في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
في بلدة بوسانسكي شاماتس على ضفاف نهري البوسنة والسافا، وفي بيت متواضع تَحفّه الذاكرة بالحياة والعائلة والمرض والكتاب، ولد علي عزت بيغوفيتش. لم تدم طفولته هناك طويلًا؛ إذ انتقلت الأسرة إلى سراييفو وهو في الثانية من عمره، وهناك سيتفتح وعيه الأول على معاني الإيمان والشك، وعلى التداخل بين ضعف الجسد وقوة الروح.
ترك مرضُ والده العميق في الحرب العالمية الأولى أثرًا بالغًا في وجدانه، جعله منذ الصغر شاهدًا على هشاشة الحياة وعمق المسؤولية الإنسانية تجاه الآخر، خاصة حين رأى أمه -المرأة التقية المصلّية- ترعى والده المقعد بصبرٍ وإيمان. من هذا المشهد الباكر وُلدت لديه أول تأملاته في معنى الواجب والرحمة، وهما معنيان سيلازمان فلسفته لاحقًا.
كانت السنوات الأولى في سراييفو زمنَ تنوعٍ وتداخلٍ ديني وقومي كثيف، شهد فيه كيف كانت القرية البوسنية الصغيرة تجمع المسلمين والمسيحيين الأرثوذكس والكاثوليك في وئامٍ ريفي طبيعي، قبل أن تفسد السياسة ذلك الانسجام.
في قرية أزيتشي، التي كانت مسرح طفولته الصيفية، تعلّم بيغوفيتش أن التعدد ممكن، وأن التعايش فطرة، قبل أن يدرك لاحقًا أن الطائفية والقومية تُصنع في مكاتب السلطة لا في القرى والحقول.
كان ينتمي إلى أقلية مسلمة، في وسط مجتمع متنوّع في القوميات تسكنه التوجّسات، عايش الصراعات اليومية بين الجماعات المختلفة، فعزز ذلك شعوره بالمسؤولية تجاه مجتمعه. وقد لاحظ بعض النقاد المحليين أن هذه التجربة المبكرة التي مرّ بها الرجل، صنعت لديه حسًا عاليًا بالوعي الجماعي والمسؤولية الأخلاقية، لكنها في الوقت نفسه أتاحت له إدراك تعقيدات السياسة والمجتمع قبل أن يدخل عالم السياسة الفعلية.
علي عزت بيغوفيتش ليس مجرد سياسي أو مفكر منفصل عن مجتمعه، بل رجلٌ يحمل في شخصيته انعكاسات تاريخ شعبه، رجل يجعل من الفكر أداة للفعل، ومن الفعل تجسيدًا للمبادئ. خرج من الحرب ليس باعتباره زعيما منتصرا أو فيلسوفا مهزوما، بل كإنسان كامل التجربة.
جسّد في حياته تلك الوحدة النادرة بين الفكر والفعل، بين القلم والسيف، بين الإيمان والسياسة. وربّما لهذا كتب أحد تلامذته بعد رحيله: "لقد كان علي عزت آخرَ من حارب من أجل فكرة، وآخرَ من كتب وهو ينزف".
لقد علّمنا أنّ الكرامة لا تُنال بالانتقام، وأنّ القوة التي لا تُقيّدها الأخلاق تُصبح شكلاً من الضعف. علّمنا أنّ النصر الأجمل هو أن نخرج من المعركة دون أن نخسر أنفسنا. في إحدى زياراته لسراييفو بعد الحرب، وصف الرئيس الفرنسي جاك شيراك علي عزت بيغوفيتش بأنه "رجل أوروبا الشرقية الذي ذكّرنا بأن القيم لا تموت حتى في قلب المجازر.. لم يكن مجرد رئيس، بل كان صوت الضمير في البلقان".
خلال مراهقته، بدأ الشك يساور إيمانه الأول. انفتح على الكتب الماركسية والدعايات الشيوعية التي كانت تجتاح يوغسلافيا عشية الحرب العالمية الثانية . قرأ عنها بشغف، وتأمل فكرة العدالة الاجتماعية ومشكلة الشر. كان يسأل: هل الله حقًا في صفّ المظلومين؟ أم أنه -كما يقول الشيوعيون زورا- في صف الأقوياء؟
غير أن شكوكه لم تدم طويلاً؛ فكما سيكتب لاحقًا، كان ذلك الشك هو البوابة إلى إيمان أعمق وأرسخ، لم يعد موروثًا عاطفيًا، بل تجربة فكرية وجودية خاضها بنفسه. ومن هنا بدأ يتبلور ما سيسمّيه في كتبه اللاحقة "الإيمان الواعي"، أي الإيمان الذي يمرّ عبر العقل لا ضده.
في تلك المرحلة، انفتحت أمامه عوالم الفلسفة الأوروبية؛ قرأ كانت وبرغسون وشبنغلر، وتوقف طويلًا عند فكرة التطور الخلاق، وهي حوار نقدي مع نظرية دارون، ومع نظرية برهان العقل الخالص. وفي وسط كل ذلك، ظلّ يبحث عن حلقة الوصل بين الفكر الغربي الحديث والروح الإسلامية، بين فلسفة الحرية والعدالة ومفهوم المسؤولية أمام الله. هنا بدأت تتشكل بذور مشروعه الفكري لاحقًا في عقده الفريد وزبدة فكره: "الإسلام بين الشرق والغرب".
في خضم الحرب العالمية الثانية، تخرج علي عزت بيغوفيتش من الثانوية عام 1943، في وقت كانت يوغسلافيا تموج فيه بالانقسامات. رفض الالتحاق بالجيش "الأوستاشي" الكرواتي الموالي للنازية، فصار هاربًا من التجنيد ومتخفيًا عن السلطات، متنقلًا بين سراييفو وبوسافينا. مثلت تلك التجربة درسًا مبكرًا في معنى الحرية الفردية والتمرد الأخلاقي على السلطة الظالمة، وهو ما سيصير لاحقًا سمة فكرية في فلسفته السياسية.
بعد الحرب، ومع صعود النظام الشيوعي بقيادة الرئيس تيتو، انخرط بيغوفيتش في حركة "الشبان المسلمون" التي كانت تجسد جيلًا جديدًا من الوعي الإسلامي، يسعى لبعث الفكر الديني من داخل العصر لا من خارجه. كانت الحركة تميل إلى تجديد الفكر الديني وتحريره من سلطة "الخواجات" التقليديين، وإلى تقديم الإسلام كقوة فكرية ومجتمعية في مواجهة الفاشية والشيوعية معًا.
لكن هذا الوعي الجديد كان كافيًا ليُدخل بيغوفيتش السجن للمرة الأولى عام 1946، حيث قضى 3 سنوات مع الأشغال الشاقة. وفي السجن، تشكلت بدايات فكره الفلسفي العميق.. هناك، بين الجدران الرمادية. لم يخرج من السجن منكسرًا بل أكثر رسوخًا، وكأنه بدأ يكتب مشروعه الفكري داخل ذاته قبل أن يخطّه على الورق.
بعد خروجه، حاول دراسة الهندسة الزراعية ثم تحوّل إلى القانون، إذ ظلّ يرى في القانون الإطار الذي يربط العدالة بالأخلاق، والعقل بالإيمان. أما على المستوى الوجودي، فقد شعر دائمًا أنه عاش عصرين مختلفين: عصر اليقين الثابت الذي مثله العالم النّيوتني، وعصر النسبية الذي دشّنه آينشتاين.
بعد خروجه من السجن الأول عام 1949، كان علي عزت بيغوفيتش شابًا في سن 24، خرج من الزنازين بثقة جديدة في الله والإنسان. لم يعد الإيمان بالنسبة له موروثًا عائليًا، بل تجربة وجودية دفع ثمنها باهظًا. لم يكن الرجلَ الثائر على النظام الشيوعي بقدر ما كان ثائرًا على فكرة الاستبداد في كل أشكاله، سواء جاءت من يمين أو يسار، من سلطة الحزب أو من جمود المؤسسة الدينية.
اختار أن يعيش حياة هادئة نسبيًا بعيدًا عن الأضواء السياسية. التحق بكلية الحقوق في جامعة سراييفو، وهناك بدأ يطوّر أدواته الفكرية وينغمس في دراسة الفلسفة والقانون المقارن، وخصوصًا فلسفة الدولة الحديثة وحقوق الإنسان . كان القانون بالنسبة له أكثر من مهنة، بل نظامًا أخلاقيًا لتنظيم الحرية. اشتغل بعد التخرج في عدد من المؤسسات القانونية، لكنه لم يتخلّ أبدًا عن مشروعه الفكري الداخلي، فظل يكتب في الخفاء، يسجل ملاحظاته، ويعيد قراءة التراثين الإسلامي والغربي بعين المقارنة والتجديد.
تزوج من خالدة، المرأة الهادئة التي ستشاركه صبره الطويل، وأنجب منها 3 أولاد: ليلى وصابينا وباقر. في البيت كان زوجًا متواضعًا وأبًا قريبًا من أولاده، يجلس معهم للحوار والقراءة، وكثيرًا ما روى لهم تأملاته في السجن وفي الحياة. لم يكن يريد لهم أن يحملوا مرارة تجربته، بل أن يحملوا وعيها فقط.
في الخمسينيات والستينيات أيام فتوته، كانت يوغسلافيا التعددية التي بناها جوزيف بروز تيتو تعيش مفارقة فريدة: انفتاحا نسبيا على الغرب مع احتفاظ النظام بقبضته الحديدية على الفكر الحر. في هذا المناخ، كتب عزت بيغوفيتش أولى مقالاته الفلسفية حول الإسلام كمنظور حضاري شامل، داعيًا إلى إعادة قراءة الدين في ضوء الإنسان الحديث. لذلك اصطدم مجددًا مع السلطة الفكرية والسياسية معًا.
بدأ صوته يزعج النظام، وفي عام 1983 ألقت السلطات اليوغسلافية القبض عليه ضمن ما عُرف "بمحاكمة المفكرين المسلمين"، واتهمته مع مجموعة من المثقفين "بمحاولة إحياء القومية الإسلامية". التهمة التي وُجهت له كانت فكرية أكثر منها سياسية، وحُكم عليه بالسجن 14 عامًا. وهناك، في زنزانة سجن زينيتسا، كتب كتابه الشهير "هروبي إلى الحرية"، الكتاب الذي يجمع تأملاته في السجن حول الزمن والموت والضمير والوجود والعدالة.
في تلك السنوات المظلمة، صار السجن بالنسبة له مختبرًا للعقل والروح معًا. كتب في يومياته: "السجن لا يصنع الأبطال، لكنه يكشف معدن الإنسان. هناك فقط تعرف من أنت حقًا، بعيدًا عن المظاهر وعن الخوف". هكذا تحوّل علي عزت بيغوفيتش في السجن إلى رمزٍ للمثقف المؤمن الذي لا يساوم على حريته الداخلية، فصار اسمه يتردد بين الطلبة والمفكرين في سراييفو ومدن بوسنوية أخرى مثل توزلا وموستار.
لم يكن السجن مجرد عقوبة جسدية، بل فرصة لصقل الوعي واختبار الأفكار عمليًا. خلف الجدران، واجه بيغوفيتش ضغوطًا جسدية ونفسية، غير أنه حوّلها إلى فرصة لإعادة قراءة التاريخ والفكر الإسلامي، والتأمل في موقع البوسنة في شبكة القوى العالمية، "الجدران من حولي لم تمنع العقل من التحليق، ولم تُطفئ شعلة الحرية التي تولد في قلب الإنسان".
مثلت محاكمته الشهيرة في سراييفو عام 1983 مرحلة فاصلة في حياته، حيث فجّرت بعدًا جديدًا لشخصيته الفكرية والسياسية. لم تكن محاكمة سراييفو مجرد جلسة قضائية وحسب، بل مواجهة رمزية بين الدولة والفكر، وبين السلطة والمبادئ الأخلاقية أيضا. في قاعة المحكمة، استخدم بيغوفيتش الحجّة القانونية والفكرية في آن واحد، مؤكدًا أن الدفاع عن الهوية الدينية والثقافية ليس جريمة، وأن التفكير النقدي لا يمكن اعتباره تهديدًا سياسيًا: "لا يمكن لأمة أن تبقى حية إذا فقدت الحق في التفكير بحرية، فالفكر هو الدرع الأول ضد الظلم والعبودية". كتب أحد المعلقين الغربيين على المحاكمة: "قد يكون عزت بيغوفيتش في قاعة المحكمة، لكنه ليس مجرد متّهم؛ إنه رجل يحوّل القيود إلى منصّة للفكر، والصمت إلى خطاب أخلاقي".
مع انهيار يوغسلافيا في نهاية الثمانينيات، وجد بيغوفيتش نفسه مدعوًا للعب دور تاريخي لم يكن يسعى إليه. أسّس عام 1990 حزب العمل الديمقراطي (SDA)، وهو حزب مدني ذو مرجعية إسلامية، رفع شعار "الدين للإنسان، والسياسة للمجتمع"، داعيًا إلى دولة مدنية تعددية تحترم الأديان والقوميات. في انتخابات 1990، فاز الحزب بأغلبية كبيرة، ليصبح بيغوفيتش أول رئيس لجمهورية البوسنة والهرسك المستقلة بعد تفكك يوغسلافيا.
لكن رياح القومية والصراع لم ترحم مشروعه، ففي أبريل/نيسان 1992 بدأت الحرب العدوانية على البوسنة، وقد كانت واحدة من أبشع المآسي في أوروبا الحديثة. وجد علي عزت بيغوفيتش نفسه على رأس دولة ناشئة محاصرة، بلا جيش نظامي ولا دعم دولي حقيقي. ومع ذلك قاد شعبه بثباتٍ أخلاقي نادر، وظلّ يردّد: "قد نُجبر على الحرب، لكننا لن نُجبر على الكراهية". كان يرفض أن تتحول المقاومة إلى انتقام، أو أن يصبح الإسلام شعارًا سياسيًا فقط.
لم يكن بيغوفيتش فيلسوفًا يراقب المأساة من بعيد، بل صار جزءًا من التاريخ الذي طالما تأمّله. حمل عبءَ الدفاع عن أمّة جريحة، وواجه عدوًّا يجيد القتل أكثر ممّا يجيد الفهم. ومع ذلك، ظلّ في قلب المأساة يدعو إلى الأخلاق، فهو من قال في إحدى خطبه وسط الركام: "لسنا نقاتل لأننا نكنّ كرها لمن اختاروا أن يكونوا أعداءنا، بل لأننا نريد أن نعيش بكرامة". تلخّص هذه العبارة فلسفته في الحياة وهي تحويل الألم إلى وسيلة لإعادة اكتشاف المعنى.
كانت تجربة رئاسته للبوسنة والهرسك خلال حرب 1992-1995 المختبر الأصعب لتلك الفلسفة. فقد وجد نفسه -كأوّل رئيس- على رأس دولة ناشئة تحاصرها جيوش تفوقها عتادًا وعددًا، بينما المجتمع الدولي بدا متواطئًا، أو عاجزا على الأقلّ. كان ضميرًا يقود جيشًا.. كان يؤمن أن جيش البوسنة يجب أن يختلف عن خصومه ليس في العتاد وحسب، بل في الأخلاق أيضا، فرفض فكرة الانتقام، واعتبر أنّ الانتصار الذي يُبنى على الكراهية يحمل بذور هزيمته في ذاته.
هذا في حين تكشف شهادات الجنود البوسنيين الذين قاتلوا تحت رايته بُعدًا آخر: فقد كانوا يرون فيه "أبًا روحيًا" أكثر من كونه قائدًا عسكريًا، إذ كان يزور الجبهات ويجلس إلى الشباب في الخنادق، يخاطبهم بلغة الدين حينًا، وبمنطق الحرية حينًا آخر، ويردد على مسامع جنوده أن "الحرب العادلة لا تبرر الظلم، وأننا حين نحارب، علينا أن نحافظ على الإنسان الذي يسكن في دواخلنا". وهكذا صار جيشه مدرسة أخلاقية أكثر منه آلة حرب، يقاتل دفاعًا عن الوجود دون أن يفقد المعنى الإنساني للقتال.
ولعل ذلك أجمل ما ميّز فلسفته في ادارة الصراع، وهو قدرته على تحويل الجرح إلى وعي، إذ لم يسمح للألم بأن يتحوّل إلى حقد، بل جعله مادةً للفكر والتسامي. كان يردّد مقولته الشهيرة: "الألم مدرسة الإنسان الكبرى". ومن رحم ذلك الألم وُلدت عنده فكرة الدولة التي لا تُبنى على الانتصار العسكري فحسب، بل على المصالحة الأخلاقية. أراد للبوسنة أن تكون أخلاقًا قائمة في هيئة وطن، وليس وطنًا مجرّدًا من الأخلاق.
في مفاوضات دايتون، حيث كانت الكلمات أخطر من الرصاص، أثبت علي عزت بيغوفيتش أن الفيلسوف قد يكون أبرع من الجنرال في إدارة الصراع. لم يتحدث هناك بلسان المنتصر أو المهزوم، بل بلسان الإنسان الذي يريد العدالة قبل السلام، والكرامة قبل التنازل. كان يعرف أنّ بعض المعارك لا تُكسبُ على الورق، ولكنها تُربح في الضمير. قال مخاطبًا خصومه في إحدى الجلسات: "يمكنكم أن تقسّموا الأرض، لكن لا يمكنكم أن تقسّموا الحقيقة".. تلك الحقيقة التي ظلّ يحملها حتى بعد توقيع المعاهدة، لأنّه أدرك أنّ بناء الدولة لا يبدأ من الخرائط، بل من بناء الإنسان المؤمن بالعدل.
عرّضته مواقفه في الحرب والسلام لانتقادات واسعة ليس من خصومه فقط، بل حتى من داخل المعسكر البوسني نفسه. فقد اعتبر بعض المثقفين البوشناق أنّ بيغوفيتش قدّم تنازلات مفرطة في مفاوضات دايتون عام 1995، وأنه قبل بترتيبات قسّمت البلاد على أسس إثنية، متنازلاً عن حلم الدولة المدنية الجامعة. يذكر الكاتب البوسني إيفو كومشيتش، أحد المقربين منه في المفاوضات، أن بيغوفيتش كان يقول: "العدل ليس دائمًا ممكنًا، لكن علينا أن نختار أقل الظلم".
وهذه المقاربة تعكس براغماتيته، لكنها تكشف أيضًا إدراكه العميق لمحدودية السياسة أمام موازين القوى. مع انتهاء الحرب العدوانية على البوسنة والهرسك وتثبيت اتفاق دايتون، لم ينتهِ الدور الذي لعبه علي عزت بيغوڤيتش، فقد تحول إرثه السياسي والفكري إلى مادة تستدعي نقاشا مستمرّا بين الأجيال الجديدة، بين من يراه رمزًا للحرية والتعددية، وبين من يعتقد أنّه ترك خلفه إرثًا معقدًا، يُمكن توظيفه لتحقيق أهداف سياسية متنوعة.
في البوسنة، أصبحت مؤسسته الفكرية، مؤسسة علي عزت بيغوفيتش، مركزًا لتعليم القيم المدنية والديمقراطية، ومرجعًا للباحثين الشباب الذين يدرسون كيفية الجمع بين الهوية الدينية والانفتاح الحداثي. يقول أحد الشباب الذين درسوا نصوصه: "لقد علّمنا أن الحرية لا تُحفظ بالقوانين وحدها، بل بالوعي الأخلاقي والقدرة على الحوار". وفي البوسنة أيضا، يُنظر إلى بيغوفيتش كأبٍ مؤسس للدولة الحديثة، رجل استطاع في ظروف استثنائية أن يجمع بين الحفاظ على الهوية الوطنية والتعددية الدينية، "إن الأمة لا تُبنى بالحديد وحده، بل بالوعي والقيم والقدرة على الحوار".
يذكر أحد معاصريه من المثقفين البوسنيين أنّ علي عزت بيغوفيتش "كان يعيش في اليوم الواحد حياتين: حياة رجل يُجالس الكتب ويخاطب الفلسفة، وحياة زعيم يُجالس الجنرالات ويخاطب الأمم المتحدة". في هذا التناقض الظاهري، تكمن قوة بيغوفيتش، لكنه يمثّل أيضًا مثار جدل لا ينتهي. فمن جهة، أضفى الرّجل على السياسة طابعًا أخلاقيًا نادرًا في زمن الحرب والتطهير العرقي ، ومن جهة أخرى اتُهم من خصومه، خاصة الصرب والكروات، بأن خطابه الحقوقي والأخلاقي لم يكن إلا واجهة لإعادة إنتاج مشروع قومي بوسني-إسلامي، وأنه "رجل دولة استخدم الدين لتبرير السلطة".
ظلّ بيغوفيتش رئيسًا لمجلس الرئاسة حتى عام 2000، حين قرر أن يتنحى طوعًا بسبب تدهور صحته. في سنواته الأخيرة عاد إلى التأمل والكتابة، محاولًا أن يستعيد صمته الأول بعد ضجيج السياسة. قال في إحدى مقابلاته الأخيرة قبيل وفاته: "لقد كنتُ رجل فكر اضطرّ إلى أن يكون رجل سياسة، وعندما انتهت المعركة، عدت إلى مكاني الطبيعي: التأمل في معنى الإنسان".
لم يكن علي عزت بيغوفيتش يفصل بين الإيمان والعمل، بين الفكرة والواقع، بين الحلم والمصير. في زمنٍ تهاوت فيه الشعارات الكبرى وتلوّنت الأيديولوجيات بألوان المصالح، وقف الرجل كصوتٍ نادرٍ يذكّر بأنّ الإسلام ليس مشروعًا سياسيًا ولا منظومة عقائدية جامدة، بل رؤية كونية تُعيد ترتيب العلاقة بين الله والإنسان والعالم.
كان فيلسوفًا من طرازٍ خاص، لا يُشبه المفكرين الإسلاميين الذين اكتفوا بالتنظير، ولم يشبه الساسة الذين ذابوا في البراغماتية. لم يكن يرى في الإسلام نظامًا للسلطة، بل دعوة لتحرير الإنسان من كل سلطةٍ تُفسد كرامته، سواء أكانت سلطة الاستبداد، أو سلطة المال، أو سلطة الشهوة.. "إنّ الحرية هي الإمكانية الأخلاقية للإنسان، أي أنها ليست مجرّد حق، بل مسؤولية".
في كتابه "الإسلام بين الشرق والغرب"، رسم بيغوفيتش معالم مشروع فكري يربط بين السماء والأرض دون أن يُذيب أحدهما في الآخر. الشرق عنده رمز للروح، والغرب رمز للعقل، والإسلام هو ذلك الجسر الذي يُوازن بينهما. ومن هنا كانت فلسفته الأخلاقية تتجاوز الصراع الجغرافي أو الثقافي، لتصبح فلسفة إنسانية شاملة تحاول إنقاذ الإنسان الحديث من اغترابه في عالمٍ ماديّ فقد روحه. فكما كتب في إحدى تأملاته: "لقد خسر الإنسان المعاصر روحه في سبيل المادة، ثم خسر المادة لأنّه فقد روحه". بهذا المعنى، يمكن القول إنّ فلسفته الأخلاقية كانت ثورة هادئة على الفكر السياسي الإسلامي السائد الذي انشغل بالشكل ونسي الجوهر.
أما إذا نظرنا إليه في مرآة الفكر الإسلامي المعاصر، سنجده امتدادًا طبيعيًا لذلك الخط الذي بدأه المفكرون الإصلاحيون الكبار -من محمد عبده إلى مالك بن نبي- ولكن بصياغة جديدة تنبع من تجربة الحرب لا من مقاعد الدرس. فقد أضاف إلى الفكر الإسلامي بعدًا وجوديًا لم يكن حاضرًا بوضوح من قبل: البعد الذي ينظر إلى الأخلاق لا على أنها مجرّد فضيلة، بل سلاح روحي يُقاتل به الإنسان من أجل أن يبقى حرًا. كان يقول: "إنّ المسلم الحقيقي لا يمكن أن يكون عبدًا لأحد، لأنّه عبدٌ لله وحده". وهذه الجملة تكثّف فلسفته في التحرّر؛ بمعنى أنّ الإيمان ليس قيدًا، بل هو الشرط الأول للحرية.
لقد أدرك بيغوفيتش أنّ أزمة المسلمين ليست في الدين، بل في غياب الوعي الأخلاقي بالدين. ولذلك دعا إلى بعثٍ روحيّ يُعيد للإيمان منطقه الإنساني، ويجعل من الأخلاق جوهر السياسة لا زينتَها الخارجية.
وفي هذا المعنى كتب عبارته بالغة الدلالة: "لا نحتاج إلى مزيدٍ من المسلمين، بل إلى مزيدٍ من الإسلام في المسلمين". كأنّه كان يرى أنّ الطريق إلى النهضة لا يمرّ عبر الشعارات الدينية، بل عبر تحويل الدين إلى منظومة أخلاقية تُنتج إنسانًا مسؤولًا، وحرًّا، ومبدعًا.
لم يخشَ الحوار مع الغرب، بل دعا إليه باعتباره امتحانًا أخلاقيًا للحضارتين معًا. لم يكن يرى في الغرب خصمًا، بل مرآةً نحتاج أن نرى فيها أنفسنا، حيث قال: "الغرب قويّ لأنّه يعتمد على العمل، ونحن ضعفاء لأننا نسينا أنّ العمل عبادة". كان ضميرًا عالميًا خرج من رحم المأساة البوسنية ليُخاطب إنسان هذا العصر بلغة الأخلاق.
يبقى علي عزت بيغوفيتش شخصية محورية ليس فقط في تاريخ البوسنة الحديث، بل في مسار منطقة البلقان برمتها. فقد أسس نموذجًا فريدًا للقيادة يمزج بين العقلانية والتجربة العملية، وبين القيم والمصالح الواقعية.
على الصعيد السياسي، ترك بيغوفيتش بصمة لا تمحى في بناء الدولة البوسنية الحديثة. فخلال الحرب وبعدها، أظهر قدرة نادرة على الموازنة بين مصالح الجماعات الثلاث الكبرى: البوشناق والصرب والكروات. كان توافقه مع اتفاق دايتون مثالًا على الحكمة والبراغماتية الأخلاقية، إذ حافظ على وحدة الدولة الناشئة مع احترام تعددية المكونات، وبذلك منع تفكك البوسنة وترك إرثًا من التوازن المؤسسي ما زال يؤثر في هيكل الدولة حتى اليوم.
من جهة أخرى، كان لأفكاره ومؤلفاته أثر طويل الأمد في الوعي الاجتماعي والثقافي للبوشناق. فمشروعه الفكري الذي جمع بين الحداثة الإسلامية والحوار مع الغرب، غرس في أجيال لاحقة قيم الاحترام المتبادل والالتزام الأخلاقي في ممارسة السياسة. وهكذا، أصبح بيغوفيتش رمزًا للقدرة على الدمج بين الهوية الدينية والانفتاح الفكري، وهو إرث ينعكس في المدارس والجامعات وفي النقاشات العامة حتى اليوم.
على الصعيد الإقليمي والدولي، جسدت سياسات بيغوفيتش رؤية دولة مستقلة ذات قرار سيادي، قادرة على الحوار مع القوى الكبرى دون الانزلاق تحت ضغط الهيمنة الخارجية. لقد أثبتت تعاملاته مع واشنطن وبروكسل وأنقرة ودول إسلامية، خلال أصعب مراحل الحرب، أن البوسنة يمكن أن تكون دولة تعددية وقادرة على الوجود في النظام الدولي مع الحفاظ على هويتها الخاصة.
ولا يقل الأثر الرمزي والفلسفي أهميةً عن السياسي، إذ أصبح بيغوفيتش مرجعًا للأجيال الجديدة في البلقان وأوروبا، ليس فقط كزعيم فقط، بل كفيلسوف سياسي وأخلاقي أيضا، يضع حدودًا واضحة بين الحق والباطل، وبين السلطة والخضوع للأيديولوجيات الضاغطة. هذا الإرث يشكل نموذجًا للتفكير السياسي الذي يتجاوز الانقسامات العرقية والدينية، ويؤكد أن الدولة الحديثة يمكن أن تبنى على القانون والمؤسسات، لا على الهيمنة أو القمع.
في النهاية، يظهر أثر علي عزت بيغوفيتش في البلقان المعاصر بوضوح في الفلسفة السياسية والبنية المؤسسية ووعي المجتمع المدني. لقد جسد نموذج الزعيم الذي لا يفصل بين الفكر والفعل، بين الأخلاق والسياسة، وبين الإنسان والمواطن. هنا يبرز سؤال مركزي: هل يمكن للعالم أن يرى تجربة الزعيم الفيلسوف والمناضل الأخلاقي علي عزت بيغوفيتش في عالم تَحولت فيه السياسة إلى متاجرة بالأخلاق والنضال إلى ضياع بوصلة الحق؟
قد يجيب البعض أن الظروف المعاصرة مختلفة تمامًا، وأن التجربة الفريدة، علي عزت بيغوفيتش، لا يمكن تكرارها، لكنها مع ذلك تقدم درسًا خالدًا للأجيال القادمة، ليس في تكرار شخصيته، بل في استلهام قيمه ومبادئه القائمة على استخدام السلطة لخدمة الحق والإنسانية، وعلى المحافظة على الأخلاق حتى في أصعب الظروف، وعلى تأكيد أن النضال السياسي يمكن أن يكون مستندًا إلى فلسفة واضحة ومعايير أخلاقية ثابتة.
تبدأ رحلة علي عزت بيغوفيتش الفكرية في فضاء البوسنة متعددة القوميات والديانات، حيث وجدت شخصيةُ الإنسان والمجتمع والحاجة إلى وعي متجدد، أرضًا خصبة للنقد والتأمل. كان أول إنتاج فكري له "البيان الإسلامي" بمثابة بوابة تأسيسية لإدراكه حقوق الأمة الإسلامية في البوسنة، ودورها في مجتمع متعدد الأعراق والديانات.
ركّز الكتاب على مفهوم الحرية كمبدأ مركزي، وضرورة أن يكون الإسلام قوة أخلاقية وفكرية قادرة على مواجهة التحديات الحديثة، دون الانغماس في الأيديولوجيات الضيقة.. "الحرية الفكرية والدينية ليست ترفًا، بل شرط لبقاء الأمة وكرامتها". في هذا البيان، يلمس القارئ ازدواجية بيغوفيتش الجوهرية: بين الوعي الأخلاقي والفلسفي، وبين الحس السياسي الضروري للبقاء في بيئة مضطربة.
هنا، بدأت تظهر مقومات مشروعه الفكري المستقبلي؛ ألا وهو ربط الأخلاق بالسياسة، وتحليل المجتمع الإسلامي من الداخل، مع عدم التنازل عن القيم الأساسية. وقد أثار هذا العمل جدلاً واسعًا: في الأوساط البوسنية، احتُفي به كمرجع للوعي الوطني والفكري، بينما اعتبره البعض غطاءً لمشروع قومي، أو خطوة نحو توظيف الدين في السياسة.
بعد ذلك، جاء كتابه "عوائق النهضة الإسلامية"، الذي يمثل نقدًا داخليًا صارمًا للمجتمع الإسلامي، وسعيًا لفهم الأسباب الجوهرية للتخلف أو الجمود. تناول فيه مواضيع عدة: الجمود الفكري، والتفرقة الطائفية، وضعف الوعي الوطني، والتحديات الموروثة من الاستعمار الفكري والتاريخي. فقد كتب: "لن تنهض الأمة إلا عندما تدرك أن النهضة تبدأ من الداخل، من وعينا بما نحن عليه، وليس من التقليد الأعمى أو التبعية الفكرية".
كان هذا العمل بمثابة دعوة للتغيير الذاتي والاجتماعي، وقد أثار الكتاب جدلاً واسعًا. فبينما اعتبره أنصاره محاولة صادقة لإعادة بناء الوعي الإسلامي بطريقة حديثة، رأى فيه آخرون مدخلًا محتملًا لتوظيف الدين في تعزيز مشروع سياسي محدد. هنا تظهر بالفعل الازدواجية النقدية في تلقي فكره، والتي ستستمر في جميع إنتاجاته اللاحقة.
ثم جاءت مذكراته "هروبي إلى الحرية"، حيث اتخذ بيغوفيتش من السجن مختبرًا للفكر والتجربة الإنسانية. كانت هذه المذكرات تمثل بُعدًا فلسفيًا ووجوديًا عميقًا، إذ كتب عن تجربة الإنسان في مواجهة القيد والظلم، وعن معنى الحرية الأخلاقية، حيث يقول: "الحرية لا تُمنح، بل تُستحق، وتُكتسب بالصبر، وبالوعي العميق بما يعنيه أن تكون إنسانًا".
في كتابه "عوائق النهضة الإسلامية" يقف علي عزت بيغوفيتش في موقع الوسيط بين الحلم والفعل، بين المبدأ والواقع. ففيه يظهر كمن يواجه ذاته قبل أن يواجه العالم؛ إذ لم يكتب هذا النص ليؤسس يوتوبيا جديدة أو ليكتفي بالتنظير، بل كتبه بروح من يعرف أن النهضة لا تتحقق بالخطابات، بل بمواجهة صريحة للعقبات التي تثقل كاهل الأمة.
في هذا العمل، قدّم بيغوفيتش تشخيصًا دقيقًا يكاد يكون أقرب إلى تقرير طبي لجسد حضاري أنهكته قرون من التراجع، ولكنه جسد لم يفقد حيويته تمامًا. فهو يقف عند مكامن الضعف: التقليد الأعمى والجمود الفقهي وغياب الحرية السياسية وضعف مؤسسات التربية والتعليم والعجز عن الانفتاح على روح العصر، دون الوقوع في الاستلاب. إن هذه "العوائق" لا تُقدَّم كأعداء خارجية فقط، بل أيضا، بوصفها ألغامًا زرعها المسلمون في مسيرتهم بأنفسهم، فصارت العثرة الكبرى أمام كل مشروع نهضوي.
ولعل ما يميّز هذا الكتاب هو أن بيغوفيتش لم يتبنَّ خطاب المظلومية، ولم يركن إلى نظرية المؤامرة التي تبرّر الفشل. بل على العكس من ذلك، صاغ كتابه على هيئة نقد ذاتي شجاع، بلغة قاسية أحيانًا، لكنها تنبع من حب حقيقي للإسلام كحضارة ورسالة، ومن رغبة صادقة في إعادة بعثه كقوة روحية وأخلاقية في العالم. ففي كل صفحة نجد حوارًا داخليًا بين الأنا الجماعية الإسلامية وبين متطلبات النهضة، حوارًا يتأرجح بين جلد الذات والتحفيز على الانبعاث.
لقد كان عزت بيغوفيتش في "عوائق النهضة الإسلامية" واضحًا في دعوته إلى إعادة بناء الفكر الإسلامي على أساس العقلانية. لم يَرَ النهضة مجرّد عودة شكلية إلى الماضي، ولا مجرد اندماج ذائب في الغرب، بل سعى لرسم طريق ثالث، يستمد جذوره من الإسلام الأصيل، وينفتح في الوقت نفسه على منجزات الإنسانية الحديثة.
من هنا، يمكن القول إن هذا الكتاب يمثل صلة الوصل بين تنظيره المبكر في "البيان الإسلامي" وبين أفقه الفلسفي الواسع في "الإسلام بين الشرق والغرب". لذلك فإن "عوائق النهضة الإسلامية" ليس مجرد كتاب في النقد الاجتماعي أو الفقه السياسي، بل هو شهادة مثقف منخرط في معركة الوجود، رجل عاش تجربة السجن والمطاردة والحرب، وخرج ليقول بجرأة إن النهضة تبدأ من الداخل قبل أن تكتمل في الخارج، وإن كل مشروع سياسي أو حضاري لن ينجح ما لم يواجه بصدقٍ العوائق التي تكبّل الإرادة وتستنزف الروح.
ثم يصل القارئ أخيرًا إلى "الإسلام بين الشرق والغرب" الذي يمثل نضوجًا فكريًا شاملاً، وجمعًا متقنًا لكل ما سبقه من كتابات. هنا، يقدم عزت بيغوفيتش رؤية فلسفية واجتماعية وسياسية متكاملة: فهم الإنسان المزدوج والحرية والأخلاق والدين والحداثة، وكيف يمكن للإسلام أن يكون قوة بناءة في مجتمع حديث متعدد الأعراق والأديان، حيث كتب: "الإسلام الحقيقي ليس عقبة أمام التقدم، بل هو منهج يوجه التقدم ليخدم الإنسان لا العكس".
في هذا النص، تتضح خصوصية التجربة البوسنية: الهوية الدينية المتشابكة بالبعد القومي، والتعددية الثقافية، والتحديات السياسية المحيطة. وقد انعكس ذلك على تلقي الجمهور للكتاب؛ ففي البوسنة، اعتُبر مرجعًا للوعي الوطني والفكري، بينما اعتبره بعض المفكرين الصرب والكروات محاولة لتوظيف الدين في مشروع سياسي محدد.
أما باقي النقاد والمعجبين، فقد توزعت آراؤهم بوضوح: رأى فيه المعجبون والمثقفون البوشناق جسرًا بين الفكر الحديث والهويّة الدينية، ونموذجًا للإسلام الحداثي القادر على الحوار مع الغرب دون فقدان الهوية. أما الخصوم والنقاد الصرب والكروات فقد اعتبروا فلسفته أداة تبريرية لمشروع سياسي قومي، في حين لاحظ كثير من السياسيين الدوليين أن كتاباته توفر إطارًا أخلاقيًا لتفسير سلوك الدولة البوسنية في مرحلة الحرب وما بعدها.
لم يكن علي عزت بيغوفيتش مجرد زعيم إقليمي، بل مرآة عكست تناقضات العالم في التسعينيات. فقد مثّل، بالنسبة لكلينتون وهولبروك، اختبارًا لأميركا بين القيم والمصالح، وبالنسبة لشيراك وأوروبا، كان صوتًا يكشف عجزهم الأخلاقي. وبالنسبة للأمم المتحدة وأمينها العام آنذاك كوفي عنان، كان جرحًا في الضمير الأممي. وحتى في عين الكنيسة الكاثوليكية، تجلى كرجل إيمان وصمود.
أما في الشرق الإسلامي فأصبح شاهدًا على إمكانية الجمع بين الإسلام والحداثة، بين الهوية والديمقراطية، بين المقاومة والإنسانية. وصية عزت بيغوفيتش لأردوغان ، وإعجاب المفكرين العرب، وتشبيه قادة آسيا له بمحمد إقبال أو مالك بن نبي، كلها تكشف أن أثره لم يكن محصورًا في البلقان، بل ممتدًا إلى فضاء أوسع يبحث عن نماذج تجمع بين الأخلاق والسياسة.
صار عزت بيغوفيتش رمزًا يتجاوز حدود البوسنة، لأنه جمع بين ما يفتقده كثير من الزعماء: فلسفة واضحة، وإيمان بالقيم، وصمود في وجه المأساة. ولعل شهادات القادة العالميين لم تكن مجرد كلمات في بروتوكولات التأبين، بل اعترافًا بأن هذا الرجل، القادم من بلد صغير محاصر، استطاع أن يضع نفسه في مصاف القادة الكبار الذين غيّروا صورة العالم.
وفي هذا السياق، يقول الفيلسوف الفرنسي أوليفييه روا: "عزت بيغوفيتش يمثل حالة نادرة في التاريخ الحديث، حيث الفيلسوف يصبح زعيمًا، والزعيم يصبح فيلسوفًا، دون أن يفقد أحدهما الآخر".
هكذا إذن، يظلّ الجدل حول شخصية وإرث علي عزت بيغوفيتش مفتوحًا للتأويل والتفسير في الداخل البلقاني كما في باقي بقاع الأرض. ففي البوسنة، يُستشهد بأفكاره لتعزيز الحوار بين الأجيال، بينما في بلغراد وزغرب، تظل صورة الرجل محط جدل ونقد مستمريْن. أما في شهادات زعماء العالم وقادته فقد رأينا إشادات وتقديرا قلّما حظي بهما زعيم مسلم.
يوضّح هذا الانقسام أن تجربة بيغوفيتش كانت دائمًا تجربة معقدة، تحتل مساحة بين المثالية الأخلاقية والبراغماتية السياسية، وأن إرثه لن يُفهم بالكامل إلا بفهم تفاعله مع السياق المحلي والدولي، ومع التحديات الواقعية التي واجهها.
في نهاية المطاف، يمكن القول إن علي عزت بيغوفيتش المتصالح مثّل تجربة متكاملة من الفكر إلى الممارسة، ومن الحرية الفردية إلى الدولة الحديثة، ومن الأخلاق إلى السياسة الواقعية. لقد ترك إرثًا لا يمكن اختزاله في جانب واحد، فهو الفيلسوف المواطن والسياسي تحت الحصار، الذي حاول أن يوازن بين المثالية الأخلاقية ومتطلبات البقاء السياسي. يبقى إرثه، كما قال هو نفسه: "كل جيل يقرؤني بحسب حاجته، وكل تجربة تعيد تشكيل فهمه لي".
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة