصراع ومكنت من التكيف الفعال. وعزز أسلوب قيادة الجيش اللامركزي الذي يركز على استقلالية جنوده على الأرض (قيادة المهمة)؛ قدرته على التعلم.

وبفضل الميل إلى الحلول العملية والتعلم أثناء التنفيذ، بنى الجيش الإسرائيلي قبل الحرب أيضاً نظام تدريب مبتكرا يؤكد على المرونة وكيفية التعامل بفعالية مع مفاجآت ساحة المعركة والرد عليها. لقد مكنت الثقافة العسكرية الإسرائيلية وعقلية "المنجز" الجيش من تحمل المخاطر العملياتية، وهو ما أفضى إلى التجريب والارتجال من قبل الوحدات البرية في غزة، دون خوف من العقاب على الفشل.

يمكن فهم "المنجز" الذي يجري الحديث عنه في الأوساط البحثية الاستراتيجية المهتمة في الجيش الإسرائيلي، على أنه تعبير عن شيء لا يمكن اكتسابه، بل هو "جيني" وراثي، متأصل في الوجدان اليهودي، ألا وهو الجرأة اليهودية الوقحة. لكن هذا التميز المنظور له بعين الإعجاب عالمياً، يأتي على حساب دماء آلاف الفلسطينيين.

برغم كون "عملية أرنون" مثالا على قدرات الجيش الإسرائيلي المذهلة، والاستعراض البهلواني لقواته، فإن هذا "الإبداع" جاء على حساب مقتل أكثر من 220 فلسطينيا. هذه العقلية التي يمتزج فيها الإجرام مع "الإبداع" والجرأة، لديها الأرضية الثقافية لتنفيذ مجزرة وإبادة جماعية بحق جماعة ما.

يُعد كتاب "انهض واقتل أولاً" للصحفي الإسرائيلي والجندي السابق في الجيش الإسرائيلي رونين بيرغمان نموذجًا فاقعًا على الوقاحة الإسرائيلية. حيث يحتوي على السجل الحافل بالقتل لدولة الاحتلال، والرغبة في المحو والإبادة، من خلال عمليات الاغتيال والتدمير، واستباحة عواصم العالم، ويؤشر على ثنائية "الإبداع" والإتقان العسكري للمهام، والإجرام. ولعل هذا المنسوب من القتل المصاحب للعمليات العسكرية "الإبداعية" تزايد منذ 7 أكتوبر، ومنها عملية اغتيال الأمين العام لحزب الله اللبناني حسن نصر الله يوم الجمعة 27 سبتمبر/أيلول 2024، حيث شنت طائرات إف-15 الإسرائيلية 10 غارات بفارق ثانية بين كل منها، ألقت قنابل بوزن 1000 كلغ، على مبنى مقر الحزب في الضاحية الجنوبية لبيروت، بعد عملية استخباراتية معقدة استطاعت إسرائيل من خلالها معرفة مكان وجود نصر الله تحت الأرض.

مصدر الصورة أمين عام حزب الله حسن نصر الله (الجزيرة)

الاحتفاء بالقدرات الاستخباراتية للجيش الإسرائيلي، لم يُشر إلى حصيلة العملية التي أدت إلى تدمير 6 مبان بشكل كلي. وبحسب وسائل إعلام، فإن وزارة الصحة اللبنانية أعلنت عن مقتل 33 قتيلاً وإصابة أكثر من 190 آخرين، جراء عملية الاغتيال وعمليات القصف التي تلتها. وسمت إسرائيل عمليتها تلك "عملية النظام الجديد".

ارتبطت "الخوتسبا" بالإحالة إلى "الإبداع"، أي الإتيان بالجديد، لذلك التصقت المفردة والمفهوم بازدهار القطاع التكنولوجي في إسرائيل، وأنها الإجابة عن السر الكامن في "أمة الشركات الناشئة". ونريد هنا القول، إن ذات العقلية الابتكارية في مجال التكنولوجيا تسري في عقلية الجيش الإسرائيلي، فأمة الشركات الناشئة هي ذاتها التي تمتلك الجيش الأشد فتكاً، إلا أنه يجري عمداً صرف "الخوتسبا" عن مجالات العمل العسكري، رغم متانة العلاقة بين القطاع التكنولوجي والاستخبارات العسكرية، أي أن الجرأة الابتكارية المفضية إلى الإبداع التكنولوجي، يجري استيرادها من العقلية الاستخباراتية، لذلك تصبح حيلة فصل "الخوتسبا" عن عمليات القتل والإبادة التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي، بمثابة "وقاحة".

الردع بالوقاحة

منذ "حرب الأيام الستة" عام 1967، بنى المجتمع والإعلام والجيش الإسرائيلي سردية "الجيش الذي لا يُقهر" بعد هزيمته للجيوش العربية (المصري والسوري والأردني) خلال 6 أيام. وكانت العمليات العسكرية والحروب التالية تعزيزا لتلك الهالة، رغم الهزائم التي تعرضت لها إسرائيل وجيشها، سواء في "حرب الغفران" عام 1973، أو "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، إلا أنها تستطيع أن تعيد إلى الأذهان سردية "الجيش الذي لا يُقهر".

بعد كل هزيمة أو كسر معادلة ردع تقوم بها أيٌّ من حركات المقاومة ضد إسرائيل، تكشف لنا عن سعي حثيث لتصميم معادلة ردعية جديدة، يكون جوهرها التسليم بأن الجيش الإسرائيلي لا يُقهر.

يكشف لنا هذا السعي الإسرائيلي الحثيث عما هو متأصل في وجدان العقلية العسكرية والمجتمع كذلك، فالعلاقة بين الجيش والمجتمع متداخلة، يكمّل كل منهما الآخر. فالعنجهية والإجرام، وقتل الأطفال والنساء وتدمير المباني وقصف دول الوساطة، واستباحة سيادة الدول الأخرى، كلها ليس طارئة، بمعنى أن هناك أرضية وبنية تحتية لكل تلك السلوكيات. بهذا المعنى، الإبادة ليست حالة استثنائية على إسرائيل، إلى جانب كونها متأصلة ببنيتها كمشروع استعماري استيطاني، فهي مكون أساسي هوياتي في عقلية الفرد والمجتمع اليهودي كذلك.

"الجرأة اليهودية حدَّ الوقاحة" أو "الخوتسبا" هي فعلياً تعبير عن رؤية صهيونية لهذا العالم، فهي كما يُعرّفها أحد الرياديين في خطابه عن التفكير الإبداعي "أن ترفض أن تكون محاطاً بحدود وهمية". هذا الفهم للوقاحة اليهودية، هدفه الدفع باتجاه التفكير خارج الصندوق، والإتيان بالإبداع، باعتبار أن جسر الوصول إلى هذا التفكير الإبداعي يبدأ بتعلمك "الخوتسبا" التي يربطها الجميع بالثقافة اليهودية.

فلا حرج إذن في استدعاء هذا الإرث "الثقافي" الديني اليهودي للوقاحة الجريئة؛ لوصف مشاهد التفنن في القتل والتدمير والإبادة في بث حي ومباشر أمام العالم، وفي القرن 21 بعد أن بنى العالم كل هذه المؤسسات التي تحول دون تكرار الإبادة الجماعية بحق جماعة ما.

فوق كل هذا، يدون جنود الاحتلال الإسرائيلي عبر فيديوهات على منصات التواصل الاجتماعي، لحظات تدمير المباني والمنشآت في غزة، ويعتبر أحدهم -مثلا- أن هذا الدمار هدية لحبيبته. لا يمكن فهم هذا السلوك دون فهم حقيقة كون الصهيوني يعتبر فرادته كامنةً في وقاحته.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا